نفثة مصدور

د. أكرم علي حمدان

[email protected]

لنا ...

دول كبيرة منكوبة، جياعٌ أهلُها، وَسِخةٌ طرقاتُها، فقيرةٌ أحياؤها، مصروفٌ خيرُها لثلّة من ألعَن خلق الله، قطفت ثمرةَ تضحياتِ شعوبها، والتهمت بالباطل خيراتِ بلادها، فيها سلطةٌ جائرة، وحكومة عاهرة، لا همّ لها إلا أن يظلّ الحكم بأيديها، لا يبرحُها ولا ينزاح، يرعاها رئيسٌ مات الحياء في وجهه، وتحجر بين جوانحه قلبه، بلغ من العمر عتيّا، قضى في الحكم عشرين عامًا أو أكثر، بل قل ثلاثين أو أزيد، أو حتى قد تجاوز الأربعين، ثم هو يطمعُ أن يزيد، أو يورثَ التركة لابنه من بعده أو أخيه، بعد أن ورثها بدوره من عمه أو أبيه، في بلد يقال إنه جمهوري أو جماهيري، ونظام يزعم أنه ديمقراطيٌّ انتخابيّ، اللهُ أكبرُ الله أكبر، لا يُنبئُك مثل خبير، فلأذكِّرْك باثنين لا يشبعان، أضف إليهما اليوم في بلادنا ثالثًا، واجعله إن شئت أول الاثنين، به فابدأ، وعليه فعول، في هذه البلاد المنكوبة، ذات الإرادة المسلوبة، التي يُراد لها ولا تريد، ويُفعل بها مبطوحة لا تقوم، فقل: ثلاثة وربك لا يشبعون: مات منهم طالب العلم وبقي طالب حكم وطالب مال، حاكم مستبد ظالم، طماع كذاب أشِر، لا يكل من النهب ولا يشبع، يحرم شعبًا كاملاً من أدنى حقوقه، فيترك جُلّه لا يجد قوت يومه، أو يأمن كبقية خلق الله في سربه، لينعم هو ومن قرّب إليه من البقر السمان، لتظلّ تخور من حوله مُسَبّحة بحمده، شاكرة لأنعمه، تدعوه من دون الله خوفًا وطمعًا، لأنها تؤمن أن بيده ملكوت البلاد، وأقدار العباد، ترعاه على قُبحه عينُ أمريكا، وتحرسه مع دناءته ملائكةُ أوربا، تخاف عليه أن يُوعَك أو يُشاك، لأنها منه جدّ منتفعة، وبوجوده راضية مطمئة، تواصل في ظله السلب والنهب في الليل والنهار، في بلاد تحسب أنها تحررت من ربقة استعمارها، ونالت بعد لأي شيئًا من استقلالها، هيهات هيهات ما يحسبون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فيها ...

سجون يلف ظلامُها خيرةَ أبناء الشعوب، من كلّ ذي علم ورأي وأدب، أو صاحب فضل ومروءة ودين، تمتدّ إليهم أيدي الجلادين بأبشع أنواع القمع والتعذيب، مما تتفطر له الأكباد، وتخر تحته الأجساد، وتنخلع من هوله القلوب، وتتحطم من قسوته النفوس، إن لم يمت المرء منه تمنى الموت، لكن المسكين يتمناه ولا يكاد يجده، لأنهم يجعلون له طبيبًا يشرف على تعذيبه، ليَمُدّ له في زمن المعاناة مدّا، بلا رحمة ولا شفقة، كم خرج منه رجال فقئت عيونهم، أو حُطّمت ضلوعهم، أو كُسّرت أطرافهم، أو نزعت أظافرهم، أو تشوهت جلودهم، من أثر الكيّ بالنيران الموقدة، أو اللسع بأطراف السجائر المشتعلة، والأسلاك المحماة المكهربة، ناهيك بمن طارت منهم العقول، أو شُلت منهم الأجسام، شللاً كاملاً غير منقوص، أو ما انطوت عليه نفوسهم من ذلّ وخلل وانكسار، لما مورس عليهم من صنوف التعذيب النفسيّ والإهانة والإذلال. باتت التأوهاتُ لغتَهم، والذكرياتُ المرّةُ أنيسَهم، والصمت المطبق جليسَهم، يجلس أحدهم إليك فلا ينبس ببنت شفة، أو يحدثك عن بالغ معاناته بكلمة، خوفًا من أن تمتد إليه يد الغدر من جديد، فتقذفَ به ثانية في غياهب السجون، لدى الكلاب المجوّعَة المسعورة، والمسامير المدببة المدقوقة، فيها الكراسيّ المكهربة، والمشانق المعلقة، والهراوات الغليظة، والمدى المشحوذة، والسياط الممدودة، والكرابيج المعقودة، والهمسات المرصودة، والأصوات الصاخبة المفزعة، والأكياس ذات الروائح العفنة، تُغَطّى بها وجوه بني البشر، وتفوح منها رائحة الغدر والانتقام، فتملأ الزوايا الباردة خوفًا ورهبة، ولا سيما إذا ساقك القدر لأن تلقى بجانب جثة تعفنت، أو صاحب جروح تقرحت، فسال منها القيء ولا من طبيب يأسو، أو أن تعيش مع الموتى الأحياء، لا تسمع منهم إلا الصراخ والأنين، ممن فقدوا على الأيام معنى الإنسانية، من هول ما ألقي على مسامعهم من الشتائم المقذعة، والكلمات البذيئة، والأوصاف الحقيرة، أو جراء تهديدهم بالاغتصاب، أو إيقاعه بهم أو بذويهم على مرأى منهم ومسمع، خلف جدران الزنازين السوداء، ومن وراء الأسلاك الشائكة والقضبان، يأكل المرء فيها حيث يبول، وما لم يقل يُفهم مما قد قيل، ليس لبلد في ذلك على آخرَ مزية، بل كلها فيه سواء، وإن كان بعضها أشهرَ في ذلك من بعض وأعرف، وأكثرَ تفننًا من غيره وأشرس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ما هذه ...

الجامعاتُ المتهاتفة؟ والمدارس المتهالكة؟ مدرسون ضعفاء، ومناهج ركيكة، وأساليب بدائية، وتقنية معدومة، وبحث غير موجود. تدخل الحرم الجامعي فكأنك في سوق كبيرة، بيع وشراء، وعرض وطلب، يدور بين أرجائه طلبة حائرون، يرون أن من سبقهم فقد سبقهم إلى سوق العطالة والبطالة، بعد أنْ ظنّ أنْ ستتلقفُه الشركات، أو تعتدّ به المدارس والجامعات، أو تتسع له العيادات والمستشفيات، فراحوا يبحثون عمّا يتسلون به من الملهيات، غير ندامى ولا آسفين، فالمجتهد منهم والكسول سواء، بل لعل الكسول يسبق غيره إلى الوظيفة إن وجدت، لو شفع له الشافعون، وتدخل من أجله المسؤولون، وطالبات يأتي أكثرهن لعرض الأزياء، وإراءة الأجساد، يتكسرن في مشيهن، ويخضعن في قولهن، قُصاراهنّ فكّ خطّ الكتاب، أو كتابة سطرين في غَزَل مُريب أو عتاب، يتسابقن في إغواء الشباب وإغرائهم، حِبالتهن ممدودة، وسيرتهن غير محمودة، الويل ثم الويل لمن وقع في شراكهن، أو سلم نفسه طوعًا إليهن. هذا طالب في النحو يمتحن فلا يعرف اسم إنّ ولا خبرها، ولا يميز الفاعل والله من المفعول، فالسارق عنده والمسروق سواء، يجعل "أنوشروان" "أبو شروان"، كأنه لم يمرّ يوما بلغة ولا أدب ولا إعراب، يُمنح على الملأ درجة الماجستير، ويعطى الجيد جدّا من التقدير، فلولا التقدير لن يتمكن المسكين من مواصلة مشواره العلمي، دعوه يكمل الدكتوراه، لتنتفع به وبأمثاله الأمة المنكوبة، ولا تحرموه من الفرصة التي قد تواتيه، فقد ينبغ بعد أن يقضي في الفن من عمره سنين، فيكون كنابغة بني ذبيان، ولا يعلم القوم أنه لن يكون بعدُ إلا ضغثًا على إبّالة، يزداد بوسخه درن الجامعات، وكأنّ ما فيها لا يكفيها. تعد المئون من الجامعات الجيدة في العالم فلا تجد بينها واحدة من جامعاتنا العتيدة، على كثرة ما تنفق حكوماتنا من الأموال، تريد أن تخزق أقطار السموات والأرض، لا بسفن فضائية ترقى إلى القمر وما وارء القمر، بل بأبراج هي الأعلى في العالم، والأكبر في العالم، والأطول في العالم، والأضخم في العالم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وهذا ...

شباب يملأ الشوارع والطرقات، على كل ناصية منهم فرقة، يصولون في اللهو ويجولون، أحاديثهم فارغة، واهتماماتهم مقززة، وتحصيلهم ضعيف، أكبر همّ أحدهم أن يجد له فتاة يتلهى بها، أو صحبة سوء يقصف معها، تعينه على تعاطي المخدرات وشرب الحشيش، وتيسر له سبل الحصول عليه بأرخص سعر وأقرب طريق؛ لا يعرفون لكبير حرمة، ولا لوجيه مكانة، ولم يشعروا يومًا لبلدانهم بانتماء، ولا لأوطانهم بمحبة، يريد كل منهم أن يهاجر إلى غيرما رجعة، ويترك ولو إلى مصير مجهول، ولو كلفه ذلك حياته، وساقه راغمًا إلى حتفه، إلى أين أيها الغِرُّ المسكين؟ إلى حيث ألقت أم قشعم! المهم أن أخرج من هذه النيران، وأغادر هذا الجحيم، فأي مكان في الأرض خير من هذا المكان، وما من بقعة شر من هذه البلاد، لم تترك لهم حكوماتهم فرصة لعيش كريم، ولا مجالاً لعمل رحيم، يجد فيه المرء منهم نفسه، ويثبت ذاته، ويحقق طموحه، ويشبع رغائبه. يبلغ أحدهم أشده ويتجاوز الأربعين، ولا يجد له زوجًا يأوي إليها، أو بيتًا يسكن فيه، فمن استطاع ذلك منهم فبالنصب والاحتيال، والغش والخداع، فشت فيهم البطالة، وزادت اللصوصية، وعمّ البلاء، وغلب على الناس الشكّ والريبة، فلم يعُدْ يأمن بعضهم بعضًا، ولو حلف أحدهم لصاحبه بالله وأسمائه، أو الرب وصفاته، تفككت بينهم الروابط، وانعدمت فيهم الثقة، وانفرط لديهم عقد الاجتماع. وحسبنا الله ونعم الوكيل.