رُشد الهزيمة
رُشد الهزيمة
عبد الرحيم الشيخ*
ليست الهزيمة حدثاً، ولا ذاتاً تبلغ سن الرشد أو النبوّة، أو الاثنتين معاً، حين تبلغ الأربعين أو تدركها الأربعون.بل الهزيمة حقل دلالي "خصب" لإنتاج المعاني المجدبة، ونظام حدثي "أخصب" لإنتاج العلاقات المرذولة. وبين الحقل والنظام تتناتج ثقافة المغلوبين مرضوضةً بفاعلية الغالب الذي لا يتيح لها رشداً ولا نبوّةً، بل يمعن في تدشينها كمشروع للهزيمة، وهو يتمعن في تدشين ثقافته، هو،كمشروع للنصر.فالهزيمة، إذاً،مشروعٌ للغالب يتعهَّده ويراعاهُ كما يتعهَّد مشروع نصره ويرعاه عبر:تكريس المعاني في حقول الدلالة، وتثبيت العلاقات في أنظمة الحدث. ولذا، فإنه يصح التأسيس بأن الهزيمة ليست جوهراً تاريخياً لوجود الذات الجمعية تحددَ مرةً وانطفأ، بل هي نفيٌ متقدِّمٌ لهذا الوجود يديرهُ الغالبُ-النقيضُ ويبدعه على نحو يحفظ ذاته الجمعية، وذاكرته هو، ويحيلها إلى جوهر تاريخي عصيٍّ على الانطفاء. الهزيمة ،إذاً، إبداعُ الغالبِ الذي لا يمثِّل المغلوبُ إلا مادته وفضاء تدشينه.
أقول، إن الحديث عن الثقافة الفلسطينية في ظل الشرط الاستعماري الإسرائيلي لا يحتاج سياقاً ولا مناسبة:لا بلوغ "النكسة" سن "رشدها"،ولا دنوّ "النكبة" من عتبة "شيخوختها"،إذ الحديث عن الثقافة هو السياق الدائم، وهو المناسبة المفتوحة على أبد السؤال، لأن فلسطين هي حقل اختصاص الفلسطينيين الأول، وخاصيَّتهم، دونما سياق ولا مناسبة. وإن الكتابة، هنا،وإن وافقت تاريخ بلوغ الهزيمة سن "رشدها"،في "الذكرى" الأربعين لنكسة العام 1967،فإن مداخلة الكتابة، في هذا المقام، تجاوِزُ توسُّلَ التزامن لتقدِّم نقداً لمفهوم الهزيمة و"ريعه الثقافي" الذي لا يزال، على ما يبدو، في طور المراهقة. وإن هذا النقد لا يستقيم إلا بمعاينة الحقل الدلالي والنظام الحدثي اللذين منهما،وفيهما،كان للهزيمة أن بلغت سن "الرشد".
فـ"الهزيمة" في حقل الدلالة العربية، قبل أن يكرِّسها وعيُ الغالب الإسرائيلي في الحقبة الاستعمارية المتأخرة، ومن بعد، لا تحيلُ، وعلى نحو متواتر، إلاّ إلى سيادة سمة المفعولية والامتثال في الحدث وانسحاب سمة الفاعلية والإكراه إلى غيبِ الجبر الذي لا يُشارُ إليه إلا لماما. فالهزيمة، عموماً، تعني الأثر الذي يتركه الفاعل في هيئة المفعول على البنية (الفيزيائية) حقيقةً، والمفهوم (ما فوق الفيزيائي) مجازاً، أي على "واقع" المفعول و"مثاله" بعد زمنٍ من الجفاف والتثنِّي.
فعلى مستوى البنية أو "الواقع"،في سياق الحقيقة، يؤسس ابن منظور، مثلاً،أنه نتيجة "هزم الشيء باليد" "تصير فيه وقرة"، وأن "هزوم الجوف" هي "مواضع الطعام فيه"، وكل نقرة في الجسد هزمة ،وهي النقرة في الجسد والتفاحة. والهزمة، كذلك،"ما تطامن من الأرض"، أي ما تشقق منها وانخفض، جرَّاء ضربةٍ، قياساً، ربما، على الحديث النبوي الذي يصف زمزم بأنها "هزمة جبريل" أي ضربة قدم جبريل التي تشققت بعدها الأرض ،و"كُسِرَ وجهها"، فخرج منها الماء .ومن المعنى الأخير ألحقت صفة الهزيمة بالبئر، والسحابة، والقربة ،والعصى، والقِدر ،والفرس (وليس من قبيل المصادفة أنها،كلّها، ذوات مؤنَّثة) إن تشققت أو تصدَّعت،فتناتجَ عنها الصوت،أوخرج منها الماء،أو حلَّ فيها.
وعلى مستوى المفهوم أو "المثال"،في سياق المجاز، لا ينأى ابن منظور كثيراً، بل يحيل إلى فاعلية الحدث الذي يحدثُ شقَّاً أو صدعاً في ذات المفعول أو ما هو في مقامها من الأشياء والمفاهيم.فيورد، على سبيل المثال، أن "هزوم الليل، صدوعه للصبح"، وأن "الهزم، سحاب لا ماء فيه"، وأن "الهزائم، العجاف من الدواب"، وأن "هزم الشاة، ذبحها"، وأن "هزم الحق،هضمه"، وأن "هازمة الدهر، الكاسرة والمصيبة"،وأن "الهزيمة في القتال،الكسر والفلّ"...إلى آخر فصل الـ(هـ-ز-م) في لسان العرب من مقولات تداولها اللسان العربي لا تُراكِمُ في "فعل" الهزيمة إلا الصدع أو الشق الناتج عن أثر الفاعل في المفعول، وما يتبعه من صوت أو صمتٍ لا يكرِّس إلا المسافة بين أجزاء الشيء أو الذات الواقعة في دائرة المفعولية.
أما النظام الحدثي للهزيمة، فلا يمكن مقاربته ولا مقاربة من تناتج عنه من علاقات دون التذكير بألف-باء دائرتي فلسفة "العلاقة" و"الموضوع" في أية منظومة حدثية، أي التذكير بصفات "الفاعل" وصفات "المفعول" حين تحوِّلها السلطة إلى "خواص" لا تفارق كليهما،بل تصير تميِّزهما على نحو تأبيدي،أي تمنحهما شكل "الهوية" وفحواها.ولعل أهم ما يجدر التذكير به أن الحدث هو اختراع سلطوي تم تسجيله تاريخياً.وما دام الحدث اختراعاً سلطوياً،شأنه،في ذلك،شأن الزمن والمكان بوصفهما حيّزين لممارسة السلطة، فإن المعرفة التي تنتجها السلطة عن الحدث هي ما يحدد ماهيته،وما يحدد،كذلك، وصف الذوات المنخرطة فيه (فعلاً وانفعالاً).ففي ثنائية الإكراه-الامتثال،تدشِّنُ السلطة (الفاعلةُ) معرفةً عن الذوات (المفعولة) ولها، تحكمُ شكلَ العلاقات بينهما.وبذا، تغدو السلطةُ الفاعل-شبه الأوحد الذي يحكم فعلُه شكلَ العلاقة الإنتاجية لسلوك ذوات المفاعيل الخاضعين لإكراه السلطة إذ تلزمهم بالقيام بسلوك ما،أو الامتناع عن سلوك آخر،أو تعديل سلوك ثالث.
وبذا، فإن فلسفة "العلاقة"،هنا، تعلو على فلسفة "الموضوع" مهما بلغت خيريَّتُه.أي إن الذات الـمُكرَهة، سواءً امتثلت أم لم تمتثل، ليست إلا قنطرة للعلاقة التي تنتجها تنافذيَّة العلاقة بين السلطة والمعرفة. والمعرفة ،هنا، ليست الغاية في ذاتها، بل هي المنهج الذي يتم من خلاله مَوْضَعَة الذات (المفعولة أو المنفعلة) في النظام الحدثي الذي أنتجته السلطة، وسجَّلتهُ في زمنها الخاص، ومكانها الذي فيه تمارس فعل السيادة الذي لا معنى للسلطة دونه.
هنا، يجدر بمن يُعاين تاريخ الهزيمة، في فترات مراهقتها أو رشدها أو شيخوختها، أن يكفَّ عن خطيَّة الفهم التاريخي للهزيمة، أي أن يكفَّ عن العناد الوثائقي الذي يجعل من "النكبة" أو "النكسة" انتظاماً حدثياً يمكن التأريخ له بعدد السنين التي تولَّت على يوم وقوعه أو توالت.وإن العدول عن ذلك العناد ينبغي أن يُخرج الـمُعاين من نفق التاريخ-الحدَثي (الذي يعتبر الهزيمة "حدثاً" جرى في زمان ومكان مخصوصين للمغلوب) إلى أفق التاريخ-اللاحدثي (الذي يعتبر المهزوم "موضوعا" انحال إلى حدث جرى على يد الغالب).
ليس تحويل هذا النأي عن "التاريخ الحدثي" نحو "التاريخ-اللاحدثي" أو "المفهومي" ترفاً تنظيرياً، على وفرة الترف وشهوة التنظير في ثقافة فلسطينية يملؤها كثير الترف وينقصها قليل التنظير،بل هو رغبة قصوى في توكيد مقولة أن "الحقيقة" هي منتوج سلطوي لا علاقة له بجوهرية الحدث، بل بجوهرية تسجيله التاريخي على يد السلطة.وبالتالي، فإن فهم "الهزيمة"،وهي تحيا أي مرحلة من مراحل "حياتها"، لا يتأتى من دراسة تاريخها الحدثي،بل من معاينة تاريخها المفهومي الذي سجَّلته السلطة الغالبة. والسلطة الغالبة، بامتياز، في الحالة الفلسطينية، هي إسرائيل، والمعرفة الغالبة، بامتياز، هي معرفتها عن ذاتها وعن آخرها الفلسطيني، وليس ثمة من داعٍ لرشق هذه المعرفة بأية صفة أخلاقية، لأن المعرفة، التي صارت "حقيقة"، هي اختراع المنتصر أنَّى كان.
أما وقد تم تعريف حدود السلطة،ومفعولها المهزوم،في السياق الفلسطيني،فإنه ينبغي الحديث عن"ماهية المعرفة" التي أنتجها الغالب الإسرائيلي عن ذاته وعن "ذات" المغلوب التي لم يُخل لها،بعد، حيزاً في جلد الضحية الأبدي الذي خلعه على نفسه.كما ينبغي الحديث عن "كيفية إنتاج المعرفة" تلك، و"غايتها"، و"آليات انسرابها" إلى الذات-المغلوبة حدَّ تبنِّي الذات-المغلوبة مفهوم الهزيمة كما دشَّنه الغالب!
هنا، واستناداً إلى المعاينة النظرية السابقة للحقل الدلالي والنظام الحدثي اللذين منهما، وفيهما،كان للهزيمة الفلسطينية أن بلغت سن "الرشد" رقمياً، يمكن الادعاء أن الهزيمة تقتضي،ضرورةً، وجودَ شكلٍ أوَّل تمَّت هزيمته (أي تغييره نتيجة فعل خارجي). والشكل المفترض، هنا، هو وجود الفلسطينيين قبل الهزيمة في حالتي الوجود بـ"القوة" وبـ"الفعل".ووجود الفلسطنيين "بالقوة"، لا ضرورة لإثباته، إذ هو وجود يُداني وجود أية جماعة قومية أخرى،عربية أو غير عربية، في القرن التاسع عشر، باحثة عن شكلٍ تعبِّر فيه عن تجوهرها القومي قبل وجود حزب قومي ينجز مشروع ذلك التجوهر حين تفيض القومية على القوم، فتقوم الدولة. وأما وجودهم "بالفعل"، فقد أخذ شكل التطور التاريخي لانتقال أية جماعة قومية من حالة "الوجود بالقوة" إلى "الوجود بالفعل" على يد حزب قومي (أو وطني،ولا يتسع المجال للتفريق، هنا، على أهمية الإشارة إليه) عبر صياغة خطاب قومي عن قصة الفلسطينين مع أرضهم.
في غمرة تشكُّل هذا الخطاب، بل وفي غمرة تخلُّق النخبة القومية التي كانت تحاول اجتراح الخطاب الذي سيجعل القومية تفيض على القوم لتنتج الدولة، بدأ الحلم الصهيوني، وبعد قرابة خمسين عاماً على صياغاته الأولى، بالتحقق على شكل مشروع-دولة-إسرائيل. وقد كانت نهاية الحلم الصهيوني، هي بداية الكابوس الفلسطيني الذي كان أبرز حدوده القضاء على مشروع الحداثة الفلسطينية المتمثل بإقامة الدولة التي تحفظ الناس، وأرضهم، وقصتهم مع أرضهم.
هنا، يمكن القول إنه عند إعلان قيام دولة إسرائيل،اندغم حقل المعاني، تماماً، في النظام الحدثي الذي أنتج الهزيمة. فقد رافق التصدُّع المادي الذي أحدثه قيام دولة إسرائيل في شكل الوجود الفلسطيني وفحواه (إجهاض محاولة قيام الدولة الفلسطينية،وتشريد الفلسطينيين)..رافقه تصدُّع معنوي في المعرفة التي صارت مناط التسجيل التاريخي الذي صار اسمه بيد الغالب (حرب الاستقلال)،ووصمه بيد المغلوب (النكبة).ولتجنُّب الإطالة في رواية الحبكتين،على لسان الغالب والمغلوب،ورغم أن ظاهرة "المؤرخين الإسرائيليين الجدد" لم تكن،في اعتقادي،سوى حلقة أخرى من حلقات إراحة الضمير الإسرائيلي من "عقد ذنبه" في طرد الفلسطينيين من وطنهم،وطرد حبكتهم من التاريخ،يمكن اللجوء إلى إيجازهم لماهية المعرفة التي سجَّل بها الغالب الصهيوني حدث عام 1948.وقد تجلت هذه النزعة في العقدين الأخيرين من خلال ظاهرة المؤرخين الجدد (ضمن تياري الصهيوينة الجديدة وما بعد الصهيونية)،وغيرها من الاعتذاريات في صفوف المثقفين،وحتى في جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر حركة "الريفيوزنكس" أو رافضي الخدمة في الجيش.هذا كله جزء من الرؤية التنقيحية للراوية التاريخية الصهيونية الكلاسيكية التي كان من أبرز ركائزها رواية أحداث قيام دولة إسرائيل على نحو يمكن إيجازه في خمس مقولات مؤسسة،مؤدَّاها:
(1) إنه بينما رفض العرب خطة التقسيم للعام 1947 المبنية على توصيات لجنة بيل،قبلها اليهود.
(2) وإن حرب الاستقلال الإسرائيلية أو النكبة الفلسطينية خيضت بين ديفيد الضعيف المتمثل بالعصابات الصهيونية، وجالوت الجبار المتمثل بالقوات العربية. (3) وإن مشكة اللجوء الفلسطيني لم تنشأ نتيجة لفعل القوة والمذابح الصهيونية،بل نتيجة لدعوات القادة العرب للفلسطينيين بالرحيل للتمكن من رمي اليهود في البحر. (4) إن العرب هم من رفضوا كل مقترحات السلام بعد الحرب،وإن إسرائيل قبلتها. (5) وإن السياسات التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين المواطنين فيها،وأولئك الذين في "الضفة الغربية" و"قطاع غزة" و"القدس الشرقية"، إنما هي للحفاظ على إسرائيل من الزوال قبالة أعمال الإرهاب التي يقصد منها الفلسطينيون إزالة دولة إسرائيل عن الخارطة.
بهذه المعرفة التي دشَّنها الغالب عن الحدث،أو فلنقل،بهذه المعرفة-الحدث،تزاملَ مشروع الهزيمة الفلسطيني ومشروع النصر الصهيوني في ثنائية فريدة.وقد يكون من السذاجة القول إن أي حدث وقع بعد هذا التدشين الأكبر لمشروع الهزيمة يمكن رصده كحدث ذي مغزى بغض النظر عن شدة التوتر بين فواعل السلطة ومفاعيلها،وعن عدالة مظلمة ضحايا هذا الحدث سواء كان في العام 1967، 1882، 1987، 2002...حينها،وهناك،عام 1948، تم تدشين مشروع الهزيمة فيزيائياً (بهزيمة الجغرافيا والديمغرافيا) ومفاهيمياً (بهزيمة الحبكة الفلسطينية في حيز التسجيل التاريخي للحدث).
ما أود تأسيسه، هنا،هو إن أي حدث تاريخي بعد هزيمة 1948 ليس إلا تنويعاً باهتاً على "مشروع الهزيمة" الأكبر،وليس التلهي به إلا ذرَّاً للرماد في العيون بخصوص تعديل رواية الهزيمة أو وصفها لغرض تقويضها كمشروع للموت.وهنا،يجدر القول إن الميل الذي جاءت بها الصهيونيات التنقيحية في العقدين الأخيرين يندرجُ ضمن المشروع الصهيوني الأكبر لـ"تطبيع اليهودي"، أو أسنته، أي جعله إنساناً طبيعياً يجرم ،ويعتذر عن جرمه. ومع أن الجهد البحثي للمؤرخين الجدد، وغير البحثي لأشباههم ،هو جهد إيجابي للاعتراف بحصرية النظرة الإسرائيلية إلى الآخرين وإلى الآخر الفلسطيني بخاصة وتعريفه السلبي،إلا إنه لا تنبغي المبالغة في الاحتفالية التي قد تجعل من هذا الاعتذار الباهت تحويلا للخطيئة التاريخية في حق الفلسطيني إلى خطأ تاريخي يلغي حق العودة وإقامة الدولة،ككفارة واجبة لعملية الطرد وكسر الحداثة الفلسطينية.
وإذا كان التعاطي الإسرائيلي مع المعرفة التي أنتجتها السلطة الصهيونية عن حدث الهزيمة الأكبر (نكبة 1948)،قد تغيَّر تكتيكياً (ربما استجابةً لنظرية ابن خلدون في تناوب "أهل السيف وأهل القلم" في التنظير لحاجة الحرب لبناء الدول،وشرعنتها،والاعتذار،من بعد أن تقوى بيضتها،عما اقترفته من جرائم)...فإن التعاطي الفلسطيني الساذج مع شبهة هذا التغيُّر التكتيكي هو إمعان في قبول مشروع الهزيمة المدشَّن صهيونياً.وهنا،يطول الحديث عن نوعية هذا التعاطي الساذج،أو المتساذج،الذي انحال إلى مهارة في مراكمة الريع السياسي والاقتصادي والثقافي السالب لمشروع الهزيمة.
ففي الثقافة الفلسطينية اليوم مليون أفلاطون، ولكنهم يأوون إلى كهف واحد، أو يكاد، لا يكرِّسون في الهزيمة إلا مشروعها وهم يقفون على الحياد من مسائل تمس جوهر التحرر من ربقة الهزيمة، منها:فضاء المدينة العام،شاهدة قبر الشهيد،كرَّاسة المنهج المدرسي، لون العلم الباهت فوق سارية الوزارة،لون البلونات الزرقاء في مسيرة لإنهاء الاحتلال لا ترفع علماً واحداً لفلسطين، بل أعلام..مثلها زرقاء،رسالة الأسير العاشق التي ضاعت في بريد المضربين عن العمل،إعلان التطبيع المدفوع في الجريدة إلى جانب صور الأطفال المحروقةِ بقنابل إسرائيل "الذكية"،إعلان مسيرات إنهاء الاحتلال بتصاريح من دولة الاحتلال،فض اشتباك الثائرين،تذكُّر المثقف الذي نسيتهُ المؤسسةُ أو أخرجَتْه،نقش الشعار على الجدار،دعوة النخبة لتعود إلى رشدها حين صارت نخبة مضادة،إعلان حالات الطوارئ في الثقافة،غناء التراويد القديمة في غير مواسم الرقص المعاصر،تعداد اللاجئين في ذكرى النكبة وحق عودتهم،أمر الثقافة في الشتات،بؤس الثقافة في الوطن،هوس المثقف بالغريبة،ترجمة القصيدة بالعبرية الفصحى،أمر النشر في الصحف المتاحة،نوعية التمثيل في الخارج،نوعية "التمثيل" في الداخل،ولون الزيت في عصَّارة المستوطنة...وغيرها كثير القضايا والمعارف التي لا خروج من مشروع الهزيمة دون حسم النقاش حولها،أولاً.
إن الرضَّة التي أحدثها مشروع الهزيمة في وعي الفلسطيني بذاته،وأشياء ذلك الوعي من جغرافيا وديمغرافيا،لا يمكن فهمها بربط مشروع الهزيمة وانخداع المغلوب بمقولات الغالب عند ابن خلدون،ومقولات الوعي اللص عند مارلو بونتي،والأقنعة البيضاء عند فرانز فانون...ولا بالتنافس على تأويل مقولات قامة عالية كإدوارد سعيد.فالكل يُفتي،في زمن لم يعد فيه "الإفتاء أرخص أنواع الفقه"،كما كان دائماً في الثقافة العربية الإسلامية،والكل عالمٌ في زمن "كثر فيه العلماء وقلَّ العارفون"،والكل قادر على تحويل الشعار الجمعي مِنْ:"ولي عملٌ على ظَهر السفينة" إلى شعار عدمي،لا يمتلك رؤيا الخضر ولا قداسته،ليصير:"ولي حق في خرق السفينة،وإغراق مَنْ فيها".
لا ينبغي،إذاً،أن نتحدث عن "رُشد الهزيمة"،بل عن "هزيمة الرُّشد" الذي قبل بوضع عصبة على عينيه،فصار كصبية العرب يلعب به "المهزام" وهو الوعي المهزوم بامتياز.و"المهزام" هو "لعبة الغمّيضة"،على ذمة ابن الأثير.وهو،كما يؤسس ابن منظور،"عود يجعل في رأسه نارٌ تلعب به صبيان الأعراب،وهو لعبة لهم." أما الأزهري،فاجتهد بالقول إن "المهزام لعبة لهم يلعبونها،يُغطَّى رأس أحدهم ثم يُلْطَمُ،وفي روايةٍ:ثم تضرب إستُه،ويقال له:من لَطَمَكْ؟"..فيعرف،أو يكاد،ثم "يبستم ابتسامة العارفين الذين يؤدلجون الهزيمة"!
* أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت