ثقافة التسامح والسلم

عبد العزيز حج احمد

عند الشهيد الدكتور معشوق الخزنوي

الدكتور عبد العزيز حج احمد *

تمهيد

لعل الشهيد الراحل الدكتور معشوق الخزنوي ، يُعد واحداً من أبرز المراجع العلمية والفقهية ، الذين مارسوا نقداً لاذعاً ضد العنف ، وقد تميز رحمه الله عند تناوله لقضية العنف أنه ذهب بها  لتشمل مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته، وبأفراد أسرته، ومحيطه الاجتماعي ، وانتهاءً بعلاقته بالآخر، أياً يكن هذا الآخر ، ومهما كانت درجة اختلافه معنا قوميا كان أو دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا وانه علينا أن نتحاور فالمشترك كما يقول الشهيد الخزنوي أكثر من المختلف والذي يجمع الناس أكثر من الذي يفرقهم ،  لذا نجده رحمه الله  يرفض العنف والتعصب بكل أشكاله، كما يعتبر السلم والتسامح خياراً حضارياً ينبغي أن نوفر الأرضية المناسبة لنجاحه ،  ويقول في هذا الصدد: (أ! ننا مهما اتبعنا طريق العنف والتعصب فلن نحل مشكلة ولا بد في النهاية أن نجلس لحوار هادئ تسوده روح التسامح لكي نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح، والاجتماع على رأي صائب، لكي نحصل على النتيجة المطلوبة، فلم لا نختصر المسافات ونبتعد عن العنف والتعصب لنفتح المجال للسلم والتسامح و بالحكمة والموعظة الحسنة لنصل إلى الهدف المنشود )

 وفي هذا الدراسة  الموجزة  سوف نتناول أهم الرؤى التي طرحها الدكتور الخزنوي ، حول موضوع السلم وثقافة التسامح ، وذلك لما تمثله هذه الأفكار من مرجعية هامة للفكر الإسلامي المعاصر، الذي سيظل بحاجة ملحة لمثل نظريات هذا المفكر، المصلح، الرائد، الذي جَسَّد أطروحاته على أرض الواقع بعيداً عن عالم التنظير إذ نراه يتمثل عملياً وواقعياً لأهم المبادئ التي رفع رايتها بشكل متواصل وهو مبدأ التسامح والسلم ( ولا يُنسى انه احد ضحايا العنف على مر مراحل حياته ) .

معنى التسامح و السلم عند الخزنوي

 يُعرِّف المفكر الكردي الدكتور معشوق الخزنوي السلم أو عدم العنف بقوله : ( هو أن يسلك المرء سبيل اللين والرفق في كل شيء سواء كان بناءً أو هدماً ليصل إلى هدفه المنشود ) .

وعندما يتحدث الشهيد الخزنوي عن اللين والرفق كثقافة على المرء أن يتخذه ديدنا له فهو يتحدث عن السلم المملوك ، أي الذي في مقدر المرء سلوكه لا المقهور فيها والمجبور عليها ، كمن ليس بمقدوره الرد على ظالم أو كما يقول المثل  اليد التي لا تستطيع كسرها قبلها وادعوا عليها بالكسر ، لا إنما الشهيد الخزنوي يقصد كما يقول : ( أن يرجح المرء التسامح والسلم على العنف والتعصب في حين هو قادر على العنف ، ولا يعني أن يصد المرء العنف انه معنف بل هو من باب الوقاية والوقاية من السلم لا من العنف ، فما كتب النجاح لدعوات الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ ، لولا استخدامهم لطريق السلم ،  فالرسول صلى الله عليه وسلم ما رد الإساءة لأحد عندما كان في مكة في حين كان أبو لهب يرميه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، و آخر يفرغ على رأسه الكريم سلى الشاة، وهو في ال! صلاة، ومولى أبي جهل يشج رأسه بقوس، وجبريل عليه السلام يأتيه لتنفيذ أمره ليطبق الاخشبين عليهم فيقول  - اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

وكم كان الشهيد يثمن مقولة غاندي ويعتبرها مثالا وهو يعلم الناس عندما كسر انفه رحمه الله وكسرت نظارته على عينه من قبل الغوغاء في جامع قناة السويس في قامشلو مهدأ للناس مذكرا بقول غاندي عندما قال ( لقد تعلمت من الحسين بن علي كيف أكون مظلوماً فأنتصر) .

أصالة ثقافة السلم والتسامح

الشهيد الخزنوي رحمه الله عندما كان يدعو لسلوك طريق السلم والتسامح بعيدا عن التعصب والعنف فلم يأتي بها من فراغ بل كان يستند في فكره ورأيه على عدة أسس كما كان الشهيد معشوق الخزنوي يذكرها و من أهمها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة  .

فالقرآن الكريم  يحتوي على  العديد من الآيات البينات الصريحات التي طالما كان الشهيد الخزنوي يستشهد بها ومنها

قول الله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل 125

وقوله عز وجل ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) الفرقان 63

وقوله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) العنكبوت  46 إلى غير ذلك من الآيات البينات الصريحات الكثيرة  .

كما استند رحمه الله  الى سيرة الرسول الكريم والتي امتلأت بشواهد تدلل على ما ذهب إليه الشهيد الخزنوي ولعلي لاختصار البحث لا اسرد الأدلة التي كان يسترسل الشهيد الخزنوي في ذكرها منوهاً إلى موقفه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة فاتحا حيث تجلت أعظم مظاهر التسامح والسلم في وجه من ظلموه وأخرجوه من دياره عندما قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء  ، وموقفه المتسامح صلى الله عليه وسلم  من (وحشي) قاتل عمه حمزة.

يظهر مما سبق أن المفكر معشوق الخزنوي لم ينطلق عند تأسيسه لنظريته السلمية من عدم ، بل اصل لها من خلال استناده إلى قرأنه وتاريخ رسوله صلى الله عليه وسلم وتأمله في التاريخ العتيد ، وللدلالة على أصالة مبدأ التسامح والسلم وعدم صوابية العنف وعواقبه الوخيمة كثيرا ما كان الشيخ الشهيد يستدل على ذلك بالآيات القرآنية التي تحدثت عن ابني آدم قابيل وهابيل فكان رحمه الله يقول بعد سرد الآية الكريمة : (إذ قرّبا قُرباناً فُتُقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) (المائدة:27-28). فما كان من قابيل إلاّ أن قتل أخاه هابيل، ليصبح بعمله هذا مرتكباً لأول جريمة قتل في التاريخ. و التاريخ منذ بدايته وعند حدوث أول جريمة قتل نظر قابيل لنفسه بعد قتل أخيه باشمئزاز ووبخها ،  ومن بعده ال! تاريخ يشيد بموقف هابيل المتسامح ، ويشجب موقف قابيل الدموي .

 أسباب العنف

أشار الشهيد الخزنوي إلى الأرضية التي تولد العنف والإرهاب والبيضة التي تفقس التطرف وكان يجملها بقوله

ونعتقد أن أسباب التطرف والإرهاب تعود إلى العوامل التالي

- الجهل سواء أكان جهل الأفراد أو الجماعات أو جهل قيادة الدولة التي تمارس إرهاب الدولة

- الفقر والبطالة الذي يعاني منه الشخص أو الأشخاص أو الجماعات أو قيام الدولة بتعمد خلق ظروف الفقر والبطالة بهدف إبادة الجنس البشري لكي تتخلص من عرق معين أو جماعة معينة غير موالية للنظام السياسي وكذلك قيام المسؤولين في الدولة بإهدار الثروات وسرقتها والتصرف بها دون حساب أو رقابة أو قانون

- الظلم والعدوان واستعمال القسوة ضد البشر. وبخاصة في الأنظمة الدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات والديمقراطية وتغييب المؤسسات الدستورية والقانون ولا تحترم حقوق الإنسان وكذلك انعدام الحوار أو رفضه من السلطة أو لعدم الثقة بالنظام

- مطالبة الشعوب بحق تقرير المصير ورفض هذا الطلب من الأنظمة السياسية المنغلقة

- فقدان المؤسسية في نظام الحكم وغياب الحكم المدني

- أسباب أخرى؛ اجتماعية و سياسية وثقافية وتربوية

 من خلال قوله هذا يجمل الشهيد الأسباب التي تؤدي إلى العنف والتطرف ولا تدع للتسامح والسلم مكانا حقا إنها أسباب رئيسة لذلك ، نخلص مما سبق لنقول بأنه من الأدوار التي ينبغي للحكومات أن تقوم بها لنشر ثقافة السلم، هو سماحها للأصوات المتعددة أن تتحدث بكل حرية دون خوف أو وجلٍ من أحد ففي الكثير من البلدان العربية والإسلامية توجد حالة من التعددية المذهبية والفكرية والسياسية، فلا ينبغي أن يفسح المجال في بلد من البلدان لاتجاه دون آخر، أو لجماعة دون أخرى، فإن ذلك من أسباب الجمود والتخلف، وهما حضنان دافئان لتفقيس (صيصان) العنف! فمن الخطأ أن نعمم في مجتمع من المجتمعات ثقافة الاتجاه الواحد ونكمم أفواه الآخرين .

 ثمار التسامح

يقول الشيخ الشهيد : ما تعانيه البشرية اليوم من حروب وكروب ومن آفات وويلات ومن صراعات لا تنتهي، سببها الثقافات المغلوطة التي تُلقّن للناس وتجعل البشر بعضهم أعداء لبعض، ويكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، ويستعلي بعضهم على بعض، ولو أنّ البشر لُقّنوا ثقافة سليمة قويمة لهدتهم من ضلالة وعلمتهم من جهالة، ولعلمتهم ثقافة الحوار بدل ثقافة الصراع، وثقافة المحبة بدل ثقافة الكراهية، وثقافة السلم بدل ثقافة الحرب، وثقافة التسامح بدل ثقافة العقاب، وثقافة المساواة بدل ثقافة الاستكبار، وثقافة التعايش بدل ثقافة التهاوش، وثقافة التنوع بدل ثقافة الانفراد، وثقافة الانقياد للحق بدل ثقافة المباهاة بالقوة.

 وخلاصة القول: ينبغي أن نؤمن بثقافة التسامح ، كقيمة داخل ذواتنا، وأن نسعى جميعاً لتطبيقها على أرض الواقع، لا أن نحملها كشعار أجوف فوق صدورنا.

كلمة أخيره

وفي إطار نظرته وبحثه في الإسلام عن ثقافة للتسامح والسلم يقول الشيخ الشهيد : يراد بالإسلام معنى السلام وهو اسم من أسماء الله الحسنى لسلامته تعالى من النقص والعيب ويراد به أيضاً الأمن والطمأنينة والصلح، أي انه دين للمحبة والتسامح ويهدف إلى إسعاد الإنسان، أما الحرب والخوف فهما نقيضان للسلام وكلاهما لا يجتمعان، والدين هو غذاء للروح وليس سوراً يعزل الإنسان بعيداً عن رياح التغيير والحضارة والعلوم ، لكن هناك فارق كبير وبون شاسع بين حقيقة الإسلام وبين الخطاب الإسلامي إن قديما أو حديثا فهوقائم في الأعم الأغلب على مصادرة الآخر رغم وجود الفريق الآخر حيث هناك من يفهم من خطاب الشارع آيات السف والقوة وهناك من يفهم منه آيات الحكمة والموعظة الحسنة وفريق ثالث حاولت الغوص في روح النصوص لتوافق بينها ، لتفهم أن للجهاد تعريفه ومكانه وزمانه وللموعظة الحسنة كذلك ، فعلى سبيل المثال شاع أن الجهاد لا يختلف عن العنف، وأن كلاهما واحد ولا فرق ب! ينهما سوى باللفظ والحروف ، والحقيقة أن الجهاد لا يمكن أن يكون عنفاً لأن الشريعة الإسلامية في الوقت الذي تحث فيه على الجهاد بقوة تذم العنف أيضاً بقوة، ولذلك لا ريب أن بينهما فرق كبير ، فالجهاد فريضة دفاعية لمقاومة بغي واعتداء الآخرين العنيف، ولا يبيح الإسلام استخدام هذه الفريضة إلا في حالات الاضطرار محدودة جداً، بل ولا يسمح بالابتداء بالعنف والقتال أبداً، وما يؤكد على ضرورة التزام منهج السلم في الجهاد قول الباري عز وجل: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) وإلا فبخلافه لا يكون جهاداً ، ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لقادة السرايا عندما كان يقول (سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أقصاهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه إلى مأمن! ه )

 رحمه الله لقد كان شهيدنا حقا رجل مرحلة لكنه قدر الله انه رحل بسرعة ، رجل أسس ثقافة ، وأسس فكر ليعلمنا  فن الإصغاء إلى الآخرين يعني ببساطة أننا راغبون في الدنو نحو الحقيقة واكتشاف أفضل أسلوب للعمل، والحكمة الإنجليزية تقول: (قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني قد نصل إلى تصحيح بعض أخطائنا وربما نصل معاً إلى مكان أقرب إلى الحقيقة أو إلى العمل بطريقة صائبة )

تقترب الذكرى الثانية لاستشهاد شهيدنا وللأسف لازالت أمته لم تحمي فكره ولم تجمع تراثه ، فليرحمه الله

              

 * باحث اسلامي

المصادر

1-لقاء مع ال! شهيد عن الارهاب لمجلة الشعاع

2-خطبة للشهي! د بعنوان التعصب والتسامح

3-كراس تعريف! ي كتبه الشهيد بنفسه

4-كلمة الشهي! د في مؤتمر الاديان ودورها في صناعة السلام باوسلو

5-لقاء تلفزي! وني عن الارهاب لصالح فضائية كردستان تفي

6-خطبة للشهي! د بعنوان الشهادة والشهداء