سبعون عاما في حضن اللغة العربية
أ.د/
جابر قميحةالحلقة الثالثة " في الكُتَّاب"
كانت البداية في الكتاب لحفظ القرآن ، وتعلم بدايات الكلمات العربية ، ولكن التحفيظ كان يعتمد على الترديد الشفوي .
ويعتمد الكتاب في إدارته على " الشيخ " وكنا لا نخاطبه إلا بلقب " سيدنا " . أما مساعده فيطلق عليه كلمة " العريف " ، وكانت مهمته غالبا المرور على التلاميذ واحدا واحدا ، لتقييم حفظه ، وفي يمناه " مقرعة " ، يضرب بها من لم يحفظ ، أو كان ضعيف الحفظ . و"المقرعة" عصا من جريد النخل بطول ذراع مشقوقة من الوسط ما عدا طرفها الذي يمسك باليد ، وهذه "المقرعة" تحدث عند الضرب صوتا أقوى من الألم الذي تسببه الضربة ، وأحيانا يقوم سيدنا بهذه المهمة ، أو يشارك مساعده فيها .
وكنا نجلس على " دكك " جمع دكة فقيرة المظهر ، وكثيرون يفترشون الأرض . وفي الكتاب " زير " من الفخار لشرب الماء وله غطاء متحرك من الخشب ، وقد دق فيه مسمار موصول ب " كوز " يشرب منه الجميع ، وسر ربطه الخوف عليه من الضياع .
وكان كل منا يحمل لوحا أسود من الإردواز في شكل السبورة الصغيرة. ومساحتها " قرابة 25 سم طولا ، و15 سم عرضا " ، وكنا نكتب فيه بالطباشير أو أصابع الإردواز ... نكتب ونمحو كما نشاء ، أو كما يشاء " سيدنا " و " العريف " .
وكنا نذهب إلى الكتاب بالجلاليب ، وكان أغلب التلاميذ للأسف حفاة ، ومع كل منهم حقيبة فقيرة من القماش لوضع اللوح والطباشير والمساحة .
وكانت أمي وغيرها من الأمهات على ما أعتقد تفتّ لي في جيب جلبابي الأيمن رغيفا من الخبز الجاف ، وكنا نسميه أيامها " عيش حامش أو قابب " ، وهو طبعا صناعة منزلية ، ليتبلغ التلميذ بكسرات منه في غفلة من الشيخ والعريف ليمسح بها بعض جوعه .
وكان من العار في هذه الأيام أن يشتري أحد خبزه من الفرّان " بائع الخبز " ، إذ لم يكن يتعامل معه إلا الموظفون المغتربون عن المنزلة . ومن العبارات التي كانت تتردد آنذاك : " فلان ده عِرَّة لأن بيته ليس فيه فرن ، ولا خزين ، ولا حِوان أي حيوان ويقصد به الطيور من بط وإوز ودجاج وحمام وأرانب "
وترجمة العبارة السابقة فلان هذا رجل معيب مفضوح، لأسباب ثلاثة ، أو لواحد منها على الاقل ، وهي:
1 أنه يشتري خبزه من الفران . لأن بيته ليس فيه فرن .
2 ليس في مطبخه خزين أي المخزون من سمن وعسل وجبن ، وغير ذلك.
3 وليس على سطح بيته ما يشبه الحظيرة لتربية الطيور، مما قد يدفعه إلى الذهاب لشراء ما يحتاجه منها من سوق المنزلة يوم الأحد من كل أسبوع .
أما الرجل " عِرّة العِرر " أي أكثر الناس سقوطا وتفاهة فهو الذي يسكن بالإيجار ، ولا يملك بيتا لسكناه .
**********
وأترك هذا الاستطراد إلى صلب الموضوع فأقول : إنني التحقت بكتابين في حيين مختلفين : الأول هو كتاب " الشيخ توفيق أبو العداروس " ، وكان كفيفا ... وأكولا ؛ فقد لا حظنا جميعا أنه يقرب إليه تلميذا من عائلة " الريس " أبوه صاحب مطعم كبير، وكان هذا التلميذ يحضر لسيدنا كل يوم وجبة من لحم وأرز في لفافة ، فكان البطن هو منشأ الحب والاعتزاز .
ولم يعمر كتاب الشيخ توفيق طويلا ، أو لم أمكث أنا فيه طويلا . والتحقت بكتاب " الشيخ محمد أبو سلطان " . وكان شيخا طويلا نحيلا شاحب الوجه ، جاوز الخمسين من عمره ، وكان مخلصا في عمله ، يُقرؤنا القرآن وهو واقف بالساعات ، وكان له عينان كعيني الصقر تشداه لأي حركة مخالفة فيستعمل المقرعة مع المخالف ، أو ينهره بجملة مأثورة عنه وهي " بس يا واد جاك وجع في ضرسك وضرس أهلك " وكان مساعده أو " العريف "الذي يقوم بتحفيظنا القرآن شاب كفيف معمم في قرابة العشرين من عمره اسمه " الشيخ بلاسي " ، وغير التحفيظ يتولى المرور بمقرعته مختبرا التلاميذ في المحفوظ من القرآن الكريم .
وكان المهم في الكتاب هو الحفظ ولا مكان للتفسير ، ولو لبعض الكلمات والأعلام . وعلى سبيل التمثيل كنا نحفظ سورة " عبس " دون أن نعرف معاني كلمة واحدة ، ولا اسم الأعمى الذي جاء ، ولا مناسبة نزول هذه السورة .
**********
وقد يسأل السائل : وما مصدر رزق سيدنا ومساعده ؟ وأقول إنه "الخميس" .
والخميس يقصد به " قرش صاغ " ... أي 1 % من الجنيه المصري ، وعلى كل تلميذ أن يحضر معه كل يوم خميس " خميسه " أي " القرش صاغ " ويسلمه للعريف وتكون الحصيلة كل أسبوع لسيدنا أو للشيخ أو قرابة خمسين أو ستين قرشا ، أي أن دخله لا يزيد في الشهر على ثلاثة جنيهات ينال العريف نسبة منها . وكانت أمي وهي تعطيني القرش صباح كل خميس تودعني بالعبارة الآتية
خلي بالك يا جابر من خميسك حتى لا يقع منك .
وكان مثل هذا المبلغ " الجنيهات الثلاثة " كاف شاف آنذاك في بداية الأربعينيات من القرن الماضي ، فالأسعار كانت رخيصة جدا ، وعلى سبيل التمثيل :
كان رطل اللحم بقرشين ، والسمك كانت المشنة منه وفيها قرابة أربع أوقات " قرابة 5 كيلو " بعشرة قروش ، والخروف الكبش بجنيه ، والعجل الكبير بعشرة جنيهات .
**********
وخرجت من سنة الكتاب بفوائد متعددة ، منها:
1 حفظ قدر طيب من القرآن الكريم .
2 نمو غريزتي الاجتماعية بمخالطتي للتلاميذ في مثل سني.
3 القدرة والتدفق في التلاوة دون هيبة .
4 الشعور بالاعتزاز النفسي ؛ إذ كنت أصغر طفل في الأسرة وربما في الكتاب . وكانت أمي تقول: " جابر حبيبي آخر العنقود " ، لأنها لم تنجب بعدي.
5 الصبر وتحمل خشونة الكتاب في الجلسة والشرب ، والتعامل القاسي بالمقرعة أحيانا .
فسنة الكتاب كان لا بد منها كنوع من التدريب الطيب الذي يسهل مسيرتي في حضن اللغة العربية .