أين يسكن الحب!! في القلب أم في العقل

محمد زهير الخطيب/ كندا

[email protected]

عندما أراد الانسان منذ القدم أن يعبر عن حبه وبغضه بحث عن مكان في جسمه ينسب له هذه المشاعر، ولعله وجد أنسب الاعضاء لهذه المهمة القلب، ذلك العضو النبيل الذي يسكن بين أضلاعه ويخفق بقوة عند رؤية الحبيب ويتفاعل بقوة مع ما تنقله الحواس من سعادة وألم وجمال...

لم يكن دور العقل والدماغ واضحا عند الاقدمين، وكان أرسطو يظن أن القلب هو منبع الروح وموطن العقل، كذلك أشار القرطبي في تفسيره إلى أن العقل يضاف إلى القلب مثلما أن السمع محله الاذن. وقد استغرب القرطبي أن تروى عبارة عن أبي حنيفه مفادها أن العقل محله الدماغ، وقال ما أراها صحيحة. وقد شاركت القواميس القديمة في ترسيخ هذا المفهوم ففي مختار القاموس: القلب هو الفؤاد والعقل.

ثم عرف الناس أن القلب عضو عضلي نابض يتوضع في الجهة اليسرى من تجويف الصدر ويسكن بين الاضلاع، وظيفته ضخ الدم إلى الجسم في دورة دموية ضرورية للحياة، وأنه لاعلاقة له بالعقل، وأن العقل هو في الدماغ. ومع ذلك فقد بقي التعبير عن العقل بالقلب، ولكنه انتقل من الحقيقة إلى المجاز، ولم يكن في ذلك صعوبة حيث أن اللغات جميعها ومنها اللغة العربية مليئة بالمجاز والتشبيه، ألم يقل الشاعر: وإنما أولادنا بيننا   أكبادنا تمشي على الارض. ولاشك أن الاولاد ليسوا أكباداً، إنما هم كالاكباد تشبيها ومجازاً، وبقي الناس يقولون للحبيبة: أحبك من كل قلبي على سبيل المجاز، ولم يستسغ حبيبٌ أن يقول لحبيبته، أحبك من كل عقلي!!! حتى بعد أن عرف أن العقل هو ينبوع الحب وليس القلب. ومن المجاز قولهم في تشبيه وجه الحبيبة بالقمر رغم أن وجه القمر رمادي كالح مجدّر كما تصوره وكالة الفضاء ناسا. و ما زال العشاق يرسلون رسائل حبهم عبر الاثير رغم إنهيار نظرية الأثير وإثبات العلم بان الاثير غير موجود منذ أيام اينشتاين..!

الشعراء والقلب:

وقد توسع الشعراء في تحميل القلب أصنافا من المشاعر والاحاسيس هو بريء منها تشريحياً،

فهذا بشار بن برد يجعل القلب مصدر الاختيار والرضى، بل أداة السمع والبصر لذي الحب فقال:

يزهدني   في   حب   عَبْدَةَ   معشرٌ       قلوبهم     فيها     مخالِفةٌ   قلبي

فقلتُ دعوا قلبي وما اختار وارتضى       فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحُبِّ

فما تبصر العينان في موضع الهوى        ولا   تسمع الأذنان إلا مِنَ القلبِ

غير أن البحتري كان أكثر جرأة فافترض أن القلوب تنطق!! ولكنها تخرس عند اللقاء فقال:

فتنطقُ منا أعينٌ حين نلتقي               وتخرسُ منا ألسنٌ وقلوبُ

واعتبر امرؤ القيس القلب جهة تلقي الاوامر من الحبيب للتنفيذ فقال يخاطب محبوبته فاطمة:

أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدللِ              وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجمِلي

أغرَّكِ مني أنَّ حبكِ قاتلي         وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ

وأناط الشريف المرتضى التفكير بالقلب فقال:

فكرْ بقلبكَ فيما أنت تبصرهُ               فالأرض مملوءة الأقطار بالعبرِ

ومن المعاصرين إعتبر شوقي القلب عرين الشجاعة فقال:

إن الشجاعةَ في القلوب كثيرةٌ             ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلُ

واعتبر قيس ليلى أن القلب مكان التوبة فقال مخاطبا قلبه:

وكنت وعدتني يا قلب أني        إذا ماتبت عن ليلى تتوبُ

فها أنا تائبٌ عن حب ليلى        فما لك كلما ذكرت تذوبُ؟

القلب في القرآن الكريم:

وعندما نزل الروح الامين بالقرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدّث القرآن العرب بما يفهمون واستخدم مصطلحاتهم ومفرداتهم في التعبير، ونسب العقل إلى القلب كما ينسبون وحمّله من المهام ما يحمّلون حتى يفهموا آياته ويستوعبوا دلالاته،  وقد وردت كلمة القلب ومشتقاتها في القرآن الكريم 132 مرة ، وكلها بمعنى العقل واللب والفؤاد وذلك وفق ما يلي:

"طبع" أو "ختم على قلوبهم" 14 مرة ، " في قلوبهم مرض" 12 مرة، "لتطمئن قلوبهم" 7 مرات، " قست قلوبهم " 6 مرات، "سنلقي في قلوبهم الرعب " 5 مرات، " في قلوبهم" زيغ 4 مرات ، " ألّف بين قلوبهم" 4 مرات، "علم ما في قلوبكم" 4 مرات، "جعلنا على قلوبهم أكنة " 4 مرات، "وجلت قلوبكم" 3 مرات، " ليربط على قلوبكم " 3 مرات …

ووردت كلمة " الفؤاد " في القرآن الكريم 16 مرة كلها بمعنى العقل والفهم.  ووردت كلمة " اللب " 16 مرة أيضاً كلها بمعنى: يا أولي الألباب أي يا أصحاب العقول والأفهام.

وقال تعالى في سورة الحج الآية 46: " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" وقد فهم المفسرون أنها عمى العقول والأفهام وليس عمى تلك العضلة التي في الصدر والتي يعلمون تماماً بأن ليس لها عينان حقيقيتان تبصران الضوء والصور ولكنها عيون العقل المجازية التي ترى حقائق الأمور وبواطنها وغيبياتها. وكما قلنا ذكر القرطبي في تفسيره لهذه الآية أن الله سبحانه وتعالى في قوله: "فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها" قد أضاف العقل إلى القلب لأنه محله مثلما أن السمع محله الأذن. ثم يقول القرطبي مستنكراً: وقد قيل أن العقل محله الدماغ وروي هذا عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة..!

القلب والاعجاز العلمي:

والقرآن الكريم معجز من وجوه متعددة، من جهة اللفظ والنظم والبلاغة ودلالة اللفظ على المعنى... وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكرها العلماء في كتب التفسير.

وقد تحدى الله عز وجل الانس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا، فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله، فلم يستطيعوا، فأفسح لهم في التحدي فقال عز من قائل: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)  البقرة 23-24

وقد تكلم بعض العلماء عن وجه آخر من الاعجاز هو الاعجاز العلمي، وتوسع الباحثون المعاصرون في هذا المجال فأحسن كثير منهم، وحمل بعضهم النصوص ما لا تحتمل رغبة في إسناد الاعجاز العلمي إليها، ومن هذا محاولة إعتبار أن القلب هو مكان العقل على الحقيقة وليس على المجاز، وجاؤوا على ذلك بادلة لاتصح وشواهد لا تثبت، وما ينفع الباحثين حسن النوايا عند فقدان الدليل. فنقل بعضهم أن عمليات زراعة القلب تثبت أن المريض يتغير بعد زراعة قلب آخر له، وهذا ما نفاه العلم.

وأحب أن أشير هنا إلى أني استفدت في هذا المقال من الدكتور عامر شيخوني الطبيب في جراحة القلب في مستشفى حمد العام في قطر، وخريج المستشفيات الاميركية، وأنقل عنه هذه الفقرة العلمية التي هي من اختصاصه حيث يقول:

زراعة القلب:

أجريت أول عملية لزرع القلب البشري سنة 1967 في أفريقيا الجنوبية على يد الطبيب الجراح كريستيان برنارد، كما أجريت أول عملية لزرع القلب الصناعي سنة 1969 في أمريكا على يد الطبيب الجراح دنتون كولي، ومنذ ذلك الحين أجريت هذه العمليات لآلاف من البشر. وقد أثبت زرع القلب وزرع القلب الصناعي بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا توجد أية علاقة بين العواطف والمشاعر والأفكار وبين القلب، إذ أن المرضى الذين زرعت لهم قلوب بشرية طبيعية أو قلوب مصنوعة من مواد معدنية وبلاستيكية لم تتغير مشاعرهم نحو من كانوا يحبون ولم تتغير آراؤهم وأفكارهم الأساسية.

وعلى كل حال، فمهما اختلفتُ مع قرائي الاعزاء في هذا الموضوع فسيبقى حبهم يملك فؤادي، ومودتهم تسكن شغاف قلبي.