قضية البعث

قضية البعث

في ضوء الوحي والعقل

محمد المجذوب

[تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا] .

هذه الإشارة الإلهية على صراحتها لا يدرك دلالتها سوى المؤمن الذي أخذ نفسه بأدب القرآن ، فهو يقتصي معانيه معانيه بكل طاقاته العقلية والشعورية ، ولذلك يجد نفسه كل يوم في جديد من هذه المعاني لا تفتأ تفتح لعينيه آفاقاً متجددة من أسرار هذا الكتاب ، الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير..

لقد كنت استمع إلى الآيات الكريمة التي رتلها الإمام من سورة (فاطر) أثناء صلاة الفجر، فأسبح في جوها مأخوذاً بدلالاتها حتى بلغ قوله تعالى [والله أرسل الرياح فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها .. كذلك النشور] وكأني لا أسمع حروفاً وألفاظاً بل أشاهد بعين بصيرتي عملية الخلق والتكوين والبعث في مراحلها المتتابعة . فأرى الرياح وقد أرسلها البارئ العظيم بصيغة الماضي (أرسل) فلا تلبث أن تقوم بمهمتها التي وجهت إليها فإذا هي تثير ـ بصيغة المضارع الدال على الحركة والتجدد ـ متفرقات من السحاب التي لا تلبث أن تنطلق نحو الجهة التي حددت لها لتصب حمولتها من الماء على الأرض اليابسة ، التي فارقت بشاشة الحياة ، كالميت الذي انقطع عمله ، فما إن يمسها ذلك الري حتى تعاودها الحياة بعودة الانفعال والتفاعل والإنبات ..

ولكن المشهد لم ينته بعد فإذا نحن أمام عالم آخر من الوجود المحجوب ، الذي طالما تساءل عنه الإنسان تشوفاً إلى مصيره المجهول ، غير أنه على سمعته وروعته ولهفته إلى رؤيته لا يكاد يلمح منه سوى الصورة المجملة المقصورة على هاتين الكلمتين (كذلك النشور) .. ولذلك فلا مندوحة للعقل من التساؤل هنا عن الصلة بين صدر الآية وخاتمتها ، وسرعان ما يجد نفسه تلقاء القضية الكاملة التي تضعه أمام مبدئه ونهايته !..

من المشهود إلى المحجوب :

إنك ستذكر حتماً هاتيك الصورة المعهودة ، التي طالما وقع حسك عليها حين تتلبد السماء بالغيوم ، وهي مسوقة بسياط الرياح لتكثف محتوياتها من الذرات المنتشرة ، حتى تلقي بها إلى ميت من الأرض ماء غدقاً يوقظ هاجع التراب ، فينهض لتفجير طاقة الحياة في البذور الدفينة ، لتطل من قبورها أعشاباً وأشجاراً وأثماراً وأزهاراً ، ولتنشر على البقاع الأخرى المناهل التي تمد الأحياء من بشر وطين وحيوان بكل ما يعوزها من أسباب البقاء ..

ولكن الصورة الرائعة لم تستكمل دلالتها بهذه العناصر والمراحل ، إذ تحملك من المشهود إلى المحجوب فتذكرك بالمراحل التي تقطعها أنت كذلك في رحلة الحياة ، منذ أبدعتك يد الخلاق العظيم من تراب هذه الأرض حتى تصير بك إلى الخمود الذي رأيت مثله في موات الأرض والنبات ، وكما أن خمودها لم يعد أن يكون واحداً من مراحل الإبداع الإلهي يستريحان خلاله من الكدح الدؤوب ، إلى حين يأتي أمر الله بمدد الحياة الجديد ، فيستعيدان وجودهما كأتم ما يكون الوجود .. هكذا أنت صائر بقدرة هذا الحكيم العليم بعد الوجود الأول إلى حياة جديدة أخرى ، لا كحياة التراب والنبات التي لا وظيفة لها سوى تامين الحاجات الضرورية للمخلوق ، الذي سخر الكون المادي لخدمته ، بل إلى حياة خاصة بهذا المخلوق الذي ميزه الخلاق الحكيم بالمسئولية عن أعماله وأقواله ، فكان بهذه المسئولية جديراً بالخلود الذي لا ينقطع ، والنعيم أو الجحيم الذي استحقه وفق ميزان العدالة ، التي لا يضيع عندها عمل عامل ولو مثقال ذرة من الخير أو الشر..

بين الموت والحياة :

ويستغرقني موضوع البعث حتى ليلاحقني خياله فلا أجد مناصاً من معالجته في هذه الخلوة التي أنفرد بها للكتابة . وتتداعى على ذهني الأفكار من هنا وهناك ، واتذكر ذلك المشهد المهيب الآخر الذي تعرضه سورة الروم في قول الحي القيوم : [يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويحي الأرض بعد موتها.. وكذلك تخرجون] فأشخص إلى ذلك التداخل العجيب بين الحياة والموت . فها هنا حي يخرج من ميت وهناك ميت يخرج من حي .. وهي عملية متجددة أبداً بدلالة الفعل المضارع ، ويجب أن تكون مما يقع عليه الحس في وجودنا اليومي .. فأين يحدث هذا وكيف ؟..

وسرعان ما انتصبت في بصيرتي صورة الأظفار التي قلمتها آنفاً ، والشعر الذي قصصته على رأسي بالجهاز الكهربي .. أليس كلاهما من الأشياء التي توصف بالموت .. أو لم يكونا قبيل لحظات يتمتعان بخاصية النمو المستمدة من الكيان الحي الذي يشار به إلي ؟.. فتلك هي إذن أقرب الصور لخروج الميت من الحي .. فلنبحث عن الصورة المقابلة التي تمثل الحياة وهي خارجة من الميت ، وها نحن أولاء نشهدها كل لحظة في انبثاق النبات من أعماق التراب ! .. والنبات ما دام بخاصية النماء فهو حي ، وفي انبثاقه من التراب الجامد أقرب الأمثلة كذلك على خروج الحي من الميت .. وقد رأينا عملية الموت والحياة وهي تتعاور الأرض فبينا نراها هامدة لا أثر للحياة عليها ، إذا هي تهتز وتربو بمجرد أن مستها رحمة الله بالغيث المنهمر.. ثم ماذا ؟.. ثم توافيك النتيجة المنطقية التي لا تقبل الخلاف ، وهي جريان هذا القانون على وجود الإنسان الذي يشارك النبات في مسيرة التطور، من الولادة حتى انطفاء الذبالة الأخيرة .. وفي موعده المقرر بعالم الغيب حيث تفاجئه دعوة الخالق العظيم فإذا هو ينفض عن نفسه غبار الردى ويأخذ طريقه إلى ساحة الحساب !..

الرحلة الجديدة