أهمية وضرورة الإدارة في العمل الإسلامي 1

سلسلة

أهمية وضرورة الإدارة في العمل الإسلامي

-  1 -

طريف السيد عيسى

السويد – أوربرو

[email protected]

مقدمة وتوطئة

لم يُعرف لهذه الأمة وجود وريادة إلا بالإسلام .

فهو الأساس الذي قامت عليه الأمة وبه نهضت وسادت ، وإذا نظرنا في تاريخ الدعوة منذ بعثته صلى الله عليه وسلم , وجدنا أنها كانت تسير ضمن عملية إدارية محكمة، بلغت في تخطيطها وتنظيمها وتربيتها للسلوك الإنساني ذروتها.

واستفادت من تجارب الغير ثم طورتها خدمة لهذه الدعوة .

( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ).

ولقد أحسنت أجيال الخيرية عملية الدعوة بإدارة فذة  فحققت الريادة والقيادة .

وإذا أردنا العودة للريادة والقيادة فلا مناص من إقتفاء أثر جيل الخيرية , وأن نحسن العمل ونتقنه .

يقول الله تعالى: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) سورة البقرة – آية 195.

(ويقول صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء...)

1- سيتم التركيز في هذه السلسلة على أهمية الإدارة وضرورتها في العمل الإسلامي , فالإدارة في الإسلام هي التي توجّه الجهد البشري وتُنظّمه ليؤدّي أعلى إنتاج في سبيل الله، طاعة لله وعبادة لله، في أقصر وقت، وعلى أعلى درجة من الإتقان. وهي التي تُحدّد المسؤوليات والصلاحيات ليعرف المسلم حدوده فيقف عندها ( رحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده )، ويعرف مسؤوليّاته فيبادر إليها بحوافزه الإيمانية..

2- إنَّ من أخطر عيوب المسلمين اليوم يبرز في الواقع الإداري.حيث اختلطت الإدارة في واقع المسلمين بالأهواء الفردية المتصارعة، والمصالح المتضاربة والعصبيات الجاهلية، حتى لم يعد هناك رقيب ذاتي نابع من الإيمان الصادق والعلم الصادق بمنهاج الله، وحتى لم يعد هنالك حوافز إيمانية تدفع المسلم إلى الوفاء بعهده مع الله، العهد الذي طوته القرون فغاب عن وعي المسلمين، وغاب عن نهج الدعوة، ونهج التربية والبناء، وغاب عن ميدان الممارسة الإيمانية.

حين يعمل المسلم مع شركة أجنبية لها نظامها وإدارتها الحازمة، نجده ينضبط كلَّ الانضباط. يستيقظ باكراً ويحضر إلى عمله الساعة الثامنة مثلاً إذا كان هذا هو الوقت الرسمي لبدء العمل، وربّما يحضر قبل ذلك. ولو فرضنا أن نفس هذا المسلم كُلِّف  بأي عمل في ميدان العمل الإسلامي  ، في ظل إدارة غير حازمة، بعمل له نظامه ووقت بدء العمل وغير ذلك، فإنك تجده يتأخر ساعة أو ساعتين. ولو سألته عن سبب التأخر لوجد لك ألف عذروعذر  يسوّغ به إهماله وتقصيره.

ليس هذا المثل ضرباً من الخيال. إنه الواقع المتكرر في حياة المسلمين بشكل متكرر، حتى بدا أن حوافز الدنيا هي التي تُحرّك معظم المسلمين اليوم معزولة عن الحوافز الإيمانية، إلا من رحم ربّك.

3- إن الإدارة والنظام ميدان أساسي من ميادين الدعوة الإسلامية، فتدخل الإدارة والنظام في كلّ نشاط أو

عمل ,في الدعوة إلى الله ورسوله، وفي التربية والبناء، وفي سائر الميادين، وفي جميع حياة المسلمين.

قد يسأل البعض مستغربا عن الأسباب التي تدعوني إلى التركيز باستمرار  حول الإدارة والتنظيم ودورهما في التطور والتقدم وجودة الأداء .

- 1 -

وكي يكون جوابي مقنعا فلنمعن النظر بدولة ماليزيا وتجربتها الرائدة  , تلك الدولة التي كانت تشكو من الفقر والتخلف ,فقيض الله لها شخصيتين أحسنوا الإدارة والتفكير والتطبيق والتنفيذ , هما  رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد وإبراهيم أنور هذين الرجلين  أمسكا زمام الأمور في ماليزيا ، وكان بلداً فقيراً معدماً، وخرجا من السلطة في بدايات القرن الميلادي الحالي ، بعد أن صنعا بلداً صناعياً وشعباً جاداً يصنع كل شيء، وتمكنا بذكائهم وحنكتهم من نقل التقنية المتقدمة في اليابان وأوروبا وأمريكا إلى بلادهم، وإعادة بيعها في كل مكان بجودة وأسعار منافسة.

فهل ندرك أهمية الإدارة وحسن التنظيم كي ننجح ونحقق أهدافنا ؟؟؟

4- عندما نتحدث عن الإدارة فلابد من ضرورة التنويه لقضية مهمة وهي أن علم الإدارة وما يتضمنه من نظريات وقواعد , فلا يمكن التسليم له بالمطلق , فنحن كمسلمين لنا قيمنا التي يفتقدها الغرب , وهذه القيم تلعب دور مهم في عملية الإدارة , وكون القيم تشكل وتوجه وتحرك سلوكنا في هذه الحياة،فهي إذا مطلب رئيس في مجال الإدارة  والعمل،وتعد مرتكز التقدم والإنجاز في مجالات العمل المختلفة،فالعمل لابد أن تنتشر وتسود فيه قيم الإتقان والالتزام والانضباط والأمانة والصدق ومراقبة الله , ومايتصل بالجودة وقبل ذلك تقدير قيمة العمل ذاته واحترام العاملين وتقدير قيمة الوقت وتقدير المبدعين والمتميزين وحب الطموح والتعاون والمبادرة والتحدي وغير ذلك من القيم التي تتصل بالعمل ذاته،وتحدد مساراته وتتحكم في المستوى الذي يكون عليه العمل كما وكيفاً،فليست المعارف أوالمهارات وحدها هي الموجه الأول في الإدارة  والعمل رغم إنها مطلب ولكن القيم تأتي في الدرجة الأولى من الموجهات لأنها بالتأكيد تؤثر على المعارف والمهارات وعلى مدى فاعليتها. وذلك أنه عندما تسود القيم الإسلامية في الإدارة وساحة العمل فإنها تنظم سلوكيات الأفراد وتشعر كل فرد بأهمية عمله الذي يؤديه مما ينعكس على سلوكه وتصرفاته في الاجتهاد والأمانة وتقدير الوقت واحترام الأنظمة والالتزام باللوائح والأنظمة  والضوابط التي تضعها المؤسسة والتحلي بالصبر والمثابرة وتحمل المسؤولية والتعاون مع الآخرين واحترام العمل،والحرص على تطوير الذات،و إن تطبيق القيم الإسلامية من الاستقامة والاحترام و روح الجماعة والاتصال المفتوح والتميز والصدق والإخلاص والتعاون،وتحمل المسئولية والثقـة بالنفس،هي التى تساعد العاملين في جميع المجالات على تكوين وفهم وتطبيق ثقافتهم الإسلامية الشاملة،والنجاح في حياتهم العملية والسعادة في الدنيا والآخرة.

5- كما أن العمل الإداري يفقد جدواه إذا انعدمت فيه روح العمل المؤسسي الجماعي , وعليه فلا بد من مراجعة

أساليب العمل الإداري  الدعوي اليوم, كما أنه من الضروري العناية بتنمية الفكر الجماعي، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب القوة والتحدي في هذا الزمان، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد؛ ، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير الأفراد. 

فالعمل المؤسسي إذا هو : كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل، لبلوغ أهداف محددة، ويقوم

بتوزيع العمل على لجان كبرى وفرق عمل وإدارات متخصصة : علمية، ودعوية، واجتماعية؛ وغيرها حسب حاجة العمل , بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة اختصاصها.

وليس المراد بالعمل المؤسسي العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي؛ إذ مجرد التجمع على العمل، وممارسته من خلال مجلس إدارة، أو جمعية أو مؤسسة لا يجعله مؤسسياً، فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح ومجالس وجمعيات عمومية إنما تمارس العمل الفردي؛ لأنها مرهونة بشخص منها؛ فهو صاحب القرار، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي.

6- لابد أن تتميز الإدارة في العمل الإسلامي عن الإدارة لدى الآخرين , فالفكر الغربي يعالج المشكلة الإدارية في إطار نظريات ذات نظرة تعتمد على المنافع الشخصية أو الجماعية، أو المنافع المشتركة في إطار العلاقات بين الدول أو بين مكونات المجتمع  دون أدنى نظرة للدين أو العقائد.

 ومن خلال المقارنات نجد أن الإدارة في ساحة العمل الإسلامي تتميز عن نظيرتها المعاصرة بثلاث خصال هي:

أ- الإدارة في ساحة العمل الإسلامي تسعى بصفة أساسية لخدمة الأهداف المشروعة من خلال أنشطتها الخدمية والسلعية المباحة، ويحكمها في ذلك الإيمان والعقيدة الربانية.

ب- يؤدي المكلف بالعمل في الإدارة في ساحة العمل الإسلامي  واجبه على أساس أنه قيمة إيمانية يؤديها كعبادة  

ت- التعامل في الإدارة في ساحة العمل الإسلامي  يتم على أساس الأخوة الإسلامية، والمساواة، واحترام إنسانية العامل، ونوع العمل الذي يؤديه.

ث- قد يحتاج العمل أحيانا لأفراد مفرغين يأخذون أجرا على عملهم كون ليس لهم أي دخل آخر , ولكن هذا لايمنع الفرد أن يبذل جهد إضافي تطوعي بدون أجر , كون الحافز إيماني بحت .

7- لاننكر ماحققه الإنسان الغربي من تطور وتقدم في مجال الإدارة , ولا يوجد في شرعنا ما يمنع من الأخذ والإستفادة مما لدى الغير ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ) .

لكن من الظلم تجاهل التجربة الإسلامية في مجال الإدارة عبر التاريخ .

 ( يقول برينولت في كتابه-  تكوين الإنسانية-  :

العلم هو أعظم ما قدمته الحضارة العربية إلى العالم الحديث عامة. والجدير بالذكر أنه لا توجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان أثر الحضارة والثقافة العربية، وإن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي الذي كان المحرك للتطبيق العملي على الحياة، وإن الادعاء بأن أوربا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادعاء باطل وخالٍ من الصحة جملة وتفصيلا فالفكر الإسلامي هو الذي قال: انظر وفكر، واعمل، وجرِّبْ حتى تصل إلى اليقين العلمي  ) من كتاب لمحات من الحضارة العربية والإسلامية د / علي عبد الله الدّفاع

ويعتقد الدكتور  سارتون :  أن المسلمين كانوا أعظم معلمين في العالم، وأنهم زادوا على العلوم التي أخذوها، وأنهم لم يكتفوا بذلك، بل أوصلوها إلى درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء..

  ويقول نيكلسون:  والمكتشفات اليوم لا تحسب شيئاً مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضاءً في القرون الوسطى ولا سيما في أوروبا..

  ويقول دي فو:  إن الميراث الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد أتقنوه، وعملوا على

   تحسينه وإنمائه حتى سلموه إلى العصور الحديثة..

ويقول سيديو:  كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العلم والفلسفة والفنون، وقد نشروهما أينما حلَّتْ أقدامهم، وتسربت منهم إلى أوروبا، فكانوا هم سبباً في نهضتها وارتقائها ..

فما من أمة تستطيع أن تنجح في كل المجالات دفعة واحدة دون أن تكون مصحوبة بإدارة قوية وحكيمة تستطيع أن تسير من نجاح إلى آخر..

8- رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا واسوتنا ومعلمنا ,(فلقد نظَّم شؤون حكومته الإدارية والديوانية تنظيما كاملا بعد أن استقر أمره بالمدينة وقد اتخذ من المسجد مقرا لحكومته، ففيه كان يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم للناس، ويستقبل الوفود ويحكم بينهم، ويفقههم في أمور دينهم، وفيه كان مسكنه في حجرات خاصة.

 ابتدأ الرسول صلى اله عليه وسلم التنظيم الإداري من خلال تعيين العمال في الولايات والمدن والقبائل المختلفة لتعليم الناس أحكام القرآن, والتفقه في الدين, وإقامة الصلاة ,وجباية أموال الزكاة لإنفاقها على مستحقيها, والقضاء بين الناس,  فعين عتَّاب بن أسيد واليا على مكة بعد فتحها سنة ثمانٍ للهجرة وهو دون العشرين من العمر وفرض له راتبا شهريا قدره ثلاثون درهم، فكان ذلك أول راتب خصص للعمال والولاة, كما ولَّى الرسول صلى الله عليه وسلم  الحارث بن نوفل الهاشمي بعض أعمال مكة، وعيّن أبا بكر الصديق بعد غزوة حنين.

وكان للنبي أمراء ولّاهم المدينة عند خروجه منها ومنهم السائب بن عثمان الذي أمره عليها عند خروجه إلى غزوة (بواط ) في السنة الثانية للهجرة، كما أناب سعد بن عبادة عندما غزا (ودان)، وأناب الإمام علي بن أبي طالب عندما غزا - تبوك- .) كتاب: الحضارة العربية الإسلامية دراسة في تاريخ النظم -  د / رحيم كاظم الهاشمي أ / عواطف محمد شنقارو

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين بمجلس للشورى، كما كان يتخذ كُتَّابا للمراسلات بينه وبين الملوك والحكام المجاورين، فقد كان عبد الله بن الأرقم يجيب على الملوك والرسل، وكان له كاتب للعهود هو علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، كما كان له صاحب سر هو حذيفة بن اليمان، واتخذ قائما على خاتمه وتسمي المصادر الحارث بن عوف المري، كما تذكر أيضا أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  كان يضع على خاتمه الربيع بن صيفي ابن أخي أكثم.

وكان له ترجمان بالفارسية والقبطية والرومية هو زيد بن ثابت، وقيل: إنه كان يترجم أيضا من الحبشية والعبرية.

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ولاة في شبه الجزيرة العربية ، فأرسل معاذ بن جبل قاضيا على اليمن.

وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رسله وسفراءه إلى الملوك، فأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وبعث سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي.

 ورغم البساطة التي تتسم بها الإدارة الإسلامية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنها وضعت للمجتمع الإسلامي نواة التنظيم الإداري الذي سار عليه الخلفاء الراشدون الذين أضافوا إلى هذا التنظيم ما وجدوه ضروي، وما أملته ظروف حياتهم، وما اجتهدوا فيه من أجل خدمة مصالح الأمة.

وإلى لقاء مع حلقة جديدة بإذن الله

-- ------------------

المراجع :

أود التنويه في بداية هذه السلسلة إلى المراجع التي تم الإعتماد عليها , وذلك حتى لا أضطر في كل حلقة أن أذكر تلك المراجع .

1-  مقدمة في الإدارة – الدكتور أحمد بن داود المزجاني الأشعري .

2-  الإدارة في الإسلام الفكر والتطبيق – الدكتور عبد الرحمن إبراهيم الضحيان .

3-  دراسة تحليلية للوظائف والقرارات الإدارية – الدكتور مدني عبد القادر علاقي .

4-  الخطة والتخطيط لماذا وكيف – نبيل بن جعفر الفيصل .

5-  الحضارة العربية الإسلامية دراسة في تاريخ النظم – الدكتور رحيم كاظم الهاشمي و الأستاذة عواطف محمد شنقارو .

6-  مجلة آفاق الإدارة – العدد الأول .

7-  لمحات من الحضارة العربية والإسلامية – الدكتور علي عبد الله الدفاع .

8-  تكوين الإنسانية – برينولت .

9-  دليل التدريب القيادي – هاشم طالب .

10- أبجديات التصور الحركي في العمل الإسلامي – الأستاذ فتحي يكن .

11- المسار – المفكر الإسلامي محمد أحمد الراشد .

12- إتخاذ القرارات الإدارية – الدكتور نواف كنعان .

13- خصائص الإدارة الخمس – الأستاذة دارين صياد .