التحليق في فضاءات الود
كاظم فنجان الحمامي
النوارس طيور ملائكية منحها الله حرية العيش والتحليق فوق كل المسطحات المائية, فانتشرت في المياه والأنهار والبحيرات والبحار والمحيطات, حتى غطت ثلاثة أرباع العالم بخطوطه الطولية والعرضية, لكنها لم ولن تتبجح بهيمنتها المطلقة على كوكب الأرض, ولم تتورط بارتكاب أي حماقة من الحماقات البشرية المتكررة, ولم تشترك بنقل فيروس أنفلونزا الطيور. وهذه دلالة أكيدة على حسن سلوكها وبراءتها من كل الأعمال الطائشة التي ارتكبتها الطيور المتهورة.
يتميز طائر النورس بصفاء لونه الأبيض الناصع, وبصره الثاقب, وإحساسه المرهف, وطيرانه المنخفض, وتغريده الممتع, وشكله اللطيف, وحركاته البهلوانية, وعشقه للسفن والموانئ. تراه يجوب البحار لامسا بجناحيه وجه الماء. غاسلا عنه هموم التغريب في البحار البعيدة. يرفرف بجناحيه مودعا الشمس الغريقة في أسى عميق. بسبب ما يراه من نفايات نفطية, لوثت مياه البحر وانتهكت بيئة شط العرب. عرف طائر النورس بروحه المسالمة, وقلبه العامر بحب الناس. كان وما يزال صديق البحارة في أسفارهم الموحشة. ومؤنسهم الوحيد في رحلاتهم النائية. ولم يفرق بين احد منهم. مهما كانت جنسيته, أو قوميته, أو لون بشرته, أو ديانته. فقد تعايش معهم جميعا, وآمن بتطبيق مبدأ المساواة بين أبناء الجنس البشري. ورافق سفنهم في رحلاتها الطويلة. ولم يفرق بين سفينة وأخرى. مهما كان نوعها, أو حجمها, أو طبيعة عملها, أو الحمولة التي تحملها, أو المهمة المكلفة بها, أو المسار الذي تسلكه.
تفننت النوارس في التودد إلى العاملين في البحر. وأجادت التقرب منهم, واقتفت أثرهم حيثما أبحروا. والتزمت بمرافقتهم من الشروق إلى الغروب. وشاركت الصيادين في جمع محصولهم اليومي. تتردد يوميا على مرافئ وجزر شط العرب. وكأنها على موعد مقدس مع هذه الأماكن. لتمارس هوايتها المفضلة في الترفيه عن الناس ومداعبتهم. وتحمل إليهم الفرح في مناقيرها المكللة بقطرات الندى البحري.
وطائر النورس يعرف صوت أليفته, ويسمعه من مسافات بعيدة, حتى لو كان نائما. ومن الغريب أن جميع الأصوات الأخرى مهما كانت قوتها لا توقظه من نومه. فقلب هذا الطائر هو بوصلته في التعرف على من يبادله الحب. لكن الملفت للنظر في سلوك هذا الملاح التائه في بحر الحب. هو الإحساس المرهف الذي يتمتع به في الاستدلال الفطري على مدى تحضر المجتمع البشري الذي يتعامل معه. وقدرته العجيبة في استشعار نزعاتهم العدوانية تجاهه. فتراه يختلف في سلوكه العام من مكان إلى آخر في تحديد المسافة الآمنة التي يتقرب فيها من الناس. فتجده ملتصقا من بعضهم هنا. وحذرا من البعض الآخر هناك. ودودا في مناطق معينه. ونافرا في أخرى, فخطوط الاقتراب والابتعاد من الناس تقاس عنده وفقا لإحساس قلبه الصادق.
ولا عجب إذا رأينا طائر النورس يداعب طاقم هذه السفينة الراسية شمال الفاو. ويتراقص أمامهم على إيقاع العشق المأسور بأرجحة الموج. وعلى تطاير فقاعات زبده الفضي. ويجفل من طاقم السفينة الأخرى الراسية في خور عبد الله, ويبتعد عنهم. فالنوارس قادرة على سبر أغوار النفوس البشرية. وتمييز عدوها من صديقها. ولها القدرة على قراءة معدلات ميول الناس نحو الخير أو الشر. فضلا عن أنها لا تمتهن الكذب والتحايل والمداهنة مثل الطيور الشريرة. ومثل بعض جماعتنا. ولا تتبع الأساليب الانتهازية والوصولية. فهي تهبط من طيرانها لتلتقط الأسماك من الماء. ثم تعاود ارتفاعها محلقة من جديد. سلوكها واضح وصريح أمام الجميع. لا تتظاهر بحب الأسماك, ولا تدعي الحرص عليها. هي تلتهمها أمام الملأ إشباعا لجوعها, وإرواءً لغريزتها دون كلام كبير عن الصيد الجائر, والعولمة, والشفافية, والسفسطة السياسية. ففي سلوكها لا تعرف إلا الاستقامة, مع أنها جاءت من البحار المتقلبة المزاج. فمتى نتعلم منها, ونتخذ من الوضوح درعا يقينا من غدر الآخرين, فالحياة تتسع للجميع, شريطة ان نبحر في مساحة الود التي نبحث عنها. ونعرف أين نجدها, ونحسن اختيار المرشحين في الانتخابات القادمة, فلنتعلم من هذا الطائر البحري المسالم, العاشق الدائم للحرية. المحلق فوق الشطآن والمرافئ. المسافر مع امتدادات البحار. الذي كان ولا يزال رمزا لكل ظامئ إلى فضاء الانعتاق, ولكل حالم بلحظة يتنسم فيها العبير البحري دون قيود أو قضبان. ليكون عنوانا يلازمه في حله وترحاله. وفي تنقلاته بين فضاءات المحيطات الرحيبة. ناشرا عطره على امتدادها. ناثرا حكاياه بين ومضات الصدى ونقوش السفر عبر بحار الله الواسعة. منافحا عن حلمه باقتدار ومبشرا بالأمل والإياب. شاهرا بياضه كالحقيقة. وموحيا للشعراء بأجمل القصائد. .