خصائص المجتمع العمراني الأخوي

د. رشيد أبو اليُسْر

د. رشيد كُهُوس أبو اليُسْر

جامعة محمد الأول

وجدة-المغرب الأقصى

1.  الرابطة القلبية بين المسلمين:

وهذه أم الخصائص « سِمَتُها النفسية السلوكية الإقلاع عن حب الدنيا والتحررُ من العبودية للهوى. وبهذا الإقلاع والتحرر ينقلب موقف المسلم رأسا على عقب من المِلكية الأنانية لمتاع الدنيا، وتنقلب ذهنيته، وينسلخ من عادات المنكر، ومن الشرك بالآلهة التي يعبدُها - الإنسان- المشرك والغافل من دون الله: الشحِّ والمصلحةِ الخاصةِ والربحِ واللذةِ والمالِ والجاهِ([1])

     عن هذه الرابطة يتحدث هذا الحديث النبوي الشريف، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرtٍ قال :  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: pمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى([2])i.

     فبدون هذه الرابطة القلبية يبقى الحديث عن العمران الأخوي حديثا غير ذي معنى، وكلمة تلوكها الألسن الغافلة.

والعمران الأخوي المثالي المنشود هو الذي تسوده بواعث )أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ((سورة الفتح، الآية: 29). " قطبُ الشدة على أعداء الدين مغناطيسية معطلة بدون قطب الرحمة. أنتِ يا أختَ الإيمان قطب الرحمة إن كان لبأس الرجال مجال. ثم تزاحمينهم هناك كما زاحمت أم عمارة بضرباتها في أحُد أبطال الإسلام.

وذلك المجتمع لا يرتجل، ولا تمطره السماء بمجرد إعلان الحكم الإسلامي. إنما يُبنَى لَبِنَةً لَبِنَةً، ويتألف عضوا عُضوا، وينشَأ جيلا أفضل من جيل. وإلى المؤمنات وَكَلَ رب الخلق سبحانه تربية الأجيال. فأحسنت محسنة إلى نفسها، وبنَتْ آخرتها، وخطت خطواتِ قرب من ربها بإحسان ما وُكِل إليها. ما بناء المجتمع الإسلامي خطبة قولية يكذِب بها الناس على نفوسهم وعلى الناس، بل هي خطوة عملية إثر خطوات. خطوات على أرض الحياة لا في خيال المُنى ".([3])

عن أَبي هُرَيْرَةَ t عَنِ النبي r قَالَ :p لاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا ،وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ،وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ ». قَالَ إِسْمَاعِيلُ في حَدِيثِهِ « وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا التَّقْوَى هَا هُنَا التَّقْوَى هَا هُنَا ». يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثاً « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ »i.([4])

يخاطب ربنا جل جلاله  المؤمنين والمؤمنات في  آيات من سورة الحجرات يعلمهم الآداب الإسلامية العامة بين المومنين والمسلمين. افتتح السورة بتعليمهم أن لا يُقدموا بين يدي الله ورسوله، أي أن لا يشترعوا من الدين ما لم يأذنْ به الله عز وجل  ورسولهr، وعلمهم أن يتقوا الله جل شأنه كما أمرهم في كتابه وسنة نبيهr، وأن يغضوا أصواتهم عند رسوله المصطفى توقيرا وتعظيما واحتراما. وأن يُراعوا حُرمته وحرمة بيته الشريف، لأن من الأعراب الجفاة الغلاظ القساة من كان يناديه من وراء الحجرات. اخرج إلينا يا محمد!

آداب إسلامية مع الله تعالى ورسوله المصطفى هي الدعامة واللبنة الأساس. وعن هذه الدعامة تتفرع الآداب بين المسلمين والمؤمنين فصلتها الآيات من سورة الحجرات تفصيلا، وكملها التعليم النبوي المحمدي  والتربية النبوية.

أمهات هذه الآداب في سورة الحجرات عشْرٌ:

1- )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( (الحجرات:6): أن لا نصدق فاسقاً أو فاسقة جاءتنا بنبإ حتى نتبين صحتَهُ، مخافة أن نؤذِي أحدا عن جهل وسوء ظن.

2- )وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ( (الحجرات:7):  الاعتراف بفضل الله ومنته  علينا إذْ حبب إلينا الإيمان، وكَرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

3- )وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (الحجرات:9):  الإصلاح  بين المؤمنين والمؤمنات في الخصام والقتال.لا أن نضرم النيران.

4- )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( (الحجرات:10): أن نرعى حقوق الأخوة الإيمانية من تواصل وتحاب وتعاون على البر والتقوى... وإزالة الحواجز التي تقف دون تحقيق هذه الحقوق الأخوية.

5-6-7-)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( (الحجرات:11):  أن لا يَسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن عند الله، وأن لا   أن لا يَلْمِزَ([5]) بعضنا بعضا، وأن  لا نتنابز بالألقاب، فيُسمي بعضنا بعضا بأسماء لا يحبها.

8-9-10-)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ( (الحجرات:12):  أن نتجنب كثيرا من الظن. فالمؤمنون الكمل والمؤمنات الكاملات يسبقون حسن الظن بالله عز وجل  وبعباده. مع الحذر.قال مولانا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t: "لستُ بالخَب ولا الخَبّ يخدعني" .

عن سعيد بن المسيب t، قال وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه  للناس ثمان عشرة كلمة حكمة كلها قال: «ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، ومن كتم سره كانت الخبرة بيده، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به وعليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء ولا تهينوا بالحلف بالله فيهنكم الله، ولا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغلاً عما لم يكن ولا تعرض فيما لا يعنيك وعليك الصدق وإن قتلك الصدق، ولا تطلب حاجتك إلى من لا يحب نجاحها لك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله ولا تصحب الفجار لتتعلم من فجورهم، وذل عند الطاعة واستعص عند المعصية وتخشع عند القبور استشر في أمرك الذين يخشون الله فإن الله تعالى يقول: إنما يخشى الله من عبادة العلماء».([6])

وأن لا نتجسس، وأن لا يغتاب بعضنا بعضا.

هذه هي أمهات الآداب الإسلامية التي ابتدأت بها  سورة الحجرات، وبعدها  خاطب الله سبحانه وتعالى  الإنسان، من حيث هو إنسان، يدعوهُ لرفق الإسلام وظل الإسلام الذي يتفيأ بظلاله، ويستضيء بنوره، قال عز من قائل: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات:13).

«ترتيب آيِ القرآن حكمة يكتشفها من يتفكر ويتدبر. جاءت آية الدعوة لِتعارُف الناس وتفاضُلهم وتكارمهم بالتقوى بعد آيات الآداب العامة، وقبل الإخبار عن حال الأعراب الذين قالوا آمنا، وهم إنما أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم. كأن ترتيب الآيات يشيرُ إلينا مِنْ طَرْفٍ لطيف لنستعِدّ بأجمل ما فينا من آداب نستقبل بها الوافد علينا من بني الإنسان. وكأن الترتيب يقول للوافد: لا تحكم على خير أمة أخرجت للناس بتصرف الجفاة من المسلمين إسلاما أعرابيا، بل تخلق بالآداب الإسلامية الرفيعة مع المومنين كاملي الإيمان». ([7])   

كمّل سيدنا رسول الله r الآداب الإسلامية العامة فعلّم أمته الأخلاق النبيلة والخصال الحميدة، والحقوق المتبادلة بين المسلمين. عن أبي هُرَيْرَةَ  tقَالَ:  سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُp: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسi.([8])

وفي حديث آخر عَنِ الْبَرَاءِ عازب t قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِىُّ rبِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا: بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.  وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّي([9])، وَالإِسْتَبْرَقِ ».([10])

و جعل  رسول الله r حُرمة  المسلمين من حُرمة الله، وإجلالهم من إجلاله ، وأمر بصون كرامتهم واحترامهم. عن أبي موسى الأشعري  tقال: قال رسول الله p:r إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه([11])والجافي عنه([12])،وإكرام ذي السلطان المقسطi.([13])

وقد شدد  سيدنا رسول الله r  النكير على من يُخل بكرامة المسلمين ويتخلى عن واجبه في احترامهم  والإحسان إليهم وإماطة الأذى من طريقهم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: p لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ i.([14])

وأمر النبي عليه الصلاة والسلام المؤمنين والمؤمنات أن لا يحط مِن مكانة بعضهم بعضا  قولا أو فعلا، وأن يفْسَحُوا في المجلس للقادم، وأن يبتسموا في وجه الناس، وأن يقولوا الكلمة الطيبة، وأن لا يحقِروا من المعروف شيئا من خِدمة صغيرة يقدمونها، أو شفاعة، أو قضاء حاجة. عَنْ أَبِى ذَرٍّ  tقَالَ :قَالَ لي النبيr  :p لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقi.([15])

     الرابطة الإيمانية المقصودة تلك المشار إليها في قوله تعالى في حق الأنصار y، قال ربنا جل جلاله : ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).

     لو قال : تبوؤُا الدار فقط، لكانوا كباقي المجتمعات التي تحكمها روابط مصلحية دنيوية محضة، سرعان ما تتبخر وتذهب أدراج الرياح، لكن قال : ﴿تبوأوا الدار والإيمان﴾، تبوء ثنائي : تبوؤُا الدار وتبوؤُا الإيمان، هكذا كان الأنصار y؛ وقوا شح أنفسهم وخرجوا من دهاليز نفوسهم المجبولة على الشح إلى فضاء عبودية الله تعالى ومحبته، فنصروا  النبي r وإخوانهم المهاجرين وآووهم وأنفقوا عليهم وأحبوهم، هذه هي الأخوة الصادقة الحقة التي أثنى عليها الله عز وجل، ودعانا إليها لبلوغ المرام.

2.  الجمع بين الثنائيات:

 لقد جمع هذا العمران الأخوي بين:

 -الدنيا والآخرة: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً( (النساء:134). )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص:77).

الموت والحياة:  )الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور( (الملك:2).

- والثبات والتطور: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام:11). )يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ( (الرعد:39).

)قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (العنكبوت:20).

)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً( (الأحزاب:62).

)فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً( (فاطر: من الآية43).

- والأرض والسماء: )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:164)

-والفردية والجماعة: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران:110)

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾(الحجرات:13)، جماعات وشعوب لكن يجمعها ويوحدها الإسلام.

- والعدل والإحسان: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:90).

 والوحي والعقل: )كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ (الرعد:30).

)وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ (الاسراء:73).

)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى:52).

- وعالم الغيب وعالم الشهادة: )قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( (الزمر:46).

-والروح والمادة: )وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً( (الإسراء:85).

 -والذكر والجهاد: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (الأنفال:45)

 -وبين الظاهر والباطن: )وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ( (الأنعام:120).

-والدعوة والدولة: )الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ( (الحج:41).

هذا إضافة إلى الشمولية التي تميز بها هذا العمران، على عكس الحضارة الغربية والحضارات السابقة حيث إذا رمت بثقلها على جانب أهملت جانبا آخرا كما في إهمالها بل لكفرها بالآخرة والمعاد والحياة بعد الموت، وإهمالها للدين، وسعيها وراء سراب الشهوات والمغريات وملذات الحياة الدنيا وزينتها.

فالعمران الأخوي ؛ عمران شمولي وواقعي وإنساني وعالمي، يحمل رسالة الإسلام لينشرها في العالمين، لا يفرق بين أسود وأبيض ولا بين عجمي وعربي، ولا بين السيد والعبد، ولا بين المرأة والرجل، الكل سواسية، وصدره مفتوح لكل من أراد الانضواء تحت لواء الإسلام، أيا كان موقعه في الزمن والمكان.

3.  العطاء المستمر:

ومن خصائص هذا العمران الأخوي كونه معطاء يبني ولا يهدم، يصلح ولا يفسد، يسعى لتحقيق الخلافة الكاملة في الأرض، وتطهير الأرض من كل ما يصد عن الله جل وعلا...

ويوضح النبي r هذا العطاء المستمر في هذا الحديث: عن أَنَس بْن مَالِكٍ t  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:  pإِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ.i ([16])

"الفسلة أو الفسيلة هي الغرسة من النخل. الحديث يحث على التسبب فيما ينفع الناس حتى لا يشغلنا عنه شاغل مهما عظم. والأحاديث النبوية في باب الحض على العمل اليدوي، والاحتراف، والتجارة المبرورة، والزراعة، كثيرة. وكلها تفصل أمر الله لنا سبحانه إذ يقول :) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض(( البقرة، 267)، وأمره عز وجل لنا بعمارة الأرض بما يخدم مقاصد الإسلام، حين سرد لنا القرى الكافرة التي عمرت الأرض عمران طغيان وزينة وتكاثر، فأعمتهم وفرة ما لديهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة عن طاعة الله، وإقامة العدل، وتصديق النبيئين، وإنصاف المستضعفين".([17])

وفي حديث آخر: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  tقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr: pمَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ.i ([18])

أما الحضارة الغربية -وسابقاتها من الحضارات- التي تخنقها رؤية سوداوية متشائمة للوجود والمصير والسعي البشري، فإنها تجوس في حناديس ظلام الجاهليات والفوضوية والعبثية اللاتي تهوي بها في مكان سحيق.

4.  الأصالة والتجديد:

عمران أخوي يجمع بين الأصالة والتجديد، قادر على الاجتهاد على نور الإسلام، قادر على حماية ذاته من التفكك والانحلال، قادر على وضع كل القيم والخبرات لدى الحضارات الأخرى في محك الإسلام للاستفادة من سليمها الموافق لمبادئ الإسلام، والرمي بالباقي في مزابل الأفكار الضالة.

يقول الدكتور عماد الدين خليل: «إنه منذ اللحظات الأولى أخذ الإسلام على عاتقه مهمة تكوين جماعة مؤمنة "متحضرة" تعرف كيف تحقق التقابل الفعال بين أصالة الذات العقائدية وبين الانفتاح على معطيات الأمم والشعوب. (...) وفي فترة قصيرة تمكن الإسلام من أن يحول العرب إلى أمة "متحضرة" خرجت إلى أطراف الأرض تحمل علمها الجديد ورؤيتها المتوحدة لكي ترسم للعالمين مصيرا جديدا».([19])

إنه عمران أخوي أصيل، قادر على مواكبة المستجدات والاستجابة للتحديات، متوازن وشامل وجامع وواقعي وبناء، يسعى لإخراج الناس من ظلام الأوثان إلى نور الإيمان، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، لو كان للإسلام إلا هذه المزية لكفاه فخرا وشرفا.

تلك إذن هي شرائط إحلال العمران الأخوي وبدايته. وما دمنا قد تحدثنا عن الطريق إلى العمران، فإنَّا نتم كلامنا في الحديث عن دعائمه وأعمدته.

               

[1] - العدل ، الإمام عبد السلام ياسين، ص180. 

[2] - الجامع الصحيح للإمام مسلم رحمه الله، باب تراحم المؤمنين  تعاطفهم، ح4685. والمسند للإمام أحمد رحمه الله، باب حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. وغيرهما.

[3] - تنوير المؤمنات، الإمام عبد السلام ياسين، ط/1، مطبوعات الأفق الدار البيضاء، 2/61-62.

[4] - مسند الإمام أحمد باب مسند أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح الإمام البخاري، باب لا يخطب على خطبة أخيه، وصحيح الإمام مسلم، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر. وغيرهما

[5] - اللمز: أن يطعن بعض الناس على بعض، وأن يغتابوهم وينقصوا من قدرهم. )ويل لكل همزة لُمزة(.(بداية سورة الهمزة) تهديد ووعيد. نعوذ بالله.

[6] - التدوين في أخبار قزوين، للرافعي.

[7] - تنوير المؤمنات، 2/48-49.

[8] - رواه الأئمة: البخاري في صحيحه باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم في صحيحه باب حق المسلم للمسلم رد السلام، وابن ماجه في سننه باب ما جاء في عيادة المريض، والإمام أحمد في مسنده مسند أبي هريرة وغيرهم رحمهم الله.

[9] - القسي: ثياب من كتان مخلوط بالحرير منسوبة إلى قرية قس بمصر.

[10] - متفق عليه: الإمام البخاري في صحيحه باب الأمر باتباع الجنائز، والإمام مسلم في صحيحه باب تحريم استعمال إناء الذهب، وغيرهما رحمهما الله.

[11] - الغالي فيه: المجاوز حده.

[12] - أصل الجفاء ترك الصلة والبر وجفاه أبعده وأقصاه.

[13] - رواه الأئمة: سنن أبي داود باب في تنزيل الناس منازلهم، الأدب المفرد للإمام البخاري باب إجلال الكبير، سنن البيهقي باب النصيحة لله ولكتابه، مصنف ابن أبي شيبة باب الإمام العادل، وغيرهم رحمة الله عليهم.  

[14] - رواه الأئمة: الترمذي في سننه باب ما جاء في رحمة الصبيان، عبد بن حميد في مسنده مسند ابن عباس رضي الله عنهما، البخاري في الأدب المفرد باب إجلال الكبير.   

[15] - صحيح الإمام مسلم باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، مسند الإمام أحمد حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، صحيح ابن حبان فصل من البر والإحسان.   

[16] - المسند، للإمام أحمد رحمه الله، باب مسند أنس بن ملك رضي الله عنه.

[17] - المنهاج النبوي، الإمام عبد السلام ياسين، ص333.

[18] - رواه الإمام البخاري في صحيحه، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، ورواه كذلك الإمام مسلم في الصحيح، باب فضل الغرس والزرع، والإمام أحمد في مسنده وغيرهم رحمهم الله.

[19] - انظر كتابه: حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، دار ابن كثير، ط1/1426-2005 ص73-74.