أصول المجتمع العمراني الأخوي
أصول المجتمع العمراني الأخوي
د. رشيد كُهُوس أبو اليُسْر
وجدة-المغرب
يرجع المجتمع العمراني الأخوي المسلم إلى أصول واضحة المعالم وهو الإسلام المتمثل في :
1. القرآن الكريم:
والقرآن هو الدعامة الرئيسة الذي نبع منه هذا العمران الأخوي واستقى من معينه الصافي، فوضع معالمه الكبرى، ولفت الأنظار إلى أهميته. ولم يقتصر على ذلك بل وضع أسسه ودعائمه في شتى المجالات...
أ)-المجال العقدي: أكد القرآن الكريم وحدة العقيدة في هذا العمران، وهي أساسه لا اللون والجنس وباقي الاعتبارات المادية... كما ألغى القرآن كل العقائد السماوية وأبطل كل المعتقدات الفاسدة، قال الله تعالى:﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ﴾ (آل عمران: من الآية19).
ب)-المجال للاجتماعي : أقر القرآن مبدأ المساواة، وألغى الطبقية، وقضى على التفرق والتشرذم وحمية الجاهلية والنُّعرة القبلية فيما بين البشر، يقول ربنا تبارك وتعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13).
ث)-المجال السياسي : لقد حدد القرآن الكريم طبيعة الحكم، قال ربنا الكريم: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:49)، وقال جل جلاله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾(النساء:105)،
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية44) ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب-. وأرسى قواعد الحكم الإسلامي، من عدل قال الباري جل وعلا :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (النساء:58) وشورى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ (آل عمران: من الآية159). وحدد –القرآن- طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ﴿ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: من الآية 59)، أنظر إلى التعبير القرآني، أولي الأمر منا، من المؤمنين، أما إذا خرجوا من دائرة المؤمنين ووجهوا وجهم شطر الغرب الصليبي الحاقد، وطبقوا قانونه لا الإسلام فحينئذ لا طاعة لهم علينا.
هذا، إضافة إلى مجموعة من المقومات والدعائم والركائز التي تثبت أركان هذا العمران في المجال السياسي.
ج)- المجال الاقتصادي والتكنولوجي: حث القرآن على السعي في مناكب الأرض، وتطوير الإنتاج، وأخذ ما عند الأمم من التكنولوجيا، والزراعة والصناعة والتنمية... وفي هذا يقول الله جل جلاله :
← في إعداد القوة وتطوير التكنولوجيا وغير ذلك مما يدخل في الإعداد: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾(الأنفال: من الآية60).
← في أخذ ما عند الأمم من التكنولوجيا والصناعة...: وهذا يدخل في إعداد القوة الذي تحدثت عنه الآية القرآنية السابقة من سورة الأنفال، وقد كان المسلمون على عهد سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام "على بينة من أمرهم، على ثقة من ذاتهم، والوحي ينزل والنفس استقرت في فطرتها. لذلك ما ترددوا لحظة في غزوة الأحزاب عن تبني تقنية الخندق، وهي تقنية عسكرية فارسية، ولا تردد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عن بعث رجلين إلى الشام يتعلمان صناعة المنجنيق وهي صناعة رومية، "([1]) وقد استعمل النبيصلى الله عليه وسلم في حصار الطائف آلات حربية غير عربية، مثل الدبابة([2])، والمنجنيق([3]).
← في الإنتاج الزراعي : ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام:141).
← في الاقتصاد بصفة عامة : ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك:15).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبيصلى الله عليه وسلم :pمَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَىi. ([4])
يعلق العلامة عبد السلام ياسين على الحديث قائلا:"فإذا نقلنا الحديث الشريف من الحالات الفردية، التي تتعلق فيها مسؤولية المعصية بأهل العرصة، إلى الحالة العامة والتكوين العام لمجتمعاتنا وأنظمة علاقاتنا داخل الأقطار الفتنوية وفيما بينها، فإن ذمة الدولة الإسلامية لا تبرأ من المعصية الشديدة إن لم توفر الظروف التي لا تسمح أن يبيت هذا متخما وهذا جائعا.
رتب علماؤنا درجات الإشباع ثلاثة مراتب :
أ-الضروريات، وهي الحد الأدنى الذي لا يمكن العيش المادي إلا به من طعام وكسوة ومسكن.
ب- الحاجيات، وهي ما فوق الضرورة من أسباب توسع المعاش.
ج- الكماليات، وهي الطيبات التي يمكن الاستغناء عنها.
والتقلل المطلوب لأمة مقبلة على الجهاد من أجل الاستقلال والوحدة والكفاية والقوة يلزم أن يتجسد في مجتمع يكفل الضروريات لكل المسلمين، ويجعل وسائل إرضاء حاجيات العيش الكريم مكافأة للجهد والنشاط والإنتاج. لكن من الضروري ضبط الجهاز الاقتصادي لكيلا تستمر عادات الترف، ثم لكي يتمتع المسلمون كلهم بالأمن المعاشي على مستوى كريم لا مقتر قاس ولا مترهل متنعم" .([5])
← في الصناعة: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾(الحديد: من الآية25).
ح)-المجال للعلمي والتفكيري : حث القرآن الكريم على طلب العلم، وجعل الذين أوتوا العلم فوق الجاهلين، ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ (المجادلة: من الآية11)، وميزهم بالدرجة الرفيعة ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: من الآية9).
أما في مجال التفكير فقد دعا إلى التفكير في خلق السماوات والأرض والكون كله ﴿ِإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران:190)، وحث على السير في الأرض لاكتشاف سنة الله في خلقه: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت:20). وتكرر هذا الخطاب مرات.
وقس على ذلك شتى المجالات...
2. السنة النبوية العطرة:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الحشر: من الآية7).
السنة هي الأساس الثاني –بعد القرآن- للتشريع، فقد بينت وفصلت ما سبق ذكره من المجالات... وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول وأول من أرسى دعائم العمران الأخوي مباشرة بعد وصوله إلى المدينة المنورة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ووضع أعمدة الدولة الإسلامية... كما كان أسوة وقدوة للناس كافة ورحمة للعالمين، فبنى صرح العمران الأخوي وشيد أركانه، وبهرت أنواره العالمين... يقول ربنا تقدست كلماته: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب:21).
3. لغة القرآن:
كما أسهمت لغة القرآن في الحفاظ على الشخصية المستقلة للمسلمين، وكونت أفراد العمران، استنادا إلى مبادئ الإسلام التي قررت نزول القرآن بلسان عربي مبين.
قال ربنا تباك وتعالى:
) وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ( (النحل: من الآية103)
)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ( (الشعراء:195)،
)إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( (يوسف:2)
)قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( (الزمر:28)
)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( (فصلت:3)
)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ( (الشورى:7)
)وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ( (الأحقاف:12).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: pأحبوا العرب لثلاث : لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربيi.([6])
فاللغة العربية "هي الوعاء، هي الرحم، هي الجسم. جمالها ليس هو القيمة، لكن القيمة ما حمله إلى عقلنا ذلك الجمال. بيانها ليس الغاية والمنى لمن ما أبانه من معان".([7])
وفي "مجتمع العمران الأخوي المنشود، المسبوق بتربية وتزكية وتعليم، يستنبط المسلمون دستور سلوكهم فيما بينهم وعهود تعاملهم مع الخَلق الدولي، والخلق الطبيعي، والبيئة المشتركة، من القرآن كل القرآن، ومن السنة كل السنة".([8])
أصول المجتمع العمراني الأخوي المسلم
<القرآن الكريم
<السنة
النبوية
-المجال الديني
-المجال الاجتماعي
-المجال السياسي
-المجال الاقتصادي والتكنولوجي
-المجال العلمي>
<اللغة العربية لغة القرآن
-بيان المنهاج النبوي في بناء المجتمع الأخوي
-بيان ما جاء في القرآن الكريم.
<البيئة:
دار الإسلام
<
[1] - سنة الله، عبد السلام ياسين، ص288.
[2] - الدّبّابَةُ: آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ تتخذ من جلود وخشب يَدْخُلُ فِيهَا الرّجَالُ فَيَدُبّونَ بِهَا إلَى الْأَسْوَارِ لِيَنْقُبُوهَا.
[3] - المنجنيق: آلة ترمى بها الحجارة في الحرب.
[4] - رواه الإمام أحمد في مسنده، مسند سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] - المنهاج النبوي، ص340-346.
[6] - المستدرك على الصحيحين للحافظ الحاكم، باب ذكر فضائل القبائل، المعجم الكبير والأوسط للإمام الطبراني، وشعب الإيمان للإمام البيهقي، باب أحبوا العرب لثلاث.
[7] - الإسلام والقومية العلمانية، عبد السلام ياسين، ط2/مارس 1415هـ 1995م، دار البشير طنطا، ص 11.
[8] - محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، عبد السلام ياسين، ص 73.