استشهاد الإمام المجدد الشهيد حسن البنا

أ. د. علاء الدين خروفه

استشهاد الإمام المجدد الشهيد حسن البنا

(رحمه الله تعالى)

الإمام الشهيد حسن البنا

أ. د. علاء الدين خروفه

يوم حدثت تلك الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية الشريفة المسلمة كنت في القاهرة أيام الدراسة، ومن الواجب عليّ أن أدوّن انطباعاتي عنها وما تركته في نفسي ونفوس الكثيرين من محبي الإمام الشهيد –رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا معه، وأظلنا تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله-.

وصلنا إلى القاهرة يوم 15/12/1948م، وكان حل جمعية الإخوان المسلمين قد صدر يوم 8/12/1948م، وكانت لي أمنيتان في حياتي، الأولى أن أشاهد الإمام المرشد، والثانية أن أستمع إليه وهو يخطب، ولقد حقق الله سبحانه لي الأمنية الأولى ولم يشأ أن يكرمني بالثانية.

كانت الرقابة شديدة جداً على الإخوان وكافة من يتصل بهم.. ولم أكن أعرف المركز العام للإخوان المسلمين، ووسط ذلك الجو المرعب والرقابة الصارمة، كيف يتسنّى لي أن أعرف مسكن الإمام، يرحمه الله تعالى، ولكن ذلك لم يكن المشكلة التي لا تذلل، فقد اخترت أخاً كريماً وزميلاً عزيزاً في الكلية توسمت فيه الخير، وأفضيت له برغبتي، فوعدني أن نسير معاً بعد انتهاء الدراسة وهو سوف يوصلني إلى دار الإمام المرشد، وكانت على طريقنا، وكانت كلية الشريعة في البراموني، وبعد انتهاء الدراسة كان الأخ الفاضل ينتظرني حتى نسير معاً، وكان يرتدي الجبة والعمامة الصعيدية، وكنت أرتدي الزي المألوف (سترة وبنطلون) وسرنا لا يكلم أحدنا الآخر، وكأننا لسنا زميلين أو صديقين، ومررنا أمام العمارة التي كان يسكنها الإمام، فقال لي زميلي:

- انظر إلى يسارك في هذه العمارة يسكن المرشد.

ثم سرنا متجهين إلى يسار الشارع وقال لي:

- هذا ليس مركز الشرطة وإنما هو مركز الإخوان المسلمين، وقد احتلته الشرطة.

ولقد ارتسم في ذهني العمارة والمركز العام.. وبعد أسبوعين كانت هناك مناسبة دينية لا أذكرها في جمعية الشبان المسلمين (شارع الملكة نازلي) وارتديت السدارة العراقية، وذهبت إلى مقر الجمعية، وإنّ حفاوة المصريين بالضيوف الأجانب معروفة لا يستطيع أحد أن ينكرها، وقد ذهبت مبكراً وقبل موعد الاحتفال بنحو ساعة، وقد استقبلني المسؤولون عن الاحتفال، وأشاروا لي بالتوجه إلى الأمام، ولكني فضلت أن أجلس في الصف الثاني وأترك الصف الأول لمن سيأتي بعدي من الضيوف الذين هم أحق مني بتلك الكراسي، لكبر سنهم ومكانتهم الاجتماعية، ومراكزهم العلمية... وحضر بعد ذلك سماحة مفتي فلسطين السيد محمد أمين الحسيني، رحمه الله رحمة واسعة، وكان لاجئاً سياسياً في القاهرة، وجلس أمامي بالضبط. وكادت الكراسي في الصف الأول تمتلئ، ثم سمعت في القاعة أصواتاً متكررة، وكان كل واحد من الحاضرين ينبه جاره بقوله: (الشيخ حسن.. الشيخ حسن) كل ذلك والإمام يرحمه الله تعالى كان يسير بتواضعه المعروف ووصل إلى الصف الأول، وكانت بعض الكراسي فارغة، وصافح الجالسين في الصف الأول وكانوا خمسة أو ستة ثم جلس في أول كرسي شاغر.. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها الشيخ حسن البنا، يرحمه الله تعالى.. وتركت البرنامج والضيوف الذين يجلسون أمامي وانشغلت بالنظر إلى الإمام المرشد، وقد لاحظ جاري اهتمامي به فقال لي:

- إنه صغير السن إن عمره اثنان وأربعون عاماً فقط.

ولم أعقب خشية أن يكون جاري ممن لهم مهمة خاصة ينفذونها..

وتوالى الخطباء والمتكلمون، وانتهى الاحتفال، ولم يطلب من الإمام أن يقول كلمة واحدة في ذلك الاجتماع المهم، فالكل يخاف من الكلام مع المرشد ويخشى الاقتراب من الإخوان المسلمين، ولكن بالنسبة لي كان ذلك الاجتماع مهيجاً لعواطفي، فتساءلت في نفسي: لماذا لا أقوم بزيارة المرشد وقد عرفت مسكنه وعنوانه.

وكنا نحن أعضاء البعثة العراقية الوافدين للدراسة في الأزهر نسكن في فندق رضوان في حي الأزهر، وقد استيقظت في الصباح الباكر وركبت (الترامواي) ولما وصلت إلى العمارة التي يسكنها الإمام، دخلت مسرعاً حتى لا يراني أحد، ثم وضعت (السدارة) على رأسي، وألقيت السلام على البواب (وفي مصر كل عمارة لها بواب) فسألني:

- من تريد؟

قلت له: أريد زيارة الشيخ حسن.

فسألني: من نقول له؟

قلت: قل له: (علاء الدين من العراق).

وكان ذلك البواب رجلاً مؤدباً، فأدى الأمانة، وما لبث أن فتح باب الشقة وقال لي: تفضل.

فدخلت ووجدت الإمام يجلس على (الصوفة) وعنده ضيوف شباب من الإسكندرية جاؤوا يشكون إليه ظلم السلطات، وكان يرتدي العباءة والجلابية، ويضع على رأسه الطاقية، وما إن رآني حتى ترك مكانه واتجه نحوي قائلاً:

- أهلاً سي علاء.

وكأنه يعرفني منذ زمن طويل.. وكان تقبيل اليد في محيط عائلتنا شيئاً غير مألوف وغير مستساغ، وكان والدي يرحمه الله لا يشجعنا على ذلك.. وقد حفظت من أستاذي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في الموصل بيتاً من الشعر يقول:

أنا لا أحتاج إلى تقبيل يد    قَطْعُها أهونُ من تلك القُبَلْ

ويوم قابلنا شيخ الأزهر (مأمون الشناوي) كان كل واحد من أعضاء البعثة العراقية (وكان عددنا ستة) يقبل يد الشيخ، وهو مشغول عنا، ولا يلتفت إلى أحد منا ولكن يده اليمنى ممدودة ليقبلها من يسلم عليه، ولما جاء دوري صافحته فقط دون تقبيل، فنظر إليّ في تعجب.. غير أني حين رأيت المرشد رحمه الله أسرعت بتقبيل يده، فقبلني في جبيني، وأجلسني بجانبه.. لقد كان يتمتع بجاذبية خاصة محفوفة بتواضع عظيم، وعلم غزير، ومواهب قوية من الخالق جل وعلا، وأجلسني بجانبه، ثم أكمل حديثه، مع الإخوان القادمين من الإسكندرية باختصار شديد، ثم اتجه نحوي بالحديث، وكان مما قاله:

- إنني عرفت أنهم سوف يحلون جمعية الإخوان، فمنذ أن وصلنا للحج هذا العام (1948) صودرت مكبرات الصوت العائدة لنا، وعوملنا معاملة مختلفة عن السنوات السابقة، وعرفنا أن الحكومة المصرية حينئذ كان لها يد في هذه المعاملة..

وكان مما ذكرته له أننا قد حضرنا من طريق دمشق في 15/12/1948 وصعد معنا إلى الطائرة الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى، فأثنى عليه الإمام ثناءً عاطراً، وقال لي:

- إذا أردت أن تجتمع به فتعال غداً في الساعة العاشرة صباحاً إلى جمعية الشبان المسلمين.

وكان الإمام الشهيد قد اتخذها مقراً له بعد حل جمعيته.

ولقد لاحظ الإمام الراحل على ضيفه حماسة الشباب فلم يبخل بالنصيحة وطلب منا أن نتبع الحكمة والموعظة الحسنة في سلوكنا، ولم يسألني عن العراق وأهله أي سؤال، ولعله كان يبغي اختصار الوقت.

كنت متردداً: هل أذهب إلى جمعية الشبان المسلمين في اليوم التالي تلبية لرغبة الإمام، أم لا؟ ولكن حدث ما يلي:

كنا واقفين في محطة (الترام) في الصباح لنأخذ الترام الذي يذهب إلى البراموني حيث كلية الشريعة، وما شعرنا إلا والأرض تهتز من تحت أقدامنا.. فماذا حصل؟

كان المكان يبعد عن محكمة الاستئناف نحو نصف ميل تقريباً.. وفي ذلك اليوم كانت المحكمة بصدد النظر في قضية من قضايا الإخوان المسلمين، وحضر في الصباح الباكر شخص يحمل حقيبة صغيرة تبين أنها متفجرات قوية، ووضعها في غرفة كانت تحتوي على أوراق تلك القضية، وكان حامل الحقيبة يرغب في إتلاف تلك الأوراق، وشك (الفراش) في أن تلك الحقيبة تحمل شيئاً خطيراً فحملها وأسرع بالنزول ووضعها في الساحة المقابلة للمحكمة، فانفجرت وحطمت زجاج النوافذ المجاورة للمحكمة، وتسببت في زلزال الأرض التي تحت أقدامنا، وحاول الشخص الذي كان يحمل الحقيبة أن يهرب، ولكن ألقي القبض عليه، إنه شفيق أنس/ وهو من الإخوان المسلمين.. وظهرت الحادثة في اليوم التالي في الصحف المصرية مع تفصيلات كثيرة. وألقي بشفيق أنس في السجن..

وشاء الله سبحانه ألا تطول مدة سجنه، فقد تغير الحال، وقام انقلاب 23 يوليو (تموز) وأفرج عن الإخوان المسلمين، وأعيدت مراكز الإخوان إلى أهلها الشرعيين، وخرج شفيق أنس من السجن، وفي مناسبة دينية حضر اللواء محمد نجيب ومعه جمال عبد الناصر، وقد جلس بجانبه بصمت وتأمل وكأنه كان يخطط لشيء ما، وسمعنا أصواتاً تنادي:

- نريد أنس، نريد أنس.

وكانت المفاجأة فقد ظهر شفيق أنس واعتلى المنصة ولم يلق كلمة وإنما قال:

- نريد أن نقرأ الفاتحة على روح الإمام الشهيد.

ثم غادر المنصة..

كان معنى أن تحل جمعية الإخوان المسلمين وأن يعتقل كافة أفرادها البارزين من أعضاء مجلس الإدارة وغيرهم، وأن يترك الإمام المرشد طليقاً حراً – كان معنى ذلك أن الحكومة تريد شيئاً واحداً: هو اغتيال ذلك الرجل، وقد حدث، ففي يوم 12/ 2/ 1949م كان الإمام مغادراً جمعية الشبان المسلمين ومعه صهره المحامي عبد الكريم منصور – وقد أطفئت الأنوار في الشارع الكبير (شارع الملكة نازلي) وركب الإمام سيارة التاكسي، فتقدم منه شخص (علم بعد ذلك أنه اللواء محمود عبد المجيد) وأطلق عليه ست رصاصات، وغادر الإمام السيارة والرصاص في جسمه، وتكلم بالهاتف، كما نشرت الصحف يومها، ثم سقط ثم نقل بعد فترة إلى الإسعاف الذي كان قريباً من جمعية الشبان المسلمين وكان تأخير إسعافه متعمداً.

كان هذا الحادث حوالي الساعة التاسعة ليلاً، كما كتبت الصحف في اليوم التالي، وكان الإمام ينادي: (أعطوني ماء أعطوني ماء لا إله إلا الله محمد رسول الله).

ثم قضى نحبه رحمه الله رحمة واسعة وأسبغ عليه شآبيب رحمته وعفوه ورضوانه وألهم الأمة الإسلامية الصبر الجميل وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن من المؤكد أن الإخوان المسلمين بقيادة المرشد الأول لو أنهم منحوا الحرية والقيادة لما حلّ بالأمة الإسلامية ما حلّ بها، ولكن هذا قضاء الله جل جلاله. وقد أمرنا بالصبر (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وكان ذلك يوم 12/ 2/ 1949 وإني أعتذر لأني أذكر التاريخ الميلادي فقط...

ولقد امتدت إقامتي في القاهرة بسبب اعتلال صحتي وعدم إنهائي الدراسة وحانت الفرصة لأن أحضر محاكمة اللواء المجرم محمود عبد المجيد وأن أراه في قفص الاتهام، وكان كالوحش الهائج.. وكان المدافعون في تلك الدعوى من المحامين: الشهيد المحامي القدير والعالم في الفقه الإسلامي والقانون الجنائي الأستاذ عبد القادر عودة، تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه ويساعده في ذلك الأستاذ محمد عزمي الذي كان نائباً عاماً، ثم أحيل إلى التقاعد بسبب عمره رحمهم الله تعالى.

وفي الجلسة التي حضرتها طلب الشهيد عبد القادر عودة الإذن بالكلام من رئيس المحكمة، فقال له:

- بشرط بلا عودة.

وعقب الأستاذ محمد عزمي فقال:

- أصله هو عبد القادر عودة..

ثم انتهت الجلسة..

إنه ليؤسفني أن صحتي لا تساعدني على الاستمرار بالكتابة فقد كنت في المستشفى الإسلامي عدة أيام وغادرته منذ عهد قريب، ولولا رجاء الأخ الفاضل الأستاذ عبد الله الطنطاوي لما استطعت أن أكتب هذه الصفحات.

أسأل الله جل جلاله وتقدست أسراره أن يوفقنا جميعاً لخدمة الإسلام، إنه على ما يشاء قدير، هو نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.