الأمن: ضرورة.. أم معضلة.. أم فن
عبد الله عيسى السلامة
تعاني الدول والأحزاب في عالمنا المعاصر، من مشكلات أمنية كثيرة وخطيرة.. منها ما يتعلق بالأمن السياسي، ومنها ما يتعلق بأنواع الأمن الأخرى، كالأمن الجنائي والأمن الغذائي..
وأخطر مشكلة مطروحة في عالم اليوم، أمام القادة السياسيين، هي مشكلة الأمن السياسي، مع عدم التقليل من أهمية المشكلات الأمنية الأخرى..
وإذا صح تقسيم العالم إلى عالمين: عالم متقدم، وعالم متخلف، وجب علينا أن ننظر إلى مشكلة الأمن السياسي بمناظير متعددة، متنوعة الأحجام والعدسات.. إلا أننا – حرصاً منا على تبسيط المسألة - ندرج مبدئياً، كل أنواع المشكلات المتعلقة بالأمن السياسي ضمن إطار واحد، مع مراعاة اختلاف النسب في خطورة المشكلة بين دولة ودولة، وبين عالم متقدم وآخر متخلف..
والسؤال الذي تهمنا الإجابة عليه هنا، هو: كيف تواجه الدول والأحزاب مشكلات الأمن السياسي؟
باستعراض عناصر الخارطة، نجد ثمة أنواعاً من المواجهة، تختلف كماً وكيفاً، من دولة إلى أخرى، ومن ظرف إلى آخر..
وإذا أخذنا مبدئياً بفلسفة الـ"مع" و"الضد"، وبالقيم الخلقة المسبغة عليها: "الـ مع: شريف" و"الضد: شرير"، انقسم العالم إلى قسمين كبيرين: نصير شريف، وخصم شرير.. أما الآخرون، المحايدون، فهم المادة التي يتنافس الأشراف والأشرار على كسب ودها.. ومن انحاز من عناصرها إلى طرف ما، صار شريفاً من وجهة نظر هذا الطرف، وشريراً من وجهة نظر الطرف الآخر.. وهكذا..
وعلى ضوء هذا التبسيط الشديد للمسألة، يمكن النظر إلى مشكلة الأمن السياسي..
الدول العظمى تتصارع فيما بينها، لكسب ود الدول الصغرى أو المختلفة.. وتسخر الجواسيس لسرقة المعلومات كل واحدة من الأخرى..
والدول الصغرى تتصارع فيما بينها كذلك - ولا سيما تلك التي ينتظمها إقليم واحد أو حوض بحري واحد - لفرض نوع من السيادة على الإقليم أو المنطقة أو الحوض البحري.. أو لتحقيق مصالح معينة، لهذه الدولة على حساب تلك، أو لهذا الاتجاه على حساب ذاك..
والسلطة الحاكمة داخل دولة ما – على اختلاف النم التي تخضع لها هذه الدول - تسعى لبسط هيمنتها على جميع العناصر والكتل والأحزاب الموجودة داخل الدولة، وكسب ودها وولائها.. وتحطيم من لا يمكن شراؤه أو كسب ولائه أو إخضاعه.. وأنواع التحطيم كثيرة، وأساليبه متنوعة، تختلف باختلاف المناهج السياسية والخلقية التي تحكم كل سلطة..
والأحزاب داخل الدولة الواحدة، تتصارع فيما بينها، ويحاول كل منها كسب موقف أو جولة، على حساب خصومه أو أعدائه..
ولن نتعرض لأنواع التنافس والصراع بين الكتل والأفراد داخل الحزب الواحد.. لضمور المشكلة الأمنية في هذا النمط من الصراعات – عادة -.
ويهمنا أن نقف هنا عند نوع واحد من أنواع الصراعات المذكورة، وهو الصراع بين السلطة والقوى المعارضة لها داخل الدولة، وذلك لأهمية هذا النوع من الصراعات من جهة، ولتنوع صوره ومناحيه وأساليبه من ناحية أخرى.. ولابتلاء أمتنا الإسلامية بأسوأ صورة وأعنف أساليبه من ناحية ثالثة..
هذه المشكلة محلولة لدى عدد كبير من دول الغرب، إذ ليس هناك مجال لأحد، سواء أكان حاكماً أم معارضاً، لاحتكار (الوطنية) أو (الغيرة على مصلحة الأمة) أو (الفهم) أو غير ذلك.. فالكل شركاء في هذه المعاني، شراكة إلزامية، تفرضها الدساتير وتوازنات القوى، التي توصل إليها الغرب بعد صراعات دامية استمرت مئات السنين، بين القوى المتعارضة –من ملوك ونبلاء وكنائس ومفكرين وقوى شعبية..- للسيطرة المطلقة على مقاليد الأمور، واحتكار المعاني الآنف ذكرها – وطنية، فهم، إخلاص، ..- مع دعم كل قوة من هذه القوى لوجهة نظرها، بافتراضات افترضتها لنفسها، وجعلت منها أوراقاً سياسية تضغط بها على الآخرين –كالحق الإلهي، وحق الشعب..-.
ولقد أدرك الغرب – مستفيداً من تجاربه الدامية الأليمة - أن هذه الفلسفة العابثة، فلسفة احتكار السلطة بموجب (صكوك مقدسة) مستمدة من الله، أو من الشعب، لا نهاية لها سوى الدمار الشامل، للبلاد ومن فيها وما فيها.. فاضطر كل طرف إلى شيء من التواضع، والاعتراف للآخرين ببعض الحقوق.. حتى وصلت بعض دول الغرب، إلى صيغ دستورية راقية، نتيجة لمراحل متعددة من التطور المستمر في حقل القانون الدستوري، مما يمكن ملاحظته بسهولة لدى بعض دول أوروبا الغربية، والدول الاسكندنافية..
إلا أنه، وبرغم الصيغ الدستورية التي تحكم الحياة السياسية في بعض الدول، ظل الصراع قائماً، بين القوى والكتل والأحزاب، وظل كل حزب يفترض أن منهجه هو الأفضل لمصلحة البلاد، - وهذا أمر طبيعي لا غبار عليه - فإذا استلم الحزب السلطة، أدار البلاد وفق منهجه، على ضوء الضوابط والصيغ الدستورية العامة، مراعياً – أو متهيباً - ما يمكن أن تثيره الأحزاب المعارضة من مشكلات في وجهه، إزاء قرار ما، أو سلوك ما، داخل البرلمان، أو في الشارع السياسي.. فتسير البلاد ضمن موازنات مقبولة نسبياً، في حدود الممكن أو المستطاع..
ومع هذا كله، فلا يكاد نظام من هذه الأنظمة، يخلو من تجاوزات، يمارسها حزب تجاه آخر، أو مسؤول في حزب تجاه مسؤول في حزب آخر، ولا سيما إفادة الحزب الحاكم من الإمكانات الهائلة التي يوفرها له وجوده في السلطة، في محاربة خصومه، الذين لا يملكون هذه الإمكانات.. إلا أن نجاح الحزب الحاكم في إفادته من تجاوزاته أو ممارساته غير المشروعة، مرهون بوعي خصومه أو غفلتهم، عما يحاول إنجازه من مكتسبات، على حسابهم.. وما فضيحة (ووترغيت) التي أسقطت الرئيس الأمريكي نيكسون ببعيدة عن الأذهان؛ إذ حاول بعض رجال حزبه في السلطة، التجسس على الحزب المعارض، بأساليب مخالفة لقوانين البلاد، فاكتشف خصومه اللعبة، وأثاروا ضده زوبعة أدت إلى سقوطه في النهاية..
وهذه العملية – التجاوز ومجابهته - إن دلت على شيء، فإنما تدل على أمرين هامين وخطرين في الحياة السياسية خاصة، وفي الحياة عامة، وهما:
أولاً: إن حب التجاوز على حقوق الآخرين مغروس في أكثر النفوس، إن لم نقل فيها جميعاً، برغم كل الصيغ والضوابط والحدود والسدود، ودون اعتبار لنظام متقدم وآخر متخلف.
ثانياً: إن الحق الذي لا يدافع عنه أصحابه يموت، أو يسلب، مهما كان النظام الذي يقنن الحقوق ويحميها، متطوراً أو راقياً.. حتى إن بعض الصيغ القانونية تنص صراحة، على أن القانون لا يحمي الحق الذي يفرط به صاحبه أو ينام عنه..
وأنواع الحماية كثيرة، تبدأ من الحماية الفردية والقبلية، وتنتهي بالحماية القانونية أو الدستورية، التي يلجأ إليها المظلوم لاسترداد حقه..
وقد بلور الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى نوع الحماية التي كانت سائدة في عصره، بقوله: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه.. يهدم..
وأشار القرآن الكريم إلى فكرة التجاوز والبغي: (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض..) كما أشار إلى مبدأ موازنة القوى، الذي يحمي الحياة البشرية من الفساد: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لفسدت الأرض..).
ولا بد لنا من التنويه هنا، - ونحن بصدد الحديث عن أنظمة الغرب - بأن مؤسسات البلاد – برغم استغلالها غير المشروع أحياناً ومجابهة هذا الاستغلال - تبقى مسخرة لخدمة البلاد، ولا يستطيع مدع أن يدعي – مهما كانت سلطته - أن مؤسسات الدولة إنما هي مسخرة لخدمته أو لخدمة حزبه أو أسرته.. فالجيش لحماية الوطن، لا لحماية السلطة من خصومها الوطنيين، وأجهزة الأمن المختلفة، لحماية الوطن والمواطن، لا لحماية السلطة من خصومها أو أعدائها الداخليين، والقضاء لحماية الجميع حكاماً ومحكومين.. والإعلام لخدمة القضايا العامة، لا لتمجيد الحاكم أو تعداد مآثره ومآثر حزبه.. وهكذا.. وعلى هذا، تقف أجهزة الدولة، موقف الحياد، في الصراعات الداخلية بين السلطة وخصومها المحليين، من أحزاب معارضة، أو كتل منافسة..
هذه خطوط عريضة لبعض النظم الدستورية السائدة في الغرب، وتناولها لقضية الأمن السياسي – في مجال الصراع والتنافس بين السلطة الحاكمة وخصومها الوطنيين -.
أما ما يسمى بقضايا الإرهاب في هذه النظم، فيعالج على أنه ظواهر شاذة، تهدد أمن الوطن والمواطن، سواء أوقع الإرهاب من السلطة ضد خصومها، أو بالعكس، أو وقع من قوة وطنية ضد قوة وطنية أخرى لا علاقة لها بالسلطة.. والقضاء هو المدافع عن القانون..
فهل الصورة معكوسة في دول العالم الثالث، أو النامي، أو المتخلف؛ ولا سيما دول العالم الإسلامي – وهي تشكل أكثرية العالم المتخلف -؟
الواقع أنها ليست معكوسة تماماً، إنما هي قريبة من ذلك فما السبب؟ ترى هل يجب أن يمر على العالم الإسلامي مئات السنين من الصراع الدامي بين الحكام والمحكومين.. حتى يقر الأولون للآخرين بشيء من الحقوق، يشبه ما حصلت عليه شعوب الغرب؟ أهذه سنة راتبة من سنن الحياة؟ لن نجيب بنفي ولا إيجاب، لأن الجواب يحتمل "نعم" من وجوه، ويحتمل "لا" من وجوه أخرى، والتفصيل في هذه وتلك يستغرق الكثير من الورق والوقت والجهد..
وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن ثمة أنماطاً من الصراع السياسي، في دول العالم الإسلامي، تشبه – من زوايا - ما مر به الأوروبيون منذ قرون، وتختلف من زوايا أخرى، فتشكل أنماطاً مستقلة، تكتسب طابعها الخاص، من خصوصية العالم الإسلامي، ومن خصوصية كل دولة من دوله..
ولن نهتم بالحديث عن "الفنيات" و"الوسائل" المستخدمة في حلبات الصراع السياسي، أو "القهر السياسي والتمرد عليه"، فهذه تظل مجرد "وسائل وفنيات" مسخرة لخدمة "القرار السياسي" أو "نزعة التسلط" أو "نزعة التمرد"..
ومن "الوسائل" مثلاً أجهزة الأمن المختلفة، المستخدمة في دول العالم الثالث عصياً في أيدي الحكام عامة..
ومن "الفنيات" التي تمارسها أجهزة الأمن في الإخضاع والقهر: الكلمة النابية.. التعذيب –بفنية متوحشة، أو توحش فني -.. غسل الدماغ.. التشويه.. القتل..
أما "وسائل" المعارضة و"فنياتها"، فمحدودة، بالأصل، بحدود لا تكاد تجاوزها، إذ لا تملك سوى الكلمة – ملفوظة أو مكتوبة - خارج وسائل الإعلام، التي تملكها السلطة عادة – أو تقيد مالا تملكه منه بقيود صارمة - وللكلمة وظائف ومهمات، أدناها إثارة الغثيان – من الكلمة ذاتها، لسماجتها أو سخفها- وأعلاها التحريض السياسي ضد النظام القائم..
وفي حدود ضيقة – بدأت تتسع- تضطر المعارضة إلى (تسخين) وسائلها وفنياتها، فتلجأ إلى العنف – الحار أو الفاتر -، وتخوض بعض الاشتباكات مع رجال الأمن، أو تمارس بعض الاغتيالات.. أو غير ذلك من أساليب، تحظى، مباشرة، بألقاب جاهزة منها: الإرهاب.. الإجرام.. العبث بالأمن – أمن الكرسي طبعاً -.. التخريب.. إشاعة البلبلة والفوضى.. إلى غير ذلك من ألقاب أو أسماء أو صفات – مما تزخر به قواميس رجال الأمن ورجال الإعلام المسخرة لخدمة السلطات عادة - كما ذكرنا آنفا.
ولن ننسى أبداً، أن المعارضة في دول العالم الثالث، هي خارج السلطة دائماً، بل خارج السلطات كلها. فلا معارضة داخل سلطات الدولة البتة – بالمفهوم الصحيح المعارضة -.. أما عمليات ذر الرماد في العيون، التي نراها في بعض الدول، من (تخصيص) بعض المقاعد في مجالس النواب، لبعض الفئات المعارضة.. فهذه لعبة قديمة مكشوفة، معروفة الحدود والأبعاد والأهداف.. وتختلف صورها من بلد إلى آخر، حسب طبيعة النظام، والمعارضة، والظروف.. وتظل في كل الأحوال (أسلوباً) لامتصاص المعارضة، أو تمييعها، أو تفتيتها، أو المتاجرة بها، أو المتاجرة على أكتافها.. وأحياناً لامتصاص (التطرف)، الذي ينتمي مع المعارضة إلى اتجاه واحد..
ويبقى السؤال الجاد والهام هو: لم هذه اللعبة السمجة "لعبة القهر ورفض القهر" أو "لعبة الاستبداد والتمرد عليه"؟ أما كان أجدى للحكام أن (يمنحوا) شعوبهم شيئاً من الحرية، وشيئاً من (حق الفهم) وشيئاً من المشاركة – الحقيقية لا المزيّفة - في صناعة القرار الوطني، أو صناعة المصير المشترك؟
وللإجابة على هذا السؤال، لابدّ من العودة إلى بداية (الدوّامة) وطرح السؤال بصيغة معاكسة: "لمَ لا يستبدّ الحاكم إذا وجد أمامه شعباً يقبل الخضوع للاستبداد؟" وما الذي يمنعه من الاستبداد، بل حتى من ادّعاء الألوهية أحياناً، على مذهب فرعون (فقال أنا ربكم الأعلى.. ما علمت لكم من إله غيري.. ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد..)؟ أليس من حق نفسه عليه أن يستبدّ، وأن يسيّر الناس –كل الناس إن استطاع –بالطريقة التي يراها هو وحده، وحسب القانون الذي يسنّه هو وحده؟ ألم يحفظ كل حكام العالم مبدأ (الاستبداد الغرامي) الذي رسّخ دعائمه عمر بن أبي ربيعة في قوله: "إنما العاجز من لا يستبد" ويحاولوا تطبيقه في عالم السياسة؟
وهنا نعود إلى كلمة "يمنحوا" الواردة أعلاه في عبارة "أن يمنحوا شعوبهم شيئاً من الحرية، فنجدها – ومع الأسف الشديد - أسقط لفظة في عالم السياسة.. لماذا؟ لأن الحكام لا يمنحون ولا يهبون ولا يعطون..؟ لا.. بعض الحكام يمتازون بسخاء شديد وبكرم مفرط، ونادراً ما نجد حاكماً لا يهب ولا يمنح ولا يعطي.. لكن ماذا يعطي الحكام؟ وماذا يمنحون وماذا يهبون؟ إنهم يهبون المال، بدءاً بالدرهم وانتهاء بألوف الألوف من الدنانير.. ويمنحون المباني والأراضي.. ويعطون الدواب والمواشي والعبيد والجواري.. هذا وذاك مما يمكن أن يعطيه الحكام أو يهبوه أو يمنحوه.. لا لأبناء شعوبهم فحسب، بل للآخرين أيضاً، من أبناء الشعوب الأخرى.. وهذا الكرم لدى الحكام قديم، ويضاف إليه في العصر الحديث منح الأوسمة والنياشين ومنح شهادات "الولاء" و "حسن السلوك".
لكن.. هل يمنح الحكام شعوبهم حرية؟ هل يمنحونها حقاً في المشاركة بصنع القرار المتعلق بمصيرها..!؟
الجواب ببساطة متناهية: لا..
ويظل السؤال يلحّ: لمَ لا؟
ويأتي الجواب: إن هذه الأمور لا تدخل في دائرة (المنح) بل في دائرة أخرى هي – بكل وضوح وجلاء - دائرة (الأخذ).. وللأخذ صور شتى منها صورة (الانتزاع).. هذه واحدة..
والأخرى: إن الحاكم الذي (يمنح) ما (اغتصبه) يفقد مباشرة قدرته على المنح، ويصبح شخصاً عادياً كسائر عباد الله.. لأن الشعب حين يحصل على حريته – بأية صورة - يصبح قادراً على تولية الحاكم الذي يريده.. وبالتالي يفقد الحاكم "مانح الحرية) فرصة البقاء (الحتميّ) في السلطة، ليبدأ بتحيّن الفرص العادية، التي يتساوى فيها مع الآخرين، في استلام السلطة.. وأية سلطة؟ إنها السلطة التنفيذية المنضبطة، المسوّرة بأسوار دقيقة من المراقبة، المعرّضة في كل ساعة للضياع..
فأين هذه السلطة من السلطة الأولى؟! الفرق هائل.. والبون شاسع.. وأيّ حاكم (يمنح) أو (يهب) شعبه الحرية لإسقاطه، وجعله بشراً كالبشر؟
إن التاريخ الإنساني لا يقدّم – في هذا المضمار - سوى نماذج نادرة فذّة، تعدّ في مصطلح "الاستبداد" الذي نتحدث عنه "شاذّة".. والشذوذ لا يقاس عليه.. فماذا يبقى؟ يبقى تسليط بعض الضوء على الشعوب.. وبالتالي طرح السؤال الضخم: لم تخضع الشعوب للاستبداد؟
ويأتي الجواب:
أولاً: ليست كل الشعوب تخضع للاستبداد.. فالسؤال بصيغة التعميم غير دقيق.
ثانياً: الشعوب التي تخضع للاستبداد تحكمها معادلات شتى معقدة..
ثالثاً: (الخضوع) للاستبداد، لا يعني بالضرورة (قبوله) أو (الرضى به).
رابعاً: كلمة "شعب" تتضمن شرائح اجتماعية وسياسية شتى، ولن تكون مواقفها بالضرورة متماثلة من حيث الخضوع للاستبداد.. فهناك شرائح "تُعارض" وأخرى "تثور".
خامساً: ومن البند "رابعاً" نعود إلى أصل الموضوع "الصراع بين السلطة وخصومها" أو ما تسميه السلطة "الأمن السياسي" ويسميه الشعب، أو المعارضة "القهر السياسي".. وهما –الأمن والقهر- وجهان لعملة واحدة، ترى منها السلطة – في النظم الاستبدادية - الوجه الأول، ويرى الشعب الوجه الثاني، والتلازم بينهما عنيف وعجيب.
وإذا كانت ممارسة السلطة فناً، وكانت ممارسة المعارضة فناً، فلابد أن يلتقي الفنّان في حلبة صراع – واسعة أو ضيّقة - تتسع وتضيق حسب براعة كل من الطرفين في ممارسة فنّه.. فالسلطة قد تمارس (الخنق) المباشر، والمعارضة قد تمارس "فتح النار" والسريع والمباشر.. ودون هاتين الممارستين، وفوقهما، أشكال وألوان من "الفنّ".
وهنا يُطرح السؤال التالي: أين يقف الشعب؟
والجواب هنا يكمن في تركيبة معقدة من الظروف التاريخية والنفسية والاقتصادية والروحية والفكرية والاجتماعية.. فقد نجحت ثورات كثيرة لأنها حظيت بدعم الشعوب، ونجح حكام كثيرون في خنق الثورات، لأنهم استطاعوا كسب الشعوب إلى جانبهم – وألوان الكسب كثيرة وصوره متعددة - أو تحييدها..
ولابد هنا – أيضاً - من طرح سؤال آخر: هل يستطيع كل الحكام – بالضرورة - تقدير مصالحهم بدقة، عند ممارسة فنّهم – أي ممارسة السلطة -؟
الجواب بالتأكيد: لا.. فكثيرون هم الذين سقطوا عن كراسيّهم، بسبب أخطاء قاتلة ارتكبوها نتيجة حسابات مشوّشة أو مغلوطة.. وكثيرون هم الذين دُفعوا إلى السقوط دفعاً، دفعهم أناس من أعوانهم أو وزرائهم أو مستشاريهم أو خبرائهم.. والسبب الأول في الحالة الثانية هذه يعود إلى الحكام أنفسهم، لعدم معرفتهم بالرجال، أو لحرصهم على التأييد الأعمى الرخيص المستمر، هذا الحرص الذي يدفعهم إلى اختيار الإمّعات، أو الوصوليين والمرتزقة، أو السفهاء والمنافقين.. ليكونوا أعواناً لهم ومستشارين ووزراء.. فلا يحظون منهم بنصيحة مخلصة ولا بتقرير صادق عن أحوال الناس.. وكل ما يحملونه إليهم – أي إلى الحكام - هو التطمين والتبشير والتخدير..
بل ربما أوغل بعض الأعوان والوزراء والمستشارين، في عمليات دنيئة من غشّ الحكام واستثارتهم ضد فئات معينة لضربها، بحجة أن هذه الفئات مناوئة للسلطة أو متآمرة ضدها.. ويكون الأمر في حقيقته، نوعاً من الكره الشخصي الذي يكنّه هذا الوزير أو ذاك المستشار، لهذه الفئة أو لبعض عناصرها.. وقد يكون الكره ناجماً عن أسباب عائلية أو حزبية، أو أخلاقية – تتعلق بأخلاق الوزير أو المستشار - أو غير ذلك.. بينما تكون الفئة المتّهمة أقرب إلى موالاة السلطة منها إلى المعارضة.. أو تكون معارضة إلا أنها هادئة مسالمة..
وفي مثل هذه الأحوال، يقع الحاكم فريسة جهله، بالرجال، أو بأحوال الناس، أو فريسة تسرّعه وتهوّره.. ولا يدرك عمق الهوّة التي استدرج إليها، إلا بعد الوقوع فيها.. إذ يعميه الأمن القريب أو المتوهم "للكرسي" عن الأمن الحقيقي أو البعيد، فيخسر الاثنين معاً، نتيجة تغرير شيطاني من بطانته، أو استدراج خبيث من أحد أعوانه "المخلصين" لأنعسهم، أو لشهواتهم، أو لأحقادهم.. والتاريخ يقدّم نماذج كثيرة لمثل هذه الحالات، في عصوره المختلفة، وآخرها العصر الحديث..
وكما قد يُستدرج الحاكم إلى ضرب المعارضة، قد تستدرج المعارضة إلى مجابهة الحاكم، بأساليب شتى من أساليب الاستدراج.. وغالباً ما يكون هذا الاستدراج في غير مصلحتها..
ومن أساليب الاستدراج:
أ – التسرّع أو الطيش لدى بعض عناصر المعارضة..
ب- أساليب الحاكم نفسه، إذ يجرّ المعارضة إلى ساحة الصراع دون أن ينتبه إلى سلسلة أفعاله وحماقاته التي تؤدي إلى المجابهة.. وقد يمارس أفعالاً واعية مقصودة، بقصد جرّ المعارضة إلى ساحة الصراع لضربها..
ج_ التغرير الصادر من جهات أخرى، كقوّة معارضة ثانية مثلاً، تنصح الأولى – بأساليب معينة - بمجابهة الحاكم، وتعدها بالدعم والتأييد.. وذلك بغية تنفيذ مآرب خاصة للفئة الثانية، قد تكون ضرب الطرفين، أو أحدهما.. لتكسب هي قوة تساعدها في تحقيق أهدافها..
وهكذا تتعدد أساليب الاستدراج والتغرير، وتتنوع حسب الظروف والأحوال..
ولن نضرب أمثلة مسماة.. فالواقع الحيّ مشحون بالأمثلة.. إلا أننا قبل أن نختم هذا البحث، نطرح على أنفسنا السؤال التالي:
هل نودّ تقديم نصيحة لأحد؟
والجواب ببساطة وصراحة: لا.. وسبب هذا النفي البسيط أمران:
الأول: هو أن هذا البحث ما أعدّ لذلك. والثاني: هو أن حكام المسلمين يقرؤون القرآن وأحاديث الرسول، والتاريخ القديم والحديث، فمن بم ينتصح منهم بشيء من هذا كله، فلن تنفعه نصيحة هزيلة متواضعة من نصائحنا.. أما الحكام غير المسلمين – المستبدون منهم - فيقرؤون كذلك التاريخ، ومن له ديانة يقرأ في صفحاتها كذلك.. فهم أغنى الناس عن نصيحتنا.. أما شعوب المسلمين، ففضلاً عن قراءتها للقرآن وسنة النبي والتاريخ، لديها رقابها التي تداس كل يوم بأنواع شتى من الأحذية، وتحزّ بأنواع شتى من السكاكين.. فإذا كان هذا كله لا يصلح ناصحاً أميناً لها، فلن تنتفع بنصيحة أحد، كائناً من كان..
وكذلك الشعوب غير المسلمة، ذوات الديانات والتواريخ والرؤوس المسحوقة.. أو ذوات التواريخ والرؤوس المسحوقة فقط.. فمن لا تؤلمه وخزة السكين، أو لسعة السوط، أو دعسة "البصطار" لن تؤلمه الكلمات مهما بلغ حسّه الأدبي من الرقة والرهافة واللطف..
وتبقى سنّة الله جارية في خلقه حكاماً ومحكومين، كما جرت فيمن سبق من حكام وشعوب ودول: (ولن تجد لسنة الله تبديلا..) صدق الله العظيم.
ويبقى السؤال الأخير مطروحاً على بساط البحث: ترى لو أحسن حاكم ما معادلة شعبه، و"منحه" قدراً مناسباً من الحرية، وأشركه – جديّاً - في صناعة القرارات المتعلقة بمصيره، وأقام العدل بين أفراده في الحدود المعقولة – وهي نسبيّة - ثم تُرك بعد ذلك للشعب حق الاختيار بينه وبين الآخرين، لحكم البلاد.. أفما يغلب على الظن، أن هذا الشعب سيعيد اختيار هذا الحاكم، ويتطوّع كل جندي من جنوده، ليكون فداءً للحاكم، وكل فرد من أفراده، ليكون عنصر أمن يرصد كل زاوية وكل شارع وكل حيّ، ليقدّم المعلومات لحاكمه المحبوب المفدّى، الذي صار له بمثابة الأب والأخ والقائد والحامي؟
وحتى لو لم يُعد الشعب اختيار الحاكم مرة أخرى، أفليس الأفضل لهذا الحاكم أن يظل هو وعهده وحكمه.. ذكريات حبيبة في قلوب الناس وعقولهم، وكتب تاريخهم وأدبهم وأناشيد أطفالهم.. أليس هذا أفضل له، من أن يصبح عهده لطعة سوداء مظلمة في تاريخ الأمة، وذكرى مشؤومة في بطون الكتب وعقول الأجيال؟ ثم.. ألا يوفّر، في حال العدل ومناخ الحرية، ملايين الدنانير التي يصرفها على أجهزة أمنه المتعددة المتنوعة، ويوفّر جهود آلاف الرجال، الذين يحرسون كرسيه من غضبة الجماهير المسحوقة، التي تتحين الفرص للانقضاض عليه، كما يوفّر الكثير من وقته وجهوده وأعصابه، مما يمكن أن يستنزفه الخوف الدائم والحذر الدائم، من غضبة الجماهير المضيّعة المضطهدة..؟
إنا نظن أن الإجابة على كل هذه التساؤلات الأخيرة، هي: نعم.. لكن الجواب ليس مطلوباً منّا نحن، ولا موجّهاً إلينا.. وعلى المعنيين بالأمر، تقديم الجواب..