صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري ـ 1 ـ

د.محمد أبو بكر حميد

صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري

ـ 1 ـ

علي أحمد باكثير

الدكتور محمد أبو بكر حميد

علي أحمد باكثير بين خذلان اليمين وحرب اليسار

  لقد توالت الشهادات التي أدلى بها نقاد ومبدعون ومثقفون كبار عن المشهد الثقافي الذي كان سائداً في مصر الناصرية حتى ليمكننا القول أن كافة التيارات تقريباً ـ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قالت كلمتها في الموضوع المعارض منهم والمتمثل لوجهة نظر السلطة آنذاك. والحلقات التي نشرها عن علي أحمد باكثير تصب في هذا المجرى الذي ما زال الكلام حوله جارياً ولكنها تختلف عن ما سبق أن قيل في أشياء:

 أولاها ـ أنها دراسة وثائقية ولا تعتمد على افتراض القارئ المسبق بمصداقية الراوي وتزكية حديثه، وكاتب الدراسة يملك كنزاً من الوثائق عن علي أحمد باكثير.

  وثانيها ـ أن هذه الحلقات تتحدث عن ظلم المثقف لأخيه المثقف، وبالتالي فهي لا تعيد الكلام المكرور عن علاقة السلطة بالمثقف والتي تتجسد فيها علاقة القامع بالمقموع، فهي تقدم صورة المثقف حينما يستحيل إلى سلطة غاشمة لا تبقي ولا تذر، فهو الذي يمنح ويمنع، يستعدي ويشي، يعتم ويضطهد، يفعل كل هذا، مع أنه يرى نفسه خارج مربع السلطة!

  إذن فالسلطة (السياسية) ليست هي وحدها التي تشرد وتنفي وتعتقل وتغتال في العالم العربي، فالمثقف (إلا من رحم ربك) والتيارات الثقافية ـ أيضاً ـ تمارس الشيء نفسه رغم التحرق الظاهري والداخلي للعدل والحرية، ولكن فيما يبدو أن المثقف العربي يطلب هذا العدل ويطلب هذه الحرية لنفسه وللتيار الذي يسبح في فلكه وحسب، أما الآخرون فهم خارج الحسبة، إن لم يكونوا طرفاً صفرياً في معادلة الحرية !!

  والأديب العربي المسلم علي أحمد باكثير ظلم مرتين: المرة الأولى حينما سرقت منه ريادته للشعر الحر، مع أن بدر شاكر السياب يعترف له بهذه الريادة في دواوينه التي أهداها إليه، بل إن بدراً ونازك الملائكة ـ كما يؤكد الدكتور عبد العزيز المقالح ـ أوضحا استفادتهما من مغامرته التجديدية التي أحدثها في شكل القصيدة العربية، والمرة الأخرى حين حجبت مسرحياته عن التمثيل في المسرح القومي في الستينات بمصر، وضاقت به منافذ التعبير بحيث لم يجد مكاناً يدافع به عن تراثه وتاريخه المسرحي والأقلام تتناوشه من كل جانب فالحرب لم يكن مقصوداً بها باكثير شخصياً بقدر ما كانت حرباً ضد توجه ومنحى يعبر عنه أدب باكثير في ظل الإنتفاعة الراديكالية لبعض التيارات الفكرية والثقافية ذات الصوت العالي آنذاك.

  وهنا يجدر التنبيه إلى  أن  نشر هذه الدراسة الوثائقية التي  تمس سمعة  بعض الأسماء التي  غدت 

رموزاً  ثقافية كبيرة في مصر خاصة والعالم العربي عامة ليس الهدف منها النيل من سمعة مصر الثقافية الكبيرة ولا دورها الريادي أو موقعها المحوري بالنسبة للثقافة العربية. فعلي أحمد باكثير ننظر إليه على أنه أديب مصري، وفوق ذلك فهو أديب عربي ومسلم، فنحن نتفق مع نظرة دارس وناقد سعودي، وهو الدكتور منصور الحازمي الذي سبق له أن رد على محاولات أقلمة أدب باكثير بالقول:

" إن باكثير ولد في أندونيسيا، ونشأ بحضرموت، ومر بالحجاز مسرعاً إلى وطنه الحقيقي في مصر التي أقام فيها وكتب وتوفي رحمه الله.. ففي الأرض الخصبة بوركت البذرة الحضرمية الطيبة، المسافرة على ضعفها من أقصى المشرق، اخضرت وأينعت وأثمرت محصولاً إبداعياً وفكرياً رائعاً، تتيه به مصر الحاضنة الحانية، كما تتيه به الأمة العربية جمعاء التي ينتمي إليها باكثير بأرومته وفكره ووجدانه وثقافته ".

  وباكثير نفسه يؤكد أن أرض مصر لم تضق به، ولكن ضاقت به بعض الصدور اللئيمة ـ كما يقول ـ ففي مصر حظي باكثير من تكريم رسمي من قبل الدولة فالقضية قضية صراع فكري وإيديولوجي بين تيارات فتية وجديدة وصاعدة كالتيار اليساري، وتيارات مستقرة وثابتة تقاوم مد الوافد على الحياة الثقافية العربية، وتتمثل في التيار الإسلامي ـ العربي المحافظ المعتدل الذي ينتمي إليه فكر ووجدان باكثير، فهو نفسه هرب من حضرموت عندما فكر في الاستقرار فيها بعدما عانى من اضطهاد وحرب اليسار ضده في مصر في أخريات حياته، فلقد وجدهم أيضاً هناك، وكان يردد " لقد ذبحت في كل مكان حين ذبحت في مصر". فالقضية ـ كما أشرنا ـ قضية صراع فكري وإيديولوجي وليست قضية أصول ومنابت وأقاليم.

  الشيء الآخر الذي نحب أن نؤكد عليه هو أننا لا نمارس تشفياً أو شماتة في تجربة اليسار المصري عندما ننشر الوثائق التي تدين بعض أسمائه الثقافية الفاعلة بعدما انفض السامر عالمياً حول اليسار والنزعة اليسارية، فاليساريون ليسوا وحدهم الذين حجبوا ويحجبون الحرية، واليساريون ليسوا وحدهم من مارسوا ويمارسون ثقافة النفي والتفكير عبر عقلية الإقصاء والإلغاء، فتيارات الثقافة العربية المعاصرة قاطبة وإن بدرجات مختلفة شاركت وتشارك في هذا الإثم المتكرر ضد قضية الحرية وتملك قاعدة متشابهة تضيق بالتسامح وتنفر من التعايش السلمي بين الأفكار، وكل تيار لديه الاستعداد أن يخون التيار الآخر مع السلطة في أقرب سانحة ليس حباً في السلطة أو إخلاصاً لمشروعها السياسي والإيديولوجي وإنما هي الرغبة الدفينة والمتأصلة في تصفية الآخر ونحره، وإن بأساليب غير أخلاقية .

  إن الدرس الذي نستخلصه من نشر هذه الوثائق أن المثقف يجب أن ينحاز إلى أنه كمثقف ومشروع علني وليس كاتباً لتقارير سرية، فالتاريخ سره مذاع ولو بعد حين، ويجب أن نستخلص أيضاً أن المدافع عن إبداع غيره هو في النهاية مدافع عن إبداعه الخاص، وحريته الخاصة أيضاً.

 طبعاً نحن ندرك أن هذه الوثائق لا تقول الكلمة الأخيرة فالشهود والمدانون أحياء ومعاصرون ونسعد حينما نتلقى توضيحاتهم واستدراكاتهم فالحوار هو الركن المعطل في حياتنا الثقافية العربية، وهو ما نأسف له أشد الأسف ـ وكلنا توق إلى أن تسود بيننا شريعة الحوار و أدب الاختلاف.

  بقي لنا أن نعرف بكاتب الدراسة، وهو الدكتور محمد أبو بكر حميد الأستاذ بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود وهو معني بالمسرح ومتخصص فيه، أطروحته للدكتوراه كانت عن باكثير، ونستطيع أن نقول عنه أنه وهب جهده العلمي والأكاديمي في التنقيب عن تراثه، وقد صدر له كتاب عن " علي أحمد باكثير في مرآة عصره " والوثائق التي تضمنتها دراسته هذه التي ننشرها هي ثمرة جهد دقيق في مطاردة التراث الباكثيري والتنقيب عنه يمتد هذا الجهد إلى أكثر من عشر سنوات. ننشر هذه الحلقات بمناسبة استشرافنا لذكرى باكثير التي تمر على وفاته خمسة وعشرين عاماً فقد توفي الأديب الكبير في القاهرة (كانون الأول) 1969م.

  لا يكتب التاريخ بأيدي أصحابه سواء كان مشرفاً أو مخزياً وإنما يكتب بعد انقطاع الأحداث وانتهاء تأثير الذين صنعوه. وما يكتب أثناء المرحلة التاريخية قبل انقطاع الأحداث وانتهاء الأشخاص أو بعد ذلك بقليل إنما يعد مادة يستعين المؤرخ في البحث والتدليل والتقصي. وفي العصر الحديث أصبح الكثير من الذين يشاركون في صنع الأحداث يكتبون دورهم فيها وما عاشوه أثناء ذلك، وهو ما يظهر على شكل مذكرات وكتب تسجل ما حدث وتتابع ما يحدث.

  وقد أصبحت كتابة المذكرات والتاريخ للأحداث في وقتها وفي حياة أصحابها ظاهرة شائعة في عالمنا العربي، وأصبح حتى الذين عاشوا على هامش الأحداث ولم يروا منها إلا صداها يتصدون لكتابة المذكرات وإصدار الأحكام والمدح والقدح من الأشخاص الذين لا يزال الكثير منهم على قيد الحياة. وقد تمثلت هذه الظاهرة أكثر من أي مكان آخر في مصر التي شهدت في العقود الأربعة الأخيرة أحداثاً سياسية وتقلبات فكرية كان لها ارتباطها الوثيق بالعالم العربي كله. وبدءاً من الثورة المصرية سنة 1952م كان ما يحدث في مصر أو يصدر منها له أثر من كل بلد عربي ويهم كل مواطن عربي من المشرق إلى المغرب لأنه يحس بارتباطها الوثيق به وبمستقبل وطنه. ولقد كتبت عشرات المذكرات والكتب عن المرحلة التاريخية التي تتمثل في الفترة من قيام الثورة المصرية حتى وفاة عبد الناصر سنة 1970م. وتركزت معظم هذه الكتب والمذكرات على فئتين من الشخصيات التي صنعت الأحداث أو شاركت فيها: الفئة الأولى القادة والسياسيون ومن حولهم وما دار بينهم من صراع وخلافات كان لها أثر على مسيرة الأحداث في المنطقة. والفئة الثانية: شخصيات الوسط الفني من ممثلين ومطربين، رجال ونساء ومشاركاتهم في الأحداث بالجبر أو الاختيار وعلاقاتهم بالقادة السياسيين ودورهم في التأثير على الأحداث أو دور الأحداث في توجيههم وما تبع هذا من اعترافات و مغامرات عاطفية. وقد استثمر معظم ما كتب للإثارة السياسية و الإثارة العاطفية  لصالح  التسويق

التجاري وخضعت أكثر الأحداث التاريخية المدونة لاتجاهات كتابها وآرائهم الشخصية والرسالة الآنية التي يريدون إيصالها في حينها إلى الناس للتأثير عليهم.

  وقد يكون هذا كله صعباً وفي صالح المؤرخ الذي سيأتي فيما بعد ليستخرج من هذا الركام وهذه المتناقضات حقائق تاريخية ونتائج أقرب ما تكون إلى الصحة بعد توافر الأدلة.

  ولكن الحياة الثقافية والأدبية كانت أقل حظاً من هذا كله في الحصول على الأضواء والآراء المتعددة، رفم ما حدث فيها من معارك فكرية وإرهاب واضطهاد مثلما حدث فيها أيضاً من ازدهار وتطور وارتقاء. وربما لأن ما حدث في الحياة الأدبية والفكرية لم يكن ليجذب القارئ ـ كما يظن المستثمرون ـ الذي تجذبه أسرار الصراع بين القادة السياسيين أو خفايا علاقة فنانة بسياسي. وربما لهذا السبب التجاري ولأسباب أخرى فكرية أيضاً كان تاريخ الجانب الفكري في الحياة الفنية والثقافية عموماً في مصر الناصرية لم يحظ بالتجانس والتعدد من الرؤية والطرح الذي حظي به تاريخ نجوم الشخصيات السياسية والفنية.

  وكان المسرح أقل الظواهر الثقافية حظاً في إيجاد من يكتب عنه بتجرد أو على الأقل في إيجاد أناس يكتبون عنه بوجهات نظر متعددة تتيح لكاتب التاريخ في ما بعد فحص الآراء واستقراء الأحداث وتحري الحقيقة.

  وليست مشكلة أن نجد المسرح المصري بعد الثورة يكتب من وجهة نظر واحدة فهذا طبيعي أن يحدث عندما يكتب التاريخ أثناء المرحلة التاريخية ويسجل تحت سمع وبصر ورقابة صناع الأحداث.

  وقد حدث هذا في التاريخ السياسي الذي سجل في حياة عبد الناصر ولكن الآراء تغيرت وتعددت بعد وفاته. لكن المأساة أن تاريخ المسرح في هذه المرحلة ـ ما بعد الثورة إلى وفاة عبد الناصر ـ لم يحدث له ما حدث للتاريخ السياسي من تغيرات وكشف للتجاوزات والمشكلات لسبب بسيط وهو أن القائمين عليه والمستفيدين منه هم الذين كتبوا تاريخه من وجهة نظرهم والذين كتبوا مذكرات منهم ركزوا على أمجادهم الشخصية وضخموا الإيجابيات لأن فيها تضخيماً لذواتهم وتجاهلوا السلبيات لأنها مآخذ عليهم. وبعد انقضاء المرحلة وزوال سلطاتهم ظلوا هم بأشخاصهم وكتبهم المراجع الوحيدة لهذه الفترة وانتشروا في البلاد العربية أساتذة يدرسون هذا التاريخ من وجهة نظرهم ويبالغون في الحديث عن " الازدهار" الذي حققوه فيه من منتصف الخمسينات حتى أواخر الستينات بالتقليل من شأن المسرح قبل الثورة والطعن في رموزه وأعلامه الكبيرة وكان المسرح في مصر قد بدأ بهم وانتهى بنهايتهم أي بانكسارهم بعد سنة 1967م وانتهاء سلطاتهم وتشتتهم بعد سنة 1970م. والأمر المؤسف أنه حتى الآن لم تفتح الملفات السوداء في تاريخ المسرح بعد الثورة بالرغم من فتح ملفات الحياة السياسية والثقافية وما كان فيها من فساد في تلك المرحلة. فالكتب المتوفرة بأيدي الدارسين من طلاب وباحثين في المسرح المصري يتحدث معظمها عن " الازدهار" و "الانتشار" وكان ذلك بالطبع بفضل ما أتاحته الدولة من فرص ومن دعم كبير غير محدود ولكن هذا كان وجهاً واحداً فقط.

  والرأي الآخر الذي لم يتح له الظهور والانتشار إلى أن يقول أن الفرص لو أتيحت له الكفاءات ووجه الدعم وجهته الصحيحة لبلغ ازدهار المسرح في مصر ما بلغه الإغريق بحق في القرن الخامس قبل الميلاد.

  ولكن الذي حدث هو أن الاتجاه اليساري أو الماركسي هو الذي استولى على أجهزة ووسائل الخدمات الثقافية والفكرية والفنية وفرص أشخاصه واتجاهه الفكري عليها وجعلها حكراً لهم وحدهم دون المخالفين لهم في الرأي والفكر وهم غالبية الأدباء والمفكرين والفنانين. 

  وقد أدى هذا إلى وقوع الظلم والإبعاد لغالبية هؤلاء الذين لا يتفقون مع فكر المجموعة المسيطرة على الأجهزة الثقافية وتم التمكين لمن هم دونهم ثقافة وإنتاجا وذلك بمجرد استعدادهم لاعتناق فكر التيار المسيطر أو مسايرته.

اليمين يشي باليسار

  من حسن الحظ أو على الأصح من حسن حظ هؤلاء المظلومين أن وقعت بيدنا بعض الوثائق التي تدين الاتجاه اليساري المسيطر وهي رسائل كتبها مثقف مصري شجاع هو الفنان التشكيلي الأستاذ إبراهيم الأزهري وبعث بها إلى وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة وإلى الأستاذ سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر لشؤون المعلومات وعضو لجنة الرقابة. وقد كشف الأستاذ الأزهري بجرأة القناع عن أوجه الفساد والانحراف في الوسط الثقافي وحدد بالأسماء والوقائع والأرقام مواطن الخلل . ولم يكتف بالرسائل فقط بل التقى بوزير الثقافة وبالدكتور علي الراعي وكيل الوزارة ورئيس مؤسسة المسرح والموسيقى وهو ـ الدكتور الراعي من أكثر من تدينهم هذه الوثائق الخاصة وهي عبارة عن أربع رسائل رسمية موثقة.

   الرسالة الأولى بتاريخ 22/4/1967م موجهة إلى السيد أمين المكتب التنفيذي لقسم الأزبكية والرسالة الثانية موجهة إلى الدكتور ثروت عكاشة نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة بتاريخ 2/5/1967م والرسالة الثالثة بدون تاريخ إلى السيد سامي شرف مدير مكتب رئيس الجمهورية لشؤون المعلومات وعضو لجنة الرقابة. والرسالة الرابعة لم يكتب عليها اسم المسؤول الموجهة إليه والواضح أنها مسودة رسالة ويفهم من مضمونها أنها موجهة إما إلى ثروت عكاشة أو إلى سامي شرف.

  وقد اتبع الأستاذ الأزهري أسلوباً منطقياً في توجيه الرسائل فقد تخاطب مع المسؤولين من الأدنى إلى الأعلى. فالرسائل تتحدث بنفسها وبالأسماء الصريحة وبالوقائع والأرقام. ومعظم من ذكروا أو أدينوا لا يزالون أحياء يرزقون وفي مقدمتهم الأستاذ إبراهيم الأزهري نفسه كاتب الرسائل.

  مع العلم أن موضوعات هذه الرسائل ليست سراً فكاتبها استمد مادته من واقع ما يحدث على الساحة الفكرية والفنية.

  فالرسائل تتعرض لقضية " الشللية " التي استشرت في الحياة الثقافية والأدبية والفنية في مصر.

  فمن المعروف أن الاتجاه اليساري قد تسلط أولاً على المسرح ابتداءً من سنة 1956م ثم انتشر في كافة الأجهزة الثقافية الأخرى بعد القرارات الاشتراكية في أوائل الستينات وما كان من انطلاق الشيوعيين من السجون، ثمناً لزيارة خروتشوف لمصر لتدشين السد العالي. فقد عين الأستاذ أحمد حمروش في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1956م مديراً عاماً للفرق المصرية وعضواً في لجنة القراءة التي ضمت عدة عناصر يسارية مثل الدكتور محمد مندور والدكتور علي الراعي. ومنذ ذلك التاريخ بسط هذا الاتجاه يده على المسرح المصري وفرض فكره أو رأيه أو علاقاته الشخصية على الأقل على ما يعرض من مسرحيات على " المسرح القومي ". وأهمل الرواد الذين أثروا المسرح المصري بأعمالهم قبل الثورة وعبروا عن قيم ثورية وهاجموا الاستعمار وأثبتوا وطنيتهم في حين كانت الوطنية تهمة يعاقب عليها القانون في ظل الاستعمار الإنجليزي. وبعد خروج الشيوعيون من السجون استكملت حلقات الانقضاض على معظم أجهزة الاتصال الجماهيري.

  وعليه فإن الأستاذ إبراهيم الأزهري يوجه في رسائله الاتهامات التالية إلى العناصر اليسارية والماركسية ويعززها بالأدلة.

أولاً: الاستيلاء على مراكز الثقافة

  ويتمثل في تركز المسؤوليات الثقافية والفكرية والفنية في أيدي قادة اليسار الماركسي واستغلال هؤلاء القادة لمناصبهم بفرض أنفسهم على مناصب ومسؤوليات أخرى وتركيزها في أيديهم، الأمر الذي حقق لهم المزيد من الثراء المادي وبسط النفوذ والمثال الصارخ يتمثل في شخصيتين رئيسيتين في هذا الاتجاه وهما:

أ ـ الأستاذ أحمد حمروش مديراً عاماً للفرقة المصرية ويتحكم في تكوين اللجان التي لا يخلو معظمها من عضويته ويفرض سلطانه ولونه الفكري على كل ما يتصل بـ " المسرح القومي " وهو المسرح الرسمي الذي تدعمه الدولة بميزانية كبيرة. وإلى جانب كتابته بالصحافة فقد شغل منصب رئيس تحرير " روز اليوسف " التي بلغت في عهده أوج تطرفها اليساري ناهيك من عضويته في عدد من مجالس الإدارة مثل مجلس إدارة النادي الأهلي وعضو مجلس إدارة مؤسسة السينما ومشرف على الثقافة الجماهيرية إلخ ؟!

ب ـ الدكتور علي الراعي: رئيس مؤسسة المسرح والموسيقى ووكيل وزارة الثقافة ثم مشرفاً على محافظة الشرقية وعضواً في لجان قراءة وكاتباً دائماً في الكثير من المجلات والصحف وغيرها.

ثانياً: استغلال النفوذ

  فبعد استيلاء كبارهم على المناصب الثقافية والفكرية الكبرى قاموا بإحاطة أنفسهم برجالهم وإبعاد العناصر القومية والوطنية المستقلة بوسائل غير شرعية ـ كما تقول الرسائل ـ فقد عين رجالهم " دون المرور على جهات البحث والتحري ". وبعد أن أحكموا قبضتهم على هيئات الخدمات الثقافية التي تخص كل المواطنين دون تمييز بفكر أو دين قصروا العقود وطبع الكتب واللجان على الذين من لونهم باستثناء بعض حالات التمويه. وأكبر مثال على ذلك ما فعله الأستاذ محمود أمين العالم حين تولى رئاسة " دار الكتب العربي " وهي أكبر مؤسسة نشر حكومية في مصر إذ قصرها على الماركسيين فحسب واستبعد مؤلفات الكتاب الوطنيين والقوميين وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الشيوعيين تذكر الرسائل أسماءهم وافتتح عهده الميمون بالتعاقد مع 20 كاتباً شيوعياً.

ثالثاً: تبديد المال العام

  ويتمثل هذا في صرف أموال المؤسسات الفكرية والثقافية على من لا يستحق من غير الأكفاء من رجالهم وعلى الأنشطة الثقافية التي لا تتفق مع الاتجاه العام للمواطنين. وتورد الرسالة الأولى هذا المثل: عرضت مسرحية " الإنسان الطيب " للكاتب الشيوعي الألماني بريخت وكلفت 4000 جنيه بينما كان دخلها 1135 جنيهاً أي بخسارة 2865 جنيهاً، فقد فشلت المسرحية جماهيرياً ولم يستجب المواطن المصري البسيط لفكرها الغريب عليه، وكذلك التعاقد مع كتابهم لطبع كتبهم ومسرحياتهم وفي الرسائل أدلة على كتاب قبضوا مقدماً مبالغ كبيرة وآخرين قبضوا أثمان مسرحيات قبل أن يتموا كتابتها !!

وجوه شديدة الحمرة

  لقد كان من الطبيعي عندما يتعرض الدكتور علي الراعي للكتابة عن المسرح المصري في عصره هو أن يلغي كل ما قبله بجرة قلم ويعتبر كل المسرحيات التي كتبت قبل الثورة لأدباء كبار ورواد أمثال إبراهيم رمزي وشوقي وعزيز أباظة وتيمور وباكثير. كل أعمال هؤلاء "تجمعها صفة واحدة مشتركة وهي أنها لا تنبض في قوة بنبض الجماهير" وبنفس التعميم وبنفس الأسلوب الإنشائي الذي لا يحدد المعاني نجده يقول في رومانسية حالمة:

" وبعد الثورة أخذ كتاب المسرح يظهرون واحداً وراء الآخر في صف طويل متنوع الألوان المسرحية كأنما كانوا على ميعاد"! (كتاب المعرفة في الوطن العربي، عالم المعرفة، يناير 1980م، ص85).

  ففي الفقرة الأولى جرد الراعي الكتاب الرواد من نبض الجماهير ناسياً أن أعمال هؤلاء ضربت أمثلة ودروساً من الوطنية على خشبة المسرح المصري قبل أن يشب الدكتور الراعي ورفاقه عن الطوق. أما الفقرة الثانية فإن الحقائق تكذب زعمها فالصف الطويل المتنوع الألوان كان موجوداً حقاً في مسرح ما قبل الثورة وليس بعدها. فقد كان شوقي غير عزيز أباظة وإن كتبا مسرحيات شعرية وكان تيمور غير باكثير وإن كتبا مسرحيات نثرية. أما كتاب المسرح الثوار فقد كانوا جميعاً لوناً واحداً لا تنوع فيه وإلا فقل لي ما الفرق في الفكر بين الفريد فرج ونعمان عاشور وميخائيل رومان ومحمود السعدي وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس وغيرهم فهؤلاء جميعاً كانوا بالجبر والاختيار ومن أغلب الأحوال مجاراة للتيار وصدى لاتجاه فكري محدد.

  وهكذا تجد في كل اللجان والمؤسسات الفكرية والثقافية والصحافية والفنية تتكرر نفس الأسماء ونفس الألوان فهم الذين يفكرون وهم الذين يمثلون الثورة ويمثلون الجماهير وهم الذين يؤلفون المسرحيات وتنشر لهم دور النشر الحكومية وتعرض مسرحيات على المسرح القومي وغيرهم من كبار أدباء رجعيين عاشوا في عهد الملكية ويفكرون بطريقة غير اشتراكية. ومن هنا بدأت مؤامرة طمس كل الأسماء اللامعة التي ظهرت قبل الثورة والعمل على إبعادها عن الضوء بعد أن أصبح الضوء بأيديهم مسلطاً عليهم وحدهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد نشرت مجلة " المسرح " من عدد يوليو 1966 أحاديث نادرة مع ثلاثة من الكتاب الكبار الذين طالتهم يد اليسار وهم محمود تيمور وأمين يوسف غراب وباكثير. فنجد أنه لم تعرض لتيمور إلا مسرحية واحدة فقط سنة 1956م أي منذ ولاية أحمد حمروش المباركة على المسرحة القومي، عرضوا له " سهرة مع تيمور" في مسرح الحكيم سنة 1966 وهي عبارة عن ثلاث مسرحيات قصيرة بينما رفضوا عرض مسرحية كبيرة مثل " صقر قريش " التي عرضت في الكويت وتونس إخراج زكي طليمات ؟!

  وأدان محمود تيمور مجموعة الذين يحتكرون العروض المسرحية لأنفسهم وللدائرين في فلكهم وقال لمجلة " المسرح " بأسف ومرارة:

" للأسف إن بعض الأعمال المسرحية الكبيرة لا ترى الطريق ليس بسبب أي عيب فني أو مسرحي فيها ولكن لأسباب أخرى يعرفها الذين يمنعون ظهورها ".

  ولا يخفى على أحد أن محمود تيمور كان يكتب للمسرح قبل أن تنمو أظافر هؤلاء لكن من يفهم ؟ لا شك أنهم كانوا يعتبرونه كاتباً بورجوازياً !

  وطلبت المجلة من باكثير أن يفتح قلبه وأن يتحدث عن مشاكله وأعماله وتحت عنوان " من قلب باكثير" سجلوا له كلمة تصف الواقع الأليم لكنها لا تيأس من المستقبل، يقول باكثير:

" لم تقابلني عقبات في العمل الفني كما قابلني أشخاص في الحقل المسرحي اكتشفت أنهم يضحون بمثل كبيرة في سبيل مصالح خاصة. وقال:

" ولكنني ماض في طريقي أكتب وسيأتي الوقت الذي تظهر فيه الأعمال. وفقاً لمنطق البقاء للإصلاح.. على المسرح ".

  وسألوه عن أحب مسرحياته إلى قلبه من التي ظهرت على المسرح والتي تظهر فقال: " سر الحاكم بأمر الله " وقال لقد كشفت فيها لغزاً تاريخياً.

  وقال: " وقد كنت أضع نهاية الحاكم بأمر الله عندما ضاق بنفسه وبأنه عجز عن أن يكتسب صفات جيدة وذهب مرحباً بمؤامرة أخته لاغتياله ليتخلص من الحياة على يديها لأنه لا يقر الانتحار. فالمسرحية مفتوحة. ولكن يوسف وهبي غير النهاية لنهاية مقفلة من النوع الدرامي العنيف.

  أما المسرحية التي ظهرت على المسرح بالصورة التي أريدها فعلاً فهي " مسمار جحا ". حتى الألفاظ التي وردت على ألسنة الممثلين. وأقرب المسرحيات إلى قلبه بعد سر الحاكم بأمر الله هي " جلفدان هانم " وطلب علي باكثير أن تعاد تمثيل مسرحية " سر الحاكم بأمر الله " على المسرح بإخراج جديد.

  أما أقرب مسرحية إلى قلب باكثير من أعماله المسرحية التي كتبها بصفة عامة فلم تظهر على المسرح. وهي: مسرحية " مأساة أوديب ".

  ويقول عنها باكثير: " إنها أحسن ما يميز طريقتي في الكتابة. فنحن ننظر هنا إلى الأعمال التاريخية من خلال عيوننا نحن لا من وجهة نظر اليونان أو الفرس.

  وعن المضمون الثوري في مسرحية المستقبل لعلي باكثير يقول:

" إنها تحليل اشتراكي جديد يعكس في الوقت نفسه مأساة فلسطين والمتلاعبين بالدين. وقد ألفها باكثير عام 1949 بعد مأساة فلسطين.