متي تعلن اللغة العربية استقالتها؟
متي تعلن اللغة العربية استقالتها؟
د. عبد العزيز المقالح
يشكو أحد الكتاب البارزين من غياب الكلمات الملائمة للتعبير عن الواقع العربي، او بعبارته هو العراء العربي الذي يثقل القلوب والصدور معاً، وهي شكوي في محلها، فلم تعد الكلمات المتداولة، سيما تلك التي يفسدها الاعلام العربي، قادرة علي وصف معاني الهوان والمذلة العربية، فضلا عن وضع معالم للخروج من هذه المتاهة التي انهكت كل شيء، حتى اللغة صارت منهكة ومتعثرة، تعلن في كل وقت عجزها عن استيعاب ما وصلت اليه الأمة، وما يترتب علي هذه الحال من هوان جديد يقود الي هوان أجد، وهكذا يتناسل الهوان العربي، ويتناسخ في واقعنا دون توقف، إلي درجة تصعب معها القدرة علي التعبير بلغة كانت، وما تزال من اكثر لغات الدنيا غني بمفرداتها ومرادفاتها.
لماذا كل هذا العجز الذي يرافق مواقف الإنسان العربي ولغته؟ وما ذنب اللغة؟ حتي يصب عليها البعض جام غضبهم، بدلا من أن يصبوا هذا الغضب علي انفسهم، وعلي تقصيرهم تجاه هذا التراجع والهوان. وبالنسبة للغة، فان هذا الإنسان هو الذي اذلها، واضعفها، وجعلها عاجزة عن تصور واقعها المخجل والمذل. وليت للغة العربية
ـ لساننا العربي ـ ليت لها لسان لكي تعبر به عن سخطها، وعن شقائها بيننا، وتعاستها بواقعنا، فبعد ان كانت، لغة الحضارة والتطور، لغة العلوم والفلسفة والفنون والآداب، صارت اما لغة ردح وسباب، او لغة بكاء ونواح. اللغة ـ كل لغة ـ هي الناطقون بها، هي صوت نهوضهم او جمودهم، صوت كرامتهم او هوانهم، وليس لها ذنب فيما وصلنا اليه. الذنب كله ذنبنا نحن الذين ركعنا، وفتحنا بضعفنا الابواب والنوافذ للاعداء لكي يدخلوا متي شاءوا، دون ان يكلفوا انفسهم عناء الاستئذان.
لقد تعلمت الشعوب من التجارب التي مرت بها أو مرت بشعوبهم اخري، لكن شعبنا الكبير العظيم لا يستفيد من تجاربه وفيها المرير والفادح، ولا يستفيد من تجارب الآخرين، أو تهديه غريزته ـ ولا نقول عقله ـ الي بناء استراتيجية يحمي بها نفسه، ويعمل من خلالها علي تحسين ما تدمر من اوضاعه السياسة، والاقتصادية،ويدخل اصلاحات كبيرة، وملموسة تحد من الأزمات، وتخفف من وطأة القلق العام الذي يتحول بمرور السنين الي حالة تذمر شامل مصحوب بحالة شديدة من الاحباط، وغيره من الاثار السلبية التي تجعل ابناء الشعب الكبير العظيم يلقون باللوم علي الغبار والضباب، ويدفعهم انفعالهم السطحي الي توجيه الاتهام الي الحيوان والجماد، الا ان يتهموا انفسهم، ويعترفوا بان اخطاءهم القاتلة وراء كل شيء حدث، ويحدث لهم بما في ذلك العجز الحقيقي الذي منيت به لغتهم، والقصور الذي اصابها تجاه الاحداث اللاحقة.
لقد افسد الإنسان العربي بحماقاته، واطماعه، وبطموحاته الهزيلة كل شيء معه أو حوله، ولفرط ما افسد من أشياء انقلبت وبالا عليه بما فيها اللغة التي يتكلمها ويكتب بها، بعد أن كان يعتبرها وسيلة استقبال، واتصال صار يعتبرها عائقا في الحالتين. ولشاعر النيل المرحوم حافظ إبراهيم ـ طيب الله ثراه ـ قصيدة جعل فيها اللغة العربية، تتحدث عن نفسها، وتشكو بمرارة ما كانت قد وصلت إليه في مطلع القرن العشرين من إهمال، ولو عاد الشاعر الي الحياة مع بداية هذا القرن الجديد ثانية، لما تردد عن كتابة قصيدة، أو مجموعة قصائد علي لسان اللغة العربية تشكو فيها حالها، واتهامات الناطقين بها الذين لا يكفون عن تحميلها أسباب ما وصلوا اليه في حياتهم السياسية، والاقتصادية، وما نالهم من هزائم الأعداء وخيانات الأصدقاء.
وبما ان المهازل العربية تتطور وتتكاثر، فقد صار علي اللغة العربية ان تقدم استقالتها، وان تعترف بعجزها عن رصد هموم العرب، واحزانهم، ومشكلاتهم بعد ان تعلن براءتها عن كل خطيئة ارتكبها الناطقون باسمها سواء في محافلهم المحلية، أو المحافل الدولية.