حاجتنا إلى فقه الواقع
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
إن من أخص سمات التحرك السليم والمأمون العواقب في حياة الدعاة، ضرورة فقه الواقع بآلياته ومكوناته وتناقضاته والعناصر المؤثرة فيه والموجهة له ، سواء كانت مادية أم معنوية ،تاريخية وجغرافية وإجتماعية وإقتصادية وسياسية وفكرية وثقافية .
لأن الجهل بالواقع أو فقهه على غير حقيقته ، يفضي إلى عواقب وخيمة وغير مأمونة،فالسلوك الصحيح والتصرف السليم ، لايعدو أن يكون ثمرة للتصور الصحيح للواقع .
وفقه الشرع كذلك لابد أن يصاحبه فقه الواقع ، أو مقتضى الحال بالمصطلح الفقهي الأصولي ، حيث لايمكن الفصل بينهما في صناعة الحكم الشرعي ، والفتوى خاصة في النوازل والمتغيرات ، وقد ذكر العلامة إبن القيم رحمه الله :(أن الفقيه هومن يزاوج بين الواجب والواقع)،وقد فقه علماؤنا قديما هذا التزاوج ، وتعاملوا بمقتضاه مع كل الأقضية التي حدثت لهم في زمانهم ، فهذا الإمام إبن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله صاحب كتاب الخلاصة الفقهية المشهورة في الفقه المالكي ، يقتني في عهده كلبا للحراسة مخالفا ماأثر عن صاحب المذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله من كراهية ذلك ، فلما لامه من لامه على مخالفته لإمام المذهب قال: لو كان مالك في زماننا لأتخذ أسدا ضاريا، يعني أن الواقع قد تغير وإختلف .
فالواقع أن الشاهد في أساسه هو الحاضر في عالم الآخرين ، والصفة الأولى المكتسبة لإثبات قيمة أي شهادة ، هي حضور الشاهد ، إذا كان متعينا على المسلم أن يقوم بالدور الملقى على عاتقه في الآية:(( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا)(البقرة 143).
فهو مجبر على الحياة في إتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها كذلك ، ومن ثمّ يتعين على حضوره أن يعانق أقصى حد ممكن في المكان ، لكي تعانق شهادته أقصى كم ممكن من الوقائع، وعلاوة على ذلك فإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبي محض، إذ أن حضوره نفسه يؤثر على الأشياء وعلى أعمال الآخرين ، فعندما يكون الشاهد حاضرا ، يمكن لحضوره فحسب أن يغير من سير الأحداث ، وأن يجنب الوقوع في المحظور، وعلى هذا فإن رسالة المسلم في عالم الآخرين لاتتمثل في ملاحظة الوقائع ، ولكن في تبديل مجرى الأحداث ، بردها إلى إتجاه الخير ماإستطاع)(1).
ـــ نواقض الفقه السليم للواقع:
ومما يتنافى والفقه السليم للواقع ، ويناقضه وينقضه :
1) ــ العشوائية والفوضى والإرتجال و سوء التقدير
2) ــ المبالغة المفرطة في تقييم القدرات المختلفة ، وذلك بتضخيم الهين وتهوين العظيم.
3) ــ غياب وتغييب فقه السنن الكونية الجارية والخارقة.
4) ــ الفقر العلمي والمعرفي والثقافي وضعف الإلمام بالمعطيات والمستجدات.
5) ــ تشوش الأولويات وإضطراب ترتيبها.
6) ــ التحديد الخاطيء لخارطة الأعداء والخصوم ، وكذلك الأصدقاء .
7) ــ التخلف والقصور في توظيف الوسائل الحديثة وإستخدامها .
8) ــ الفهم الخاطيء والممارسة الخاطئة للإستعلاء والولاء والبراء.
9)ــ الإنكماش على الذات والشعور بالقداسة والطهر المطلق والنقاء التام، مع المثالية الجانحة.
10) ــ الأحكام المسبقة والصور النمطية
ـــ مستلزمات الفقه السليم للواقع:
ومما يساعد على الفقه السليم للواقع ، ويكسب الطريقة المثلى للتعامل معه:
1) ــ المتابعة المستمرة والمبصرة ، والإلمام بمكونات الواقع ومستجدّاته المتتالية.
2) ــ المرونة ،وذلك بإنسجام الأفكار والأقوال والأفعال والمواقف مع ماتقتضيه المرحلة ،من غير تجاوز للضوابط الشرعية ، ولامصادمة للحقائق الواقعية.
3) ــ سعة الأفق وبعد النظر، والتقدير الصائب للإحداث وتحليلها وتقييمها .
4) ــ التحلّي بالحكمة ، وهي كما عرفت:(فعل ماينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي).
5) ــ ألمعية الذهن وسرعة البديهة ، وذلك بالإبتعاد عن العقلية التي إشتكى منها الشاعر:
أقول له عمرا فيسمع خالدا ويقرؤها زيدا ويكتبها بكرا.
فاللبيب تكفيه الإشارة ، وتغنيه العبارة.
6) ــ الموازنة والقياس والتمحيص والتنقيح والغربلة والتصفية ، عملا بنصيحة شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله لتلميذه إبن القيم:(لاتجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها لاينضج إلا بها ،ولكن إجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ، ولاتستقر فيها ، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته ، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها ، صار مقرا للشبهات )(2).
7) ــ دراسة التجارب بأنواعها ، دراسة نقدية بناءة ،لتجنب العثرات ، وإستثمار الإيجابيات ، وقد صدق الرافعي رحمه الله لما قال:(إذا أردت أن تأخذ الصواب ، فخذه عمّن أخطأ)(3).
8) ــ معاشرة الآخرين على أحسن ما معهم،أشار إلى هذه القاعدة الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:(والبصير الصادق من يضرب في كل غنيمة بسهم ، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها )(4).
9) ــ التكيف الإيجابي وعدم التعامل بسياسات ردود الأفعال، وقد ذكر الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله أن :( الظروف تستطيع تكييفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا )(5).
مع ضرورة توفر المناعة العلمية والفكرية والتربوية.
ـــ إتجاهات خاطئــة في فقه الواقع:
وعند دراسة الواقع والتعامل معه ، لابد من الإبتعاد عن جملة من الإتجاهات الخاطئة في فقهه وفهمه وهي:
1) ــ الاتجاه الإطرائي: وهو محاولة تحسين الواقع ، وإبراز صورته سالمة من العيوب ، وغض الطرف عن سلبياته ..
2) ــ الاتجاه التشاؤمي:
33) ــ الاتجاه التآمري: الذي يرى أن من وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي خفية تحركه من وراء ستار.
4) ــ الاتجاه التنصلي: بحيث لايريد أن يتحمل مسؤولية مافي هذا الواقع من أحداث ، فكل فريق يريد أن يحمل غيره مايقع وإبعاد التبعة عن نفسه.
5) ــ الاتجاه التبريري: وذلك بأن يضفي على الواقع مايجعله مقبولا ومشروعا ، وإن إبتعد عن جادة الصواب.
6ـ الاتجاه الصدامي والتهديدي: الذي يتعامل مع الواقع بمنطق المواجهة والصدام وردود الأفعال، مع الإستجابة للإستفزاز، يتنادى للنزال ، متحفز له دوما ، شعاره: السيف أصدق أنباء من الكتب.
77) ــ الاتجاه المصلحي الإنتهازي: الذي يحدد مواقفه من الواقع وفق مصالحه الخاصة ، فكل ماوافقها نال الرضا منه والقبول ،وإن عارض المصلحة العامة، وكل ماتعارض معها نال الرفض وإن كان هو عين الصالح العام، إنتهازي في إستغلال كل مايخدم رغباته ويحققها ، شعاره :أنا وبعدي الطوفان.
8) ــ الاتجاه الانسحابي والإنعزالي: الذي يعجز في مواجهة الواقع ، ويتملص من المسؤولية ، ولايكلف نفسه تبعات ذلك ، يتبع أيسر الحلول وهو الإنسحاب والإنعزال كلية ، ويترك الجمل بما حمل، وكأن الواقع لايعنيه من قريب أو بعيد.
9) ــ الاتجاه الإستعلائي المتعصب: الذي يتعامل مع الواقع بنظرة إستعلائية متعصبة ، تضفي الصوابية المطلقة عن كل مايملك من أفكار وآراء ومواقف، مكتفيا بما عنده ، منغلقا ومنكمشا داخل أسواره الخاصة ، رافضا كل مايجود به الواقع ، محتقراله ومستهترا به ، مستصغرا كل الأحداث والحوادث مهما تعاظمت خطورتها.
10) ــ الاتجاه المثالي:
فلابد من التعامل مع الواقع بموضوعية وعدل وإنصاف ، فتكون مواقفنا ومعاملاتنا مع غيرنا وفق هذه الموضوعية وهذا الإنصاف، فلانغالي في التصلب فنكسر، ولانتمادى في التفريط والتسهيل فنعصر.
نريد من كل مامضى أن يتحرك الدعاة بدعوتهم ـ في طريق مليئة بالكسور ومتشعبة المسالك ، وحبلى بالعجائب والمفاجآت ـ وفق القاعدة التي أصلها المتنبي الشاعر بقوله:
عرفت الليالي قبل ماصنعت بنا فلما دهتني لم تزدني بها علما
وأن يتكيفوا مع الظروف تكيف التاجر الحاذق البصير ، الذي إن رأى كسادا في السوق حافظ على أقل تقدير على رأس ماله ..
فإذا أراد الدعاة أن يحموا دعوتهم ويعصموها من الإنسياق والإستدراج والإحتواء والإنحراف والإستنزاف والتعويم كتعويم العملات النقدية ، فليحرصوا على فقه واقعهم مع فقه شرع ربهم مع فقه إنزال الشرع على الواقع أو ماسماه الأصوليون بتحقيق المناط.
1) ــ فكرة كمنويلث إسلامي ، مالك بن نبي ص 72.
2) ــ مفتاح دار السعادة، إبن القيم ج 1 ص 257.
3) ــ وحي القلم ، الرافعي ج1 ص 279.
4) ــ مدارج السالكين ، إبن القيم ج2 ص 39.
5) ــ آثار إبن باديس ج5 ص9.