سلسلة المعرفة

د. محمد سعيد التركي

الحلقة الخامسة عشر

الشخصيات الجهادية

د. محمد سعيد التركي

[email protected]

الشخصيات الجهادية، من الشخصيات التي كان لزاماً نشوؤها من خلال الفكر المنحرف الذي أشيع في الأمة الإسلامية، الفكر الذي تسبب في إنحطاط وضع المسلمين، وتسبب في تدني علمهم بالإسلام، وغياب المطالبة بالإسلام كنظام يُحكمون به، فتسبب ذلك في تردّي أوضاعهم الإقتصادية وأحوالهم المعيشية، وهبوط مستوى الصحة وإنعدام الأمن الشخصي والنفسي والإجتماعي، وإختلاط أحوالهم الإجتماعية باطلها بصالحها، وشيوع أفكار الكفر الإجتماعية، وتراجع مستواهم الأخلاقي في المعاملات العامة والخاصة، وشيوع البطالة والعنوسة فالفساد، وسيادة الكفار وأفكارهم في كل جوانب الحياة، عدا ما تسبب ذلك في تعرض الشعوب الإسلامية من إحتلال لبلدانهم، ومن القتل، وهتك الأعراض، وتدمير البيوت، و التهجير من الديار .

حال الأمة الإسلامية، وأوضاع المسلمين هذه التي لم يُشهد لها في تاريخ الإسلام مثيل، أخرجت من رحمها شباباً قاموا يحاولون الذود عنها، مستخدمين كل ما يمكن إستخدامه من سلاح وأموال ووسائل، وأخذوا على عاتقهم الكفاح المسلح، بشتى طرقه وأساليبه، هؤلاء هم الشخصيات الجهادية .

الشخصيات الجهادية إذن هم شباب وجدوا أنفسهم وُلدوا وترعرعوا في الواقع الحالي المؤلم للأمة التي ينتمون إليها، وقد كانت هذه الشخصيات كغيرها من الشخصيات السائدة في المسلمين، المزدوجة منها أو المتديّنة أو حتى الضالة، إلا أن هذه الشخصيات الشابة تتميز في دواخل نفوسها بحس مرهف عميق، وتتميز بكثير من الغيرة، وبشيء من وضوح الرؤيا، وصدق العزيمة والإخلاص، وبسبب هذا الحس المرهف من جهة، ونظرتها الواضحة للواقع الأليم للأمة، بعد أن إفتضح حال الحكومات الموالية للعدو الكافر،، كل هذه وتلك دفع هؤلاء الشباب للبحث عن ذواتهم، ودفعهم لإمعان النظر في المعطيات، فعقيدتهم تأبى إلا الإسلام، وأمْر الله للمسلمين يأبى الإستسلام، وعدو الله بمشاركة الحكام يأبى إلا الإصرار على إهانة الإسلام والمسلمين في دينهم وأموالهم وديارهم وأعراضهم وأرواحهم .

لم يكن من الصعب أن يجد هؤلاء الشباب ضالتهم، فأحكام الله واضحة جلية، والكتاب والسنة بين أيديهم، والعدو بسلاحه ماثل أمامهم يُري المسلمين شتى أصناف العذاب، وبالتالي فالوصول إلى القرار المناسب سهل وبديهي، وهو حمل السلاح والكفاح المسلح .

هذه الحالة هي نقطة الإنطلاق لنشوء الشخصيات الجهادية التي أخذت على عاتقها الكفاح المسلح، فهذا القرار هو الذي غالباً ما تتوصل إليه النفس سريعاً، بحكم المشاعر الفياضة التي تتولد من المناظر الفظيعة التي تراها في كافة وسائل الإعلام، وقرار الكفاح المسلح هو القرار الذي أول ما يتبادر إلى الذهن فعله، ولذلك تجد الشباب الذين هم كنوز الطاقة والعنفوان والحيوية والحركة، هم أقدم (أكثر إقداماً) الناس على هذا القرار. فبعد أن تُغالب هذه النوعية من الشباب  نفسها طويلاً، لتجد لها مخرجاً من الشعور بالذنب في حق نفسها والإسلام والمسلمين، والتكاليف الملقاة عليها من الله ورسوله، لم يجد هؤلاء الشباب بدّاً من اتخاذ القرار والتوجه إلى ساحات القتال .

ولكن الشخصية الجهادية تصطدم هنا حين إنطلاقها بأسئلة كثيرة، لربما لا تعلمها ولا تشغل نفسها بطرحها ومراجعتها أو الإجابة عليها :

فأيُّ ساحات قتال يجب على أحدهم القتال فيها ؟ هل ساحات القتال هي حيث كان في مكان مولده، فيقوم يقاتل الحكام في الدولة التي ينتمي إليها، بحكم أنهم لا يحكمون بالإسلام؟ أم هو في فلسطين حيث اليهود؟ أم في العراق؟ أم في أفغانستان حيث الأمريكان؟ أم في الشيشان أم في كوسوفو؟ حيث الروس؟ أم في الصومال حيث أمريكا أو حلفاؤها؟

ومن هم الذين يجب محاربتهم؟ هل هم علماء السوء الذين يضلون الأمة بما يهواه الحاكم؟ أم هم جنود الشرطة؟ أم جنود المباحث والإستخبارات في نفس الدولة التي يعيش بها؟ أم جنود الجيوش النائمة؟ أم جنود العمليات الخاصة؟ أم جنود الحرس الوطني؟ أم كلهم على حد سواء؟ . أم أن الجهاد والقتال يجب أن يتوجه فقط للكفار؟ ولكن ضد أي كفار؟ هل ضد الكفار المقيمين من اليهود والنصارى المسالمين والمحاربين على حد السواء؟ أم الكفار الذين يحملون جنسية الكفار المعتدين في أي دولة كانوا؟ أم الكفار المقاتلين؟ أم كل كفار الدنيا حيث وُجدوا لا فرق بينهم؟

وتلي تلك الأسئلة أسئلة أخرى؟

فما هي الطريقة التي يجب أن يستخدمها لقتال العدو؟ هل يقاتلهم فرداً بعد الترصد بجهد شخصي لأي واحد منهم؟ أم يجب أن يقاتل العدو مع جماعة؟؟ وإن اختار الجماعة؟ فأي جماعة تلك التي يجب أن ينضم تحت لوائها؟ هل هي في الداخل؟ أم هي حيث ساحات الوغى فقط خارج بلاده؟ ، وإن كثرت تلك الجماعات، فتحت لواء أي واحدة منهم يجب أن يقاتل؟ هل تحت لواء من تأخذ دعمها من دولة روسيا، أم من أمريكا؟ أم من باكستان أم من إيران؟ أم من هذا أم من ذاك؟ أم تحت لواء الأحرار الذين يقاتلون بالعصا والحجر؟

ولو إفترضنا أن وَجد أحدهم الجماعة المناسبة بما يغلب عليه ظنه، فكيف له أن يعلم ما هي المقاييس التي يقيس عليها صلاح هذه الجماعة أو تلك؟ هل على مبدأ تلك الجماعة؟ أم على طريقتها؟ أم على الهدف الذي ترنو الوصول إليه؟ ، وإن كانت تلك الجماعة مثلاً تسعى إلى إعادة دولة الخلافة وإقامتها من جديد، بحكم أن ذلك بات هو المطلب الأعظم لدى المسلمين؟ فهل الكفاح المسلح هو الطريقة الصحيحة لإقامة دولة الخلافة؟ وإن كان كذلك، فهل تلك الجماعة تملك القوى العسكرية والشعبية، والكفاءات العلمية والسياسية، التي تؤهلها لإقامة وإدارة وقيادة دولة عظمى كدولة الخلافة، بعد إنتصارها على عدوها ؟ .

وهكذا فهناك آلاف الأسئلة، التي يجب أن تجد جواباً شافياً وافياً عليها، تتطلب من الشخصية الجهادية أن تجيب عليها، قبل أن تتخذ قرار الجهاد والكفاح المسلح .

والواقع فإن الشخصيات الجهادية التي نشأت، لا تملك من العلم شيئاً للإجابة على شيء من هذه الأسئلة، وكأنها تظن أن كل النجاح يكمن فقط في القتال ثم القتال ثم القتال، مما يوقعها في مآزق عملية لا طائل لها .

ويجب أن نشير إلى أهم ما في حديثنا هنا، أن الشخصيات الجهادية كان يجب أن تعلم أولاً ما هو الحكم الشرعي في مسائل الكفاح المسلح، في واقع لا يُحكم فيه بالإسلام، وأن تعلم كثيراً من فقه الواقع، وأن تعلم ماهية مطالبها "أي تعلم ما تريد"، وأن تعلم كيفية الوصول إلى تحقيق هذه المطالب من وجهة نظر الشرع، فإيمان هذه الشخصيات، وإخلاصها وصفاء نفسها، وطهارة قلبها وصدق سريرتها، وحبها لله ولرسوله، وشغفها بالموت في سبيل الله، لا يكفيها لأن تحقق الهدف الذي تنشأ أو تعيش أو  تعمل أو تموت من أجله، فالقتال شيء والعلم الشرعي شيء، وعلم السياسة شيء آخر تماماً .

وما يريده هؤلاء الشباب المجاهد كان يجب أن يعملوا له هم وآباؤهم وآباؤنا، قبل فوات الأوان وضياع الحكم بالإسلام، وقبل تعطيل الأحكام الإسلامية وعلى رأسها الجهاد، وكان يجب أن يعملوا له هم وآباؤهم وآباؤنا قبل ضياع بلاد المسلمين، ولا أن تعمل وتتحرك وتنشأ الشخصيات الجهادية فقط عندما تهتز مشاعرها برؤية المسلمات المغتصبات، والأطفال المقتولين والأهالي المشردين، إنما كان يجب أن تتحرك مشاعرها من قبل، غيرة على الإسلام، عندما أصبح نظام الإسلام يُهان بهجره وتركه وعدم الحكم به .

 قال الله تعالى في سورة الأحزاب 36

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا 

وقال سبحانه وتعالى في سورة يونس 7-8

إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ