مصطلح "المنطقة العربية"
مصطلح "المنطقة العربية"
1-2
نوال السباعي *
"المنطقة العربية" مصطلح أصرّ على استعماله بديلا عن مسمى "الأمة العربية" ، منذ سقوط بغداد مطلع القرن الواحد والعشرين على يد الغازي الأمريكي الطامع ، بالتعاون مع فئات لايستهان بها من الشعب العراقي الذي كان مسحوقا بين كماشتي استبداد السلطة وارتكاس الشعب! ، وكلاهما مرضان يستويان في القبح والتوحش ينتشران انتشار النار في هشيم مختلف مجتمعات بلدان هذه المنطقة الممتدة من البحرين على شواطيء "الخليج الاسلامي" شرقا وحتى طنجة على ضفاف الأطلسي غربا ، فما يصنعه المستبد بالشعب ، أي شعب ، من سلب للحريات ، وامتهان للكرامة ، وتدمير لإنسانية الإنسان ، يستوي بما يفعله الشعب بنفسه وبأفراده !، كارثة الاستبداد لاتصاب بها إلا الأمم التي ارتكست إلى الأرض ورضيت لنفسها الدنية ، وباتت حياتها سلسلة بشعة من الانبطاحات والهوان والذل والسكوت على الظالم ، سواء كان أبا ووالدا أو أخا كبيرا في الأسرة ، أو شيخا ومعلما في المسجد والكنيسة والمدرسة ، أو بائع خبز أو فول في الحارة ، أو شرطيا أو قاطع تذاكر في الحافلة ، أو مقدم برنامج في الاذاعة والتلفزة ، أو مسؤول "أمن" مخابراتي أو حكومي .
سلسلة الظلم لاتحكم خناقها حول الأعناق ، حتى تكتمل حلقاتها في دورة كاملة ، من أهم مراحلها وأكثرها لفتاً للنظر انحناء الأعناق صاغرة لتطوق بها !.
يعتبر الظلم والاستبداد اليوم صفتين لازمتين لدى الإشارة إلى "العرب" بشكل خاص في محافل السياسة والفكر والأدب والثقافة والبحث في العالم ، وإلى المسلمين بشكل عام ، لكن الربط بين العرب والاسلام منتسبين الى صفتي الاستبداد والظلم بهذه الطريقة حقيقة مشوهة دأب الغرب على التعامل معها وكأنها حقيقة ثابتة ، فلا العرب هم المسلمون ، ولايمثلون وحدهم الاسلام ولا المسلمين على سطح هذه الأرض، ولاهم وحدهم سكان هذه المنطقة من العالم ، وذلك على الرغم من أنهم بلغتهم القرآنية ، وانتمائهم الحضاري التاريخي العريق كانوا ومازالوا عنصرا إنسانيا هاما من مكونات "الأمة الإسلامية " ، تشترك معهم في ذلك وعلى قدم المساواة كل الشعوب التي تقطن المنطقة ، تتحدث العربية الفصحى ، وتتمسك بالأسس الأخلاقية الإنسانية لتلك الحضارة ، سواء كانت عربية أم غير عربية ، وسواء كانت مسلمة أم غير مسلمة.
لايشكل "العرب" في المنظومة الاسلامية العالمية أكثر من 10% من مجموع المسلمين في العالم ، حسب جميع الإحصائيات الرسمية والغير الرسمية ، العالمية منها والعربية ، مسلموا الهند فقط يفوق عددهم أعداد البشر الذين يقطنون "المنطقة العربية"، التي يسكنها العرب والأكراد والتركمان والشركس والأمازيغ ، وغيرهم كثير من الأقليات العرقية ، كما أن هؤلاء الأقوام المتواجدين في المنطقة العربية ، لايدينون جميعهم بالإسلام ، وإنما بالاسلام والنصرانية واليهودية وبعض الديانات القديمة التي مازال أهلها متمسكين بها في بعض بلاد الشام وفي جنوب السودان واليمن ومناطق أخرى ، فضلا عن الطوائف المتعددة المشتقة والمنشقة عن الرسالات الالهية الثلاث الرئيسية ، والتي من أهمها الشيعة والدروز والنصيريين والإباضيين ، وعشرات من الفرق الدينية المنتشرة في مختلف دول المنطقة .
ولقد عانى أتباع كل هذه الرسالات والأعراق والطوائف في زمن ما من تاريخ المنطقة من الاضطهاد والإقصاء والتغييب والتعذيب ، واختصر بعض غير المنصفين تاريخ هذه المنطقة من العالم إلى تاريخ حروب دينية طاحنة ، بل أبعد من ذلك لقد ارتكزت المخططات الغربية المعروفة لإقامة دولة "اسرائيل" اليهودية في فلسطين ، بشكل أساسي على هذه الفسيفساء الدينية والعرقية في منطقة "الشام" بالذات ، وهي التي تضم تاريخيا وجغرافيا سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ، والتي أصبح اسمها في قواميس اليوم السياسية والاستراتيجية "منطقة الشرق الأوسط" ، ثم ألحقت بها دوائر الدول الحدودية معها فأصبحت واسمها "الشرق الأوسط الكبير"!.
بعد سقوط بغداد الأخير ، أصيبت "الأمة" بزلزال عنيف ، زلزال في قناعاتها ، زلزال في رؤيتها لنفسها ، زلزال في تصورها لماضيها وحاضرها ، زلزال في وعيها لوجودها ، وإدراك أبعاد هويتها ، لقد كان الغزو الغربي للعراق بمثابة الصفعة الأخيرة التي تلقتها "الأمة" على وجهها لتستيقظ من سباتها ، ولكن في نفس الوقت ليقف الدور التهريجي الرنان الذي كان يقوم به بعض أصحاب السلطات السياسية والعسكرية "الثورية" عن طريق جيوش من مرتزقة السلطة من أصحاب الفكر والقلم ، ممن كانوا يتحدثون ليلا ونهارا من خلال إعلام موجه مدروس لترسيخ الفكر القومي ، لأمة عربية واحدة ، ذات رسالة خالدة ، خطاب دؤوب اختزل وجود المنطقة كلها في "الأمة القومية" ، التي بدا أن محورها الرئيس هو "القضية الفلسطينية" ، التي سُلخت مع الوقت عن "الأمة الاسلامية" ، وأصبحت أيام النكسة قضية خاصة بالعرب وحدهم لاعلاقة لايران ولاتركيا ولاأفغانستان ولاباكستان بها!!، وذلك قبل أن تنتقل في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية فتصبح جزءا من مسألة أسموها "الشرق الأوسط" ، ومن ثم لتدخل في أوسلو قوقعة "الفلسطنة "!، فتكون قضية خاصة بالفلسطينيين وحدهم ، بعد أن ترَسَخ تقطيع أوصال البلاد ، وحيل بين اتصال العباد فيها ببعضهم البعض ، ووقفت جيوش مسلحة باسم "القضية العربية الأولى" لتحرس الحدود أن تخرقها مجرد ذبابة تزعج بطنينها الكيان الاسرائيلي المغتصب ! ، وأخيرا وتتويجا لهذه السلسلة صارت قضية فلسطين حكرا على السلطة الوطنية الفلسطينية ، قبل أن تعود الى الحضن العربي والاسلامي إبان الانتفاضة الأخيرة ، لتدخل من جديد وعلى هامش هذا المخاض الشديد دوامة الصراع الفلسطيني "القومي – الاسلامي"، الذي يمثل وبصورة استثنائية وبامتياز حالة الصراع الأساسي في هذه المنطقة من العالم خلال القرن العشرين .
بينما كانت الحكومات الثورية التقدمية تقوم بذلك الدور مدّعية دفاعها عن "القضية" ، محاولة تعريب المنطقة عن طريق سحل وتمزيق وإبادة الأقليات العرقية ودمجها إرغاما في بوتقة "مجتمع عربي" ، يحاول أصحاب السلطة المهيمنة فيه اجتثاث الانتماء العرقي من قلوب الناس بقوة النار والحديد بعيدا عن مكونات الهوية الحقيقية التي تجمع كل شعوب المنطقة في بوتقتها ، كانت الطائفية تشق طريقها لتأخذ دورا بالغ الخطورة في بعض دول المنطقة ، حيث كان الترويج للفكرة القومية يقوم بدور خفي في التمكين لهذه الطائفة هنا ، ولتلك العقيدة هناك ، ويذبح طائفة هنا ويمكنها من مقاليد الحكم هناك ، سائرا بالمنطقة نحو هاوية حقيقية نعيش اليوم بعض ملابساتها فيم قبل السقوط الأخير .
في الآن ذاته كان جناح "الأمة " الآخر يدندن دون هوادة حول مسمى "الأمة الاسلامية " ، التي ذابت في بوتقة الحديث عنها قضية فلسطين ذاتها ، فأصبحت واحدة من سلسلة طويلة من القضايا الاسلامية التي مافتيء الإعلام الاسلامي يصر على "الندب" المتواصل عليها ، وليس إلا أن تسمع بعض خطب الجمعة من بعض أهم المنابر الإسلامية الرئيسية في المنطقة قبل خمسة عشر عاما ، حتى تتأكد من هذه الحقيقة ، لقد كانت قضايا شعوب اسلامية كأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة والهرسك وكوسوفا بالنسبة لهذه الدول تساوي القضية الفلسطينية ، بل تتفوق عليها في الأهمية ، ولقد كان بعض هؤلاء الأئمة يدعون لهذه الشعوب بالفرج والنصر والتمكين ، بينما لايرد اسم فلسطين إطلاقا في خطبهم ولا في دعائهم ، الأمر الذي اختلف جذريا بعد انتفاضة الأقصى الأخيرة ، وبعد سقوط برجي نييورك يوم الحادي عشر من سبتمبر ، حيث توقف الدعاء لهذه الشعوب الاسلامية المنكوبة ليحل مكانه الدعاء للمستضعفين في الأرض بشكل عام ، ولأهل فلسطين ، وأحيانا العراق بشكل خاص! .
لقد وصل هذا الصراع العقائدي بين الطرفين ذروته في زمن غابت فيه القيادات الشعبية عن الساحة تماما ، وباستثناء العلامة الدكتور القرضاوي فقد غابت كذلك القيادات الفكرية الدينية القادرة على صياغة نظريات جديدة للأمة في هذه المنطقة ، تخرج الناس من هذا التخبط والضياع ، الذي تجلى بانهيار القناعات القومية لدى شرائح واسعة من مؤيديها ، وانتهاز الأقليات الدينية والعرقية فرصة غزو العراق للاستعانة بالغازي الدخيل للخروج من النفق الذي وضعتها فيه الأنظمة الثورية القومية باستعمالها وسائل غير انسانية لفرض صيغة قومية في منطقة تسكنها عشرات القوميات ، في الوقت الذي فشل فيه الإسلاميون من جهتهم وفي منطقة "الشرق الأوسط" على وجه التحديد في تقديم أي بديل سياسي أو فكري ، أو أية حلول ناجعة للمشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تعاني منها هذه المنطقة ، وتجلى ذلك كله في صراع مرير على السلطة بين الجهتين ، صراع تمخض بعد نصف قرن من المذابح المتبادلة بين السلطة والمعارضة ، عن دخول المنطقة كلها في متاهة البحث عن الهوية ، بينما تدار هناك على الأرض المقدسة معركة حقيقية بين الاسلاميين والقوميين ، أدت بهما إلى تقسيم ماتبقى من فلسطين ، ليس بأيد إسرائيلية صهيونية ، ولا بمؤامرة غربية صليبية ، ولاشرقية شيوعية ، ولكن بأيد فلسطينية – فلسطينية ، في سياق البحث عن الذات .
حالة فلسطينية لم تكن ولن تكون قط خاصة بأهل الأرض المحتلة ، ولكنها حالة منطقة كاملة ، تمور بدياجير الأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب ، دون أن تتمكن من العثور على بصيص نور يمكنها من إعادة رسم معالم هويتها بعد قرن كامل من رحلة عسيرة شاقة للبحث عن مخرج- يتبع- .
مصطلح "المنطقة العربية"
2-2
" المنطقة العربية " هي هذه المنطقة الممتدة جغرافيا من البحرين والإمارات العربية المتحدة على شواطيء "الخليج الاسلامي" – لا العربي ولا الفارسي- شرقا ، حتى المملكة المغربية وموريتانيا على ضفاف المحيط الأطلسي غربا ، ومن سورية وتونس شمالا إلى السودان وجزر القمر جنوبا ، هذه المنطقة التي كانت ومازالت تحتل مكانا جغرافيا مرموقا بين القارات الثلاث من حيث المعابر المائية الرئيسية في الاتصالات البحرية ، والتي تشتمل على جزء من أكبر ثروات العالم المادية من البترول والغاز الطبيعي والكوادر البشرية الشبابية ، وقد كانت مهدا للرسالات الإلهية الثلاث الرئيسية في العالم ، والتي قلبُها الأرض المقدسة فلسطين وفيها القدس الشريف ، حيث هاجر موسى وولد عيسى وأسري بمحمد .
هذه المنطقة التي كانت وخلال ألف عام منطقة جغرافية متصلة ، تتبع سلطة سياسية واحدة ، وتنقسم إلى عدة مناطق جغرافية معروفة تاريخيا : أرض الحجاز ، العراق ، اليمن، بلاد الشام ، مصر ، وشمال إفريقية ، وبلاد المغرب ، مقاطعات ، جعلها الاستعمار دولا مستقلة ، بعد أن قام بتقسيمها بمسطرته وقلمه الأحمر-الأزرق السايكس بيكوتي ذاك!!، ومازال فعل التقسيم وإرادته سارية المفعول لم تتوقف منذ ستين عاما حتى الساعة ، بجهود دؤوبة لاقتطاع المزيد ، وتقسيم المزيد ، وتمزيق المزيد من هذه المنطقة ، بدءا بتبعيتها لهذا المستعمر أو ذاك ، وانتهاءا بالأعراق التي تنتمي إليها شعوب تلك المنطقة أو تلك ، الأكراد والتركمان في الشرق ، والأمازيغ وعرب الصحراء في الغرب ، أو بالطوائف والمذاهب والرسالات التي تتبعها المجموعات البشرية المقيمة حول الأرض المقدسة على وجه التخصيص ، إمعانا في منح "اسرائيل" ، شرعية وسط دويلات يراد لها أن تقام على أسس طائفية دينية صرفة، فدويلة يهودية لاتثير الكثير من التساؤلات وسط بحر هائج مائج من دويلات سنية وشيعية ونصيرية ودرزية وقبطية ، هذا إن لم نتحدث عن دويلات كردية وأمازيغية وتركمانية و..و..إلى آخر هذه السلسلة من الفسيفساء الدينية والعرقية التي كانت خلال ألف وأربعمائة عام مصدرا للتعددية والحوار والتعايش والتعاون والنمو وإثراء الحضارة الإنسانية في المنطقة ، وأصبحت الآن معول هدم وتمزيق وتفتيت وبلاء ودمار.
هذه المنطقة يجمع شعوبها من المحيط إلى الخليج على اختلاف أعراقهم ولغاتهم ولهجاتهم ورسالاتهم الالهية وطوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم ، يجمعهم أمران اثنان : ثقافة واحدة ، ولغة رسمية واحدة ، يلحق بهما عامل ثالث لعب دورا تاريخيا عجيبا ، قديما وحديثا في جمع شعوب المنطقة عليه ، ألا وهو وضع مدينة القدس الشريف ، والمقدسات الدينية فيها .
أما عن الثقافة السائدة في هذه المنطقة ، فلايمكننا بحال من الأحوال أن نسميها من الناحية العلمية " ثقافة عربية " ولا "ثقافة اسلامية" ، ولكنها ثقافة خاصة بهذه المنطقة من العالم تشكلت خلال مئات الأعوام من انصهار مختلف ثقافات الشعوب التي دخل معظم أفرادها في الاسلام ، وأهم العناصر الرئيسية في تكوين هذه الثقافة كان العنصر العثماني "التركي" ، والعنصر الكردي، والعنصر العربي.
وكما يعرفها "فتح الله كولون" في كتابه "حضارتنا ونحن نبني" ، فإن الثقافة أو "الخصوصية الثقافية" عند شعب من الشعوب هي (جميع الأحوال أو معظم السلوكيات الفردية والجماعية التي يعبر بها هذا الشعب عن : قيمه الأخلاقية ، وملاحظاته العقائدية ، وأفكاره عن الوجود والإنسان والمخلوقات . أو بمعنى آخر : إن الخصوصية الثقافية لشعب من الشعوب هي المجموع العام لنتاج الفكر والفن والعرف والعادة والتعامل المستحصل على مرّ التاريخ في إطار الالتزام بالحس القومي أو الملي - الديني -) ، إنها (مجموع نظم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أوجدها شعب أثناء تاريخه، وجعلها بعداً من أبعاد الوجود "القومي" أو "الملي" -الديني - ، فتحولت مع الثبات وعدم الرغبة أو القدرة على التطوير إلى مكتسبات في اللاشعور أو الضمير الجماعي لهذا الشعب ) .
ولو أننا استعرضنا أوضاع الناس في المنطقة العربية على مختلف مشاربهم وانتماآتهم العرقية والدينية ، ، لوجدناهم جميعا يفكرون بنفس النمط العام مع وجود الاختلافات الطبيعية من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ومن طبقة اقتصادية الى أخرى ، ويتصرفون بنفس الأبعاد الثقافية السلوكية المنتشرة من أبو ظبي والمنامة والدوحة ومكة المكرمة وسائر بلاد الشام ومصر وشمال افريقية وصولا إلى طنجة والدار البيضاء ومكناس ونواكشوط!! ، نفس النسق في التفكير والسلوك والتزام العادات والتقاليد العامة ، التي وعلى العكس من كل مايمكن للمراقب الدارس أن يتوقعه لاتمت الى الاسلام بصلة في غالبيتها العظمى !! ، إنها ثقافة منطقة عاشت تحت حكم العثمانيين ومن قبلهم المماليك ومن قبلهم الأكراد ومن قبلهم العرب في إطار الحضارة الاسلامية ألف قرن ومائتا عام ، قبل أن تنتقل إلى حكم الغازيين الأوربيين الذين كان تأثيرهم في طرق تفكير الناس وسلوكياتهم أكبر بكثير مما يمكننا أن نتصور أو نعترف !!.
لن أدخل هنا في الآثار السلبية والايجابية التي حملتها ثقافات هؤلاء الأقوام إلى اللحمة الإنسانية الموجودة في المنطقة العربية ، فصاغت منها جميعا الثقافة المعاصرة التي يُعرف بها سكان المنطقة ، لأن مدار الحديث مقتصر على العوامل التي تجمع وتميز سكان هذه المنطقة ، وليس دراسة العناصر المدمرة أو البناءة التي خلفتها هذه الثقافات مجتمعة على انسان ومجتمعات المنطقة. هذه الثقافات التي تمددت على حساب تراجع المدّ الحضاري الاسلامي في المنطقة بأبعاده الفكرية-الفلسفية و الأخلاقية-الإنسانية ، مع التقاعس المدمر الذي شهدته في مجالات التفكير والفلسفة والآداب والفنون ، والضمور المحزن المؤلم للعلوم الإنسانية وخاصة علوم النفس والمجتمع والتاريخ والترجمة والتربية، وقد لعب ثبات هذه الصيغة الثقافية المعاصرة وعدم وجود الرغبة أو القدرة على التغيير والتطوير والغربلة ، دورا خطيرا في اتجاهين متعاكسين ، أولهما ايجابي يظهر في توحيد نمط التفكير لدى كل الشعوب التي تقطن المنطقة العربية على اختلاف الدين والعرق والتوجه السياسي والانتماء الجغرافي المحلي، وثانيهما سلبي ويتمثل في ارتكاس متواصل للإنسان والمجتمعات -في ظل الاستبداد والظلم "الثقافيين" السائدين- نحو وضع غير إنساني وغير أخلاقي في هذه المنطقة ، وكلاهما يلعب اليوم دورا استثنائيا في تميز المنطقة عالميا حيث لصقت بها صفات التخلف والانحطاط تستوي في ذلك حكوماتها ومجتمعاتها وإنسانها.
العامل الثاني في الأهمية ، والذي يأتي في المرتبة الأولى من حيث تشكيل الصياغة الواحدة للمنطقة العربية ، إنما هو اللغة العربية الفصحى ، لغة القرآن الكريم ، والتي تتميز جميع دول المنطقة بالتزامها لغة رسمية فيها ، هذه اللغة التي عجز الغزو الأوربي وخلال المائة عام المنصرمة عن تفتيتها إلى "لهجات رسمية"، كان يرغب في جعلها لغات محلية تُكتب وتُقرأ ، ومازالت جامعات معروفة وعريقة في أوربا ، ومنها على سبيل المثال بعض جامعات مدريد ، تصر في مناهج كليات الاستشراق والدراسات الاسلامية فيها على ترسيخ هذه الفكرة في رؤوس الطلبة ، وحمل كثير منهم على إجراء الدراسات والبحوث اللازمة لنقل هذه الفكرة إلى حيز التطبيق الفعلي مااستطاع القوم إلى ذلك سبيلا .
لقد صمدت اللغة العربية الفصحى في وجه كل العواصف والأعاصير والزلازل بفعل الكتاب العظيم الوحيد والفريد من نوعه على مر العصور وكرّ أيام التاريخ ، وإذا كانت أمة كالإسبانية تستمد مصداقية وحدتها من كتاب "دون كيخوتة" الذي ألفه "ميغيل دي ثيربانتس" ، كتاب صمد خمسمئة عام حفظت به اسبانيا لغتها الواحدة ، أمام تحدي وتصدي مختلف اللغات الاسبانية المحلية كالكاتالانية والغاليثية والبالنثية والباسكية ، حيث تستخدم في تلك المقاطعات الاسبانية كلتا اللغتين في الكتابة والحديث ، ومازالت الحرب دائرة على أشدها بين تلك المقاطعات وبين الحكومات الاسبانية المركزية في محاولات دؤوبة للانفصال الثقافي واللغوي عن اسبانية الأم ، فكيف بالمنطقة العربية وجميع دولها تعتمد لغة "القرآن" لغة رسمية وحيدة في البلاد ، هذا الكتاب الذي حفظ اللغة العربية وحفظ معها لهذه المنطقة من العالم هويتها "العربية" .
وعلى الرغم من أن جناح الأمة الشرقي أصبح يتحدث الانكليزية انبطاحا ورضوخا بين يدي الغزاة والمهاجرين ، وجناحها الغربي مافتئ يتغنى ويفكر بالفرنسية تحت وطأة الاستعمار الذي لم يخرج قط من بلادنا إلا صوريا ، وعلى الرغم من الأمية ذات الثلاث شعب المستفحلة في طول المنطقة العربية وعرضها ، وغزو الفضائيات بحلوها ومرها هواءنا وفضاءنا وعقولنا، فإن أحدا ما لايستطيع أن يؤدي صلاة دون أن يقرأ الفاتحة بلغة عربية سليمة ، وإن العامل الأساسي الأول في حفاظ أية أسرة " عربية" مسلمة أو غير مسلمة على هويتها في الغرب إنما هو تعلم لغة القرآن ، إذ يتعلم أبناء المهاجرين من جميع الرسالات الملل والنحل والأعراق في الغرب ، اللغة العربية كشرط لازم للحفاظ على الهوية .
المنطقة العربية إذن هي هذه المنطقة من العالم التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج الاسلامي ومن البحر المتوسط إلى الصحراء الافريقية ، والتي تلتزم جميع دولها وشعوبها اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد كتابة وقراءة وتؤدى بها عبادات الأكثرية ، والتي تسود مجتمعاتها ثقافة خاصة تميزها عن غيرها من ثقافات العالم اليوم ، إنها هذه المنطقة التي يلعب فيها هذين العنصرين – الثقافي واللغوي- دورا تجميعيا هائلا ، لاضرورة فيه ولامعه لإنكار الأصول العرقية والانتماآت الدينية المختلفة لعشرات الجماعات والأقوام الذين يشكلون مجتمعين بهذين العنصرين سدة ولحمة العنصر الإنساني فيها .
هذا العنصر الذي يمكنه أن يعيش ويتعايش ضمن بوتقة مفهوم معاصر عن المنطقة العربية ، يبحث في أسس حضارية واحدة تضم الجميع ولغة واحدة يكتب بها ويقرأها الجميع – من غير الأميين الذين تتجاوز نسبتهم في المنطقة العربية ال70%- ، في إطار هوية معاصرة لايمكن معها إلا لإسرائيل وحدها أن تكون جسدا سياسيا واجتماعيا وثقافيا غريبا على المنطقة. – يتبع-
*كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا