يا منصف الشعراء والأدباء
شهادة لم تكن متوقعة
شهادة
رغم أنه صديقي إلا أنه مازال قادراً علي أن يدهشني بين آن وآخر.. قرب المسافات بين الناس يكسر حاجز الدهشة والإبهار.. لكن هذه القاعدة لا تنطبق علي صديقي الدكتور حلمي القاعود المبدع والناقد والاستاذ الجامعي.. يغيب ويحتجب ثم يفاجئني بما هو جديد ومثير.
وقد اعتاد د. القاعود ألا يساير الموجة.. فلا يهتف مع الهتافين.. ولا يصخب في صخب الصاخبين.. وإنما يفكر ويتأمل ويدرس ويقوم.. ثم يخرج بمفاجأة مدوية.. يقلب الموازين.. وينصف المظلومين.. ويجهر بكلمة الحق الثقيلة.. التي ربما تكون سبباً في الإضرار بصاحبها.. وتلحق الظلم به هو شخصياً.
ويعرف كثيرون أن د. القاعود ظلم كثيراً لأنه لم يقف في طابور الهتافين.. المتزاحمين علي المناصب.. المتفننين في التلون والتكيف من أجل الوصول إلي مواقع النفوذ والمال والجاه.. لكنه - فيما أظن - قد استراح إلي الطريق الذي ارتضاه لنفسه فأرضي ضميره.. وكسب أكثر بكثير مما خسر.. فكانت تجارته في المحصلة النهائية رابحة.
ولأنه مطمئن إلي هذه النتيجة فلا تكاد تلمس فيه اضطراباً.. أو اختلالاً في التوازن النفسي.. إنه الهادئ الوقور.. الذي لا يشي مظهره الطيب بما يصدر عنه من آراء وأفكار ومواقف تتسم بالتحدي والصلابة مثلما تتسم بالصدق والإخلاص.
وقد تطرقت مؤلفات الدكتور القاعود إلي العديد من المجالات.. فكتب في الإسلاميات 17 كتاباً.. وفي الدراسات النقدية والأدبية 18 كتاباً.. وكتب في الإعلام عن "الصحافة المهاجرة".. وله مجموعة قصصية بعنوان "رائحة الحبيب" ورواية بعنوان "الحب يأتي مصادفة".. وحصل علي جائزة المجمع اللغوي بالقاهرة عام 1968 وجائزة المجلس الأعلي للثقافة عام ..1974 وعمل استاذاً بكلية المعلمين بالرياض في السعودية لمدة خمس سنوات. من 1989 إلي 1994. ومع ذلك لم يزل يعيش في قرية "المجد" بمحافظة البحيرة.. نفس القرية التي ولد ونشأ بها.
حين قرأت في وقت مبكر كتابه "الورد والهالوك: شعراء السبعينيات في مصر" أدركت أنني أمام باحث جاد. قادر علي فرز الغث من السمين.. ولديه من الأدوات ومن الطاقات العلمية ما يعصمه من الزلل أو الشطط.. فهو قادر علي أن ينصف من لم تنصفه الأضواء والجوائز والمهرجانات.. وقادر ايضا وبنفس الدرجة علي أن يضع الآخرين في مكانهم الطبيعي.. وفي كل الأحوال يرتكز علي قواعد وحجج مقنعة.
إنه ذلك الفلاح الماهر الذي يستطيع أن يقتلع الهالوك من الحقل حتي لا يغطي علي الورد فيضعفه ويقضي عليه.
ويبدو أن هذا الكتاب الذي كشف براعته قد رسم له طريقاً أثيراً لديه.. لإنصاف من يستحقون الإنصاف من المبدعين الذين لا ينالون شيئاً من أضواء المهرجانات والجوائز في مناخ الشللية الثقافية التي يشكو منها الجميع.. لذلك جاء كتابه الأخير ليكمل المسيرة.. هذا الكتاب يحمل عنوان "شعراء وقضايا" وصادر عن دار العلم والإيمان بكفر الشيخ وليس من أية هيئة ثقافية رسمية.. وهو عبارة عن قراءة تكشف جوانب مهمة في الشعر العربي الحديث من خلال بعض شعرائه وقضاياه.
يقع الكتاب في 204 صفحات.. ويمارس فيه د. حلمي القاعود هوايته الأثيرة.. وهي محاولة إنصاف بعض الشعراء الذين ظلمهم الواقع الأدبي بالتجاهل والصمت.. أو التقليل من قيمة ما قدموه علي مستوي الفن والصياغة لأنهم لم يدخلوا في دائرة المرضي عنهم من القابضين علي زمام الحياة الأدبية والثقافية.
ولا يتحرج د. القاعود من أن يصدع بالحقيقة التي يؤمن بها.. وهي أن بعض هؤلاء الشعراء المظلومين يعد رائداً في مجاله.. عملاقاً في أدائه.. ولكن اختلال المعايير في الواقع الأدبي قلب الموازين.. وأعطي شهرة كبيرة لبعض من لا يستحقونها.. وحرم من يستحقون الإنصاف والعدل.
ولقد رأينا خلال الشهور القليلة الماضية أشهر نموذج لاختلال المعايير.. فالشاعر الذي لا يعرف عن الشعر شيئاً يحتفي به في مجلة حكومية يمولها دافع الضرائب.. لكي يصدم الناس بالغثاء الذي أراد فرضه فرضاً.. وعندما علت صيحات الاحتجاج ضده منح علي الفور جائزة الدولة حتي يبتلع الناس ألسنتهم.
وبناء علي قاعدة "وبضدها تتميز الأشياء" يضم كتاب د. حلمي القاعود "شعراء وقضايا" نماذج مناقضة لهذا اللون الفاسد والمتسلق.. نماذج لشعراء لهم قضايا من بلدان عربية شتي.. تبدأ من العراق إلي الخليج وتنتهي عند المغرب علي المحيط.. فيري القارئ روحاً عربية واحدة تكاد تسري بينهم جميعاً.. تحمل هما مشتركاً.. وعاطفة مبثوثة في وجدان العرب كلهم.
في هذا الإطار يمكن أن تري نازك الملائكة إلي جانب عبده بدوي وحسن عبدالله القرشي ومحجوب موسي وخليفة الوقيان.. كما تجد عصام الغزالي إلي جانب محمد الرباوي وعبدالمنعم عواد يوسف وأحمد بهكلي ونشأت المصري وناجي عبداللطيف وعبدالله شرف.. وغيرهم.
لقد أدهشني د. القاعود فعلاً ب "شعراء وقضايا" مثلما أدهشني من قبل ب "الورد والهالوك" وأخذني معه في طريق الإنصاف لمن لم تنصفه الحياة الأدبية.. وقد وجدت أن أول من يجب علينا إنصافه هو د. حلمي القاعود نفسه.
ليتني أكون قد بدأت أول سطر في كتاب إنصافه.