صرح إسلامي يَشبُّ عن الطوق

صرح إسلامي يَشبُّ عن الطوق

جمال المعاند* -إسبانيا

[email protected]

- قليل من الأمال تتخطى حواجز الواقع وتضرب بجذورها فيه وتؤتي أُ كلها، على الأخص إذا كان الحلم مشروعاً دعوياً ، فالأمة الإسلامية تعيش مرحلة الاستضعاف، والأمال تختلط فيها الضرورة مع الحاجة ومع التكميل أو التحسين . لكن دعاة الإسلام المنطلقين من نظرة ثابتة في صلاحية الشرع الحنيف لكل زمان ومكان، لا تفل عزائمهم الإحباطات ولا تثني إرادتهم الإخفاقات ، لأنهم عادةً ما تفرض عليهم مرحلة الاستضعاف قلة في الامكانات أو عدمها منذ البداية .

وما يخط عن التجارب الدعوية المعاصرة في الغالب يصب في مجال النقد ، بحجة تلافي الأخطاء وهو ملحظ وجيه ، وفي المقابل مـن بذلوا جهداً استثنائياً  ، أليس من المنطق رفع معنوياتهم وتشجيعهم ؟.  بتقديم تجربتهم كأنموذج خبرة لأخوانهم ممن يحاولون ويعانون من صعوبة البدايات ، هذا هو الدافع الحقيقي للكتابة عن تجربة سجلت على أرض عرفت تاريخياً بأرض شقاقٍ أزال شأفة الإسلام ، وُقدمت من بعد تجارب تتسم بالبدائية أو على الأقل بالارتجالية ، فالظـن أن من حق تجربة نحت نحو العمل المبرمج والواعي  رغم الثغرات التي تسببت بها المصاعب الجمة ، تستحق أن تذكر ، إنه الحديث عن مركز أوربي قام على ساق الوسطية الإسلامية  وشبَّ على الاعتدال .

فمركز بلنسية الثقافي لم يكن أول مركز إسلامي على أرض المملكة الإسبانية ، وإنما هوالأول في تخطي النمطية ،  فبعد أن تنبه المسلمون المقيمون على أرض إسبانية لحاجاتهم الدعوية نشأت المصليات لأداء الفرائض والقيام ببعض الخدمات ، وكان المفقود مركزاً إسلامياً ذا سمة أوربية يحمل همّ الدعوة ، فبرز المركز الثقافي في بلنسية كمؤسسة دعوية ضمن أطر تنظيمية تنحى نحو العمل المؤسسي ، وفي عجالة أملاها الاحتفال ، بمناسبة مرور خمسة عشر عاماً على تأسيسه ، يمكن القول

أن مركز بلنسية الثقافي أسس من أول يوم على أسس دعوية مزجت بين الخدمي المطلوب أوربياً

وبين الدعوي الذي يحرص على تقعيد العمل وفق قواعد منهجية،  فكان نسيجاً وحده في مقدمة المراكز الإسلامية في إسبانية، مركزاً للمسلمين جميعاً ، ومساهماً فاعلاً في مجتمعه الإسباني كما سيرد لاحقاً .

ومن باب الإقرار بالفضل لأهله ، ذلك الجهد قام أكتاف ثلة من الدعاة حطوا رحالهم في مقاطعة بلنسية، ولأن تربيتهم مسجدية بالدرجة الأولى وليست حزبية ارتبطوا بالمركز ارتباط العلة بالمعلول، هذه الرابطة المسجدية فقدتها مراكز أخرى تضخم العمل السياسي عندهم على حساب التعبدي ، ومتى ما ضعف الوازع الديني تشرأب أعناق المصالح الذاتية ، فتعاد مأساة الأندلس القديمة وللأسف الحديثة ، فكان جيل الرواد منهم نواة تستقطب كل كفاءة إسلامية ، هذا ما فرضه عليهم وعيهم وذوقهم الإسلامي عمـلاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " " أنزلوا الناس منازلهم "" ، وانتظم بعقدهم من المسلمين الإسبان والعرب ، ما أهلهم ليكونوا مصدر جذب لكل مسلم يمتلك كفاءةً وحماساً ، حتى صار المركز قطب الرحى .

أما تعاملهم مع المسلمين على تباين مشاربهم واختلاف أقطارهم ، فقد نأوا بأنفسهم عن النظرات المناطقية والحزبية ، فمثلاً الآن تدير المركز أخت فاضلة إسبانية يشهد كل من عرفها بصفاتها الميكارزمية القيادية، أماالإدارة فهي فضلاً عن كونها متغيرة وليست وجوهاً كقطع الشطرنج لا تتبدل وإنما يتغير موقعها، هي مكونة من فسيفساء العالم الإسلامي ودماء شابة وجوه جديدة ،

وفي يوم السبـت الموافق لـ 30/05/2009 احتفل بمناهزة المركزالثقافي للحلم ، وأكرمته حكومة بلنسيـة بكبار رجالاتها لحضورالحفل ، ويغص بهم المكان ، ويتسابقون لترجمة مشاعرهم .

وبنظرة خاطفة في أروقة المركز الجديد ينبي الترتيب عن ذوقٍ عالي ، في تقسيم المكاتب واختيار الألوان ، أما مهام تلك المكاتب فتشي بفكر مستنير ، وعلى الرغم من ضحالة الامكانات المادية وأن جل العاملين من المتطوعين ، إلا أن التخطيط راعى كل الاحتياجات ، فالمسجد تبوأ مكاناً يليق به ، بل حتى ديكوره أو زخرفته جمعت بين الأصالة والمعاصرة، وعلى كتف المسجد ، مكتبة عامة ضمت أمهات الكتب وما يستجد من الفكر، وجهزت لاستقبال كل من يريد الاستزداة من العلم ، ومكتبة المركز شكلت علامة فارقة ، فبينما تعاني مراكز أخرى من شحٍ في الكتب إلا المصاحف وبعض الكتيبات ، ومراكز غلقت الأبواب في مكتباتها أمام من يريد الاستزادة من العلم ، نجد القائمين على مركز بلنسية الثقافي يقدمون كل تسهيل، فالمكتبة تضم قاعة مكيفة فيها مناضد وكراسي وحاسوب وآلة تصوير... ، وفي خلف المسجد قاعة المركز للمحاضرات وهي متواضعة المسـاحة  ولا تتسع لأكثر من مائة من الحضور، لكنها أكثر قاعة إسلامية على أرض إسبانية تشهد محاضرات وندوات . ومكاتب المركز عملها خدمي بالدرجة الأولى، ومما انفرد به المركز محاولة مساعدة العاطلين عن العمل بتوفير الدربة اللازمة ، والبحث بالتعاون مع الجهات المختصة عن فرص عمل لهم .

أما العمل المؤسسي الإسلامي لا أخال مكابراً يستطيع أن ينكر تحويل المركز للعمل الإسلامي من عمل عفوي وارتجالي إلى نوع من التنظيم ، فثمة قسم للشباب يمتص طاقاتهم ويوجها نحو الخير في محاضرات وندوات ورحلات ومهرجانات ، أما قسم المرأة المسلمة فهو من غير أدنى شك قطع مراحل تعجز عنها تنظيمات ، والأخوات حولنَّ المركز لخلية نحل وانداح جهدهنّ إلى الزهراوات من البنات الصغيرات ، في تناغم بين المعرفة والترفيه،  وتحولت عطلة نهاية الإسبوع لعيد في المركز عند الصغار.

وعلى المستوى الدعوي العام فأبواب المركز مشرعة لكل داعية وسطي ومتزن بلا ضوابط حزبية ضيقة أو مناطقية أو فكرية ، المهم طرح شرعي وفكري لا يتعارض وثوابت الإسلام .

وفي منحى الاندماج وهو منهج للمؤسسين للمركز قبل أن يطرح مصطلحاً دعوياً ويتبوأ موقع الهدف على الساحة الإسبانية على الأقل ، فثمة وشائج واضحة وصريحة مع حكومات مقاطعة بلنسية المتعاقبة والزيارات المتبادلة بين المسؤولين الإسبان وأعضاء المركز مستمرة ، ومما يسجل للمركز العلاقة الحميمة مع هيئات المجتمع المدني الإسباني فهم – أي أعضاء هيئات المجتمع المدني الإسباني - إما مشاركين أو من الحضور لأغلب الأنشطة، ويتردد على ألسنة المسؤولين الإسبان الثناء على جهد تميز به المركز على مستوى إسبانية مفاده :

أن المركز قام في أخطر أحياء بلنسية ، منطقة فقيرة ومأوى للعصابات ، كانت تسبب لشرطة بلنسية الصداع المزمن ، وبفضل الله ما أن انقضت على وجود المركز بين ظهرانهيم سنـوات لا تتجاوز أصابع اليد ، إلا ويشهد  الإسبان باسقرار التوتر في المنطقة وإلى حدٍ كبير، وليتساوى حي بارونة مع أشقائه من الأحياء الأخرى وليعود إليه هدوء الحي الإسباني المتفاني أهله في العمل والجد .

ولا يخلوا جهد بشري من نقد ، إلا أن المركز الثقافي في بلنسية لا يزال يحث الخطى نحو العمل المؤسسي ، وتستضيف مكتبته دروات في التطوير الذاتي لأصحاب الخبرة والتخصص ، كما  أن عمليات التشاور دخلت لمرحلة اليوم المفتوح للتفكير يدعى إليه المفكرون والدعاة وبعض من دكاترة الجامعات .

وإن كنا نسجل نحن أعضاء الجمعية العمومية هذه الانجازات ، فإننا لا نزال نرنوا للأفق ، فكثير من مشاريع تجديد الخطاب الدعوي مطروحة على طاولة النقاش ، وكثيرة هي آليات العمل  المقترحة لاستيعاب شرائح متعددة ، وربما في احتفالية أخرى تدون انجازات جديدة .

              

*جمال المعاند المستشار الثقافي والسياسي للمركز الثقافي الإسلامي في بلنسية