تلخيص برنامج الحياة كلمة للشيخ سلمان العودة

يوم الجمعة الماضية

الشيخ سلمان العودة

اعتبر فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم أن  أكثر ما يؤدي إلى الغلو والتطرف في الفكر هو الانغلاق والعزلة، مطالبا بضرورة "انفتاح" الجماعات على المجتمع والمجتمع على الجماعات، مؤكداً أنه كلما أمكن أن يتحول مجتمعنا العربي إلى مجتمع واضح مكشوف وشفاف يسمح بوجود هذه الظواهر ويعالجها كان هذا خير وأفضل وأن الإفراط في محاربتها يجعلها تنعزل مما يشكل خطراً وتهديداً للمجتمع.

وقال الشيخ سلمان العودة في حلقة أمس الجمعة من برنامج الحياة كلمة على فضائية mbc   والتي خصصت للحديث عن "التدين والمجتمع" : أعتقد أنه من المهم جداً أن يكون هناك انفتاح وأنا أؤكد على كلمة "الانفتاح"، انفتاح الجماعات على المجتمع وانفتاح المجتمع على الجماعات بمعنى : أن أكثر ما يؤدي إلى الغلو والتطرف في الفكر هو الانغلاق والعزلة إذا تكونت جماعة بعيداً وتتناجى بعيداً عن الناس وعن المجتمع وتشكل نفسها دون أن يكون الناس مشاهدين لها، فهنا ممكن تصل إلى شأوٍ بعيد في الانحراف دون أن تعالج، لكن إذا كانت متصلة بالناس متواصلة معهم تحت سمعهم وبصرهم سواءً الحاكم أو العالم أو الأب هنا يصبح التعديل ممكناً ويصبح الانحراف قليلاً ومحدوداً.

وحذر فضيلته من الإفراط في مطاردة هذه الجماعات لأن ذلك سيجعلها تبتعد وتمارس نشاطاتها في الخفاء مما يشكل خطراً وتهديداً، وقال: إن الإفراط  في المحاربة أو في المطاردة تجعل فئات من الناس تجلس في زاوية وتشكّل نفسها تشكيلاً خطيراً، وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- يقول : " إن العلم لا يهلك حتى يكون سراً " ، كلما أمكن أن يتحول مجتمعنا العربي إلى مجتمع واضح مكشوف شفاف يسمح بوجود بعض الظواهر ويعالجها كان هذا خير وأفضل.

التدين والسياسة

كما اعتبر الدكتور سلمان العودة السياسة جزءًا من الحياة وقال:  أنا أعتبر أن السياسة جزء من الحياة، ويجب أن نفهم بهذا المعنى، خاصَّةً في هذا العصر، وليست السياسة هي فقط التعاطي بالشأن السياسي تحليلًا أو ممارسةً فحسب، فالإعلامي يمارس قَدْرًا من السياسة، والفقيه يُمَارِسُ قَدْرًا من السياسة، والتاجر يُمَارِسُ قَدْرًا من السياسة، والأب والمعلم، وكل أحد في هذا المجتمع بقدر ما يكون له فاعلية، فهو مؤثر في الجانب السياسي، والتدين يحفز للحياة وللسياسة.

وذكر فضيلته كلمة لأحد المفكرين يقول: إن عزل الدين عن السياسة هو علمانية جزئية، وعزل الدين عن الحياة هو علمانية كلية.. مُنَوِّهًا أن هذا معنى جميل، ومعنى  صادق، فالتدين جاء ليحفزنا للعمل، وليرسم أيضًا النُّظُمَ لشئون الحياة كلها ، إذن فالتدين لا يعني العزلة عن الحياة، والإنسان المتدين من حقه الاستمتاع بالحقوق التي يحصل عليها الآخرون، ولهذا ليس صوابًا أن نقول: يمكن أن يمارس كُلُّ إنسان السياسة، لكنّ المتدين عليه أن ينأى عنها.. فالمشاركة في السياسة ليست إقصاءً للآخرين، وليست تعني أن رأيي كمتدين يجب أن يكون نهايةَ الآراء، وقاضيًا على الآراء الأخرى، وإنما ما أُعَبِّرُ عنه ليس هو يقينا التدين، وإنما أعبر عن رأيي.

الجماعات والتدين

وفي رد فضيلته على علاقة الجماعات الإسلامية بالتدين، رغم أنها بالأساس لها برامج سياسية، قال: إن في الغرب وكثير من دول العالم هناك إمكانياتٌ وحقوق، وحتى تشكيل أحزاب سياسية تحت أي مظلة وَفْقَ القانون، يُعْتَبَرُ أمرًا متاحًا لكل أحد.. أما في عالمنا العربي فهناك حكومات وشعوب وجماعات تُعَبِّرُ عن نفسها بأنها إسلامية، وأخرى وطنية، وأخرى ليبرالية.. وهذه المكونات واقع لا سبيل لتجاهله، ومن الحكمة ألا تكون هذه المجموعات عبارةً عن جزر معزولة، أو مجموعات مستقطبة، بحيث تحذر كل فئة الفئة الأخرى، أو تجعل وجودهًا رهنا لإفناء الأخرى أو الحرب معها!

ثم طرح فضيلته مثالًا بما يحدث في السعودية والعالم العربي، وقال: أسأل نفسي أحيانا: كم عدد المتدينين أصحاب الخطاب الشرعي الذين يحملون النهضة، ويحملون هَمَّ البناء، وهَمَّ المشروع الحضاري، والرُّقِيّ بالأمة؛ لتكون في مصافِّ الأمم الأخرى؟؟ فأجد أن العدد قليل جِدًّا.. وأرى أننا غالبا ما نكون منهمكين في دائرة صراعات بَيْنِيَّة قد يكون لها ما يفسرها، لكنّ هذا شغلنا عن جوانب البناء الإيجابي الذي يجعل دائرة الصراع تأخذ حَيِّزَهَا الطبيعي، بدل ما تتسيد الموقف، وكل فئة تُغِير على الأخرى، وأي طرف يستطيع أن يستغل هذا الخلاف، فيُحَرِّض هذه الطائفة على الأخرى، ويعمل في الناس دائما سياسة :فَرِّقْ تَسُدْ.

الحياة ليست كلها معركة!

وأكد فضيلته أن التدين ينبغي أن يكون واسعًا.. وذكر قولا للشيخ عبد البديع صقر، بأنه كان ذات مرة في مجموعة، وجاء وقت الصلاة.. وكان هناك فقيه وعالم، ولما أرادوا أن يقدموا الإمام بدءوا يسألون: من سُجِنَ أكثر ليؤمهم؟!! هذا ما نسميه "التدين النضالي"!! ونحن نحتاج لجرعةٍ قَوِيَّةٍ من التدين حينما نكون أمام عدو، كما يحدث في فلسطين؛ لأن التدين هنا يُرَبِّي النفوس على التضحية، لكن الحياة ليست كلها معركةً، وعسكرة الحياة تكون خطأ، فالحياة فيها حالات كثيرة جدا، وقدر من البناء والإنجاز في الإعلام، والتعليم، والسياسة، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، أو المعرفة، وكل هذه الأمور لا تحتاج لهذه الروح، بل تحتاج لروحٍ ذاتِ هدوء واستقرار.. وينبغي أن نفهم أن هناك أنماطًا مختلفة من الناس، واهتمامات متنوعة، وأنه لا يمكن أن نجعل المتدينين كأنهم صورة طبق الأصل، أو نمط واحد.. فهناك تفاوت، بحيث يهتم أحدهم بجانب سياسي، وآخر بجانب اجتماعي، إلخ.. دون أن يكون هذا مدعاةً لأن يُحَارِبَ كل فريق الآخر، في محاولة منه؛ لأن يضمه إليه، ويجب أن نعلم أنه لا حل إلا بالتنوع.

السلام الحقيقي

وذكر فضيلته كلمة قالها عبدالله بن المبارك رضي الله عنه: إنه لَيُعْجِبُني من القراء (المقصود بالقُرَّاء هنا من نعبر عنهم بالمتدينين أو الملتزمين أو الدعاة أو الفقهاء) كل طَلْقٍ مِضْحَاكٍ، أما من تلقاه بالبِشْرِ ويلقاك بالعبوس، وكأنه يَمُنُّ عليك بعمله، فلا كَثَّرَ الله في المؤمنين من أمثاله!

وعلق الشيخ سلمان قائلاً:  لاحظ التعبير في أنه حتى في ذلك الإنسان الذي تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس عبّر بأنه يمنّ عليك بعمله ، وإلا يُفترض أن يتواضع لعباد الله ويحنو عليهم ، ثم أيضاً في مثل فإن ابن المبارك لم يدع عليه وإنما قال: لا كثّر الله في المسلمين من أمثاله ، وهذه من النصيحة للمسلمين ألا يكثر أمثال هذا الصنف المنحرف.

وتابع الشيخ العودة : إن الغلو في التدين أحياناً والإفراط فيه من الأشياء التي تؤثر في مفهوم السلام الحقيقي للتدين .

وأردف فضيلته: إن أحد هؤلاء كان زعيماً لجماعة متطرفة غالية وصل به الحال إلى أنه ارتدّ عن الإسلام واعتنق النصرانية والعياذ بالله، وفي أحد المواقع الإلكترونية كان يتكلم ويقول: " إن الإسلام دين ليس فيه روحانية " ، فكنت أقول ليس الإسلام هو الدين الذي ليس فيه روحانية ، الإسلام دين ممتلئ بالروحانية والإيمانيات والمعاني والذكر والعبادات والإشراق الروحي ولكن عدم الروحانية هي في النمط الذي اختار هو وشدد فيه على نفسه وحاول أن يقهر الناس عليه ، ذلك التشدد هو الذي أفرز نقص الجانب الروحاني عنده هو في تدينه هو وليس في الإسلام .

التدين ليس عزلة

وأكد الشيخ سلمان العودة على أن التدين ليس عُزْلَةً عن الحياة .. وأنه يجب أن يفهم هذا بأن وجود التدين لا يعني أن يعزل المتدين نفسه عن الحياة، بل يحفز الدينُ الإنسانَ إلى العمل بالمسارعة، امتثالًا لقوله تعالى: "وسارعوا"، " ويقول: "وسابقوا"، ويقول: "والسابقون السابقون". وأوضح فضيلته أن المسارعة هنا في مجالات الحياة المختلفة مَطْلَبٌ.. وهناك خطوط سريعة في التدين ليس عليها إشارات أو مطبات أو كاميرات مراقبة، فبقدر سرعة سائقك وفكرك، سارع في ميادين الحياة المختلفة، والطريق الذي تسلكه أنت ليس نقيض الطريق الآخر.. بمعنى أن ما تعمله ليس يجب أن يكون هَدْمًا لما يعمله الآخرون.

وضرب فضيلته مثلا بالجنة وقال: إن الله عز وجل ذكر أن بها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر... مشيرًا إلى أن في الجنة نعيمك الذي تأخذه أنت، ولن يضر الآخرين.

ثم ذكر أنه كان ذات مرةٍ يحدث أطفاله عن الجنة، وقال أحدهم: هل الجنة فيها رسوم؟ لأنه رسام! قلت: نعم.. وقال آخر: هل الجنة فيها طائرات؟ قلت: نعم.. بما أن هناك كواكب ونجوم، وقال ثالث: هل أستطيع في الجنة أنْ أسقط طائرة الآخر؟ قلت: لا.

وفسر فضيلته هذه القصة بأننا دائما ما نفكر في النقيض، كيف نستطيع أن نُعَوِّقَ جهود الآخرين، أو نعتبر أن نجاحنا يكمن في إخفاق الآخرين!

حافز التدين

في بداية الحلقة لخص فضيلته ما ذكره في  الحلقتين السابقتين حول معاني التدين ومفهوم الدين الحقيقي، وقال إنّ أهم فكرة قلناها في الحلقة الأولى هي أن الدين يجب النظر إليه كحافز وليس كرادع، فكثير من المتدينين وكذلك من الملحدين يَظُنُّون أن الدين يتجلى في الردع والمنع والتحريم.. ونحن نؤكد أنّ قِيَمَ الدين وأخلاقياتِه، ووَحْيَ الله سبحانه وتعالى، وكلام رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، يؤكد أن الدين حافز قبل أن يكون رادعًا، وأن منطقة الحافز والفعل والإذن والإباحة منطقةٌ ضَخْمَةٌ جدا، وهائلة جدا، وأن منطقة المنع منقطة معزولةٌ تمامًا.

وضرب فضيلته مثلا بآدم عليه السلام، وكيف كان يأكل من الجنة كُلِّهَا، ويُمْنَعُ فقط من شجرة واحدة، مُنَوِّهًا إلى أننا حينما ننظر مثلا إلى التفكير نجد أن الدين يمنعنا من التفكير فيما لا ينفع؛ من القضايا الغيبية التي لا سبيل لاهتداء العقل إليها بل هي مضلة أفهام، ومَزَلَّة أقدام، ولكن يحفزنا على أن نبدع، وأن نفكر، وأن نحلل، وأن نستكشف، ويأمرنا بذلك كجزءٍ من الدين. واستشهد فضيلته بقوله تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)..مشيرًا إلى أن هذا فيما يتعلق بالعمل والنجاح فيه، سواء كان عملًا دنيويًّا، أو أُخْرَوِيًّا أو مَيْدَانِيًّا أو أخلاقيًّا أو اجتماعيًّا أو تنمويًّا أو سياسيًّا، فالدين في كل هذا حافز.

فتح الذرائع قبل سدها

وأكد فضيلته أن الدين جاء لفتح الذرائع قبل أن يأتي لغلقها، مشيرًا إلى أنه حينما يتكلم الفقهاء عن سَدِّ الذرائع فإنما يتكلمون في جانب معزول، وفي قضية محددة ومعروفة، وكلامهم فيها له تفصيل، وفيه وَجْهٌ من الصواب في حالات معينة، لكن يجب أن نتكلم عن الذرائع التي يفتحها التدين أمامنا.

وأضاف: إن مجرد الإيمان في القلب يكون معناه أن عَدَّاد الحسنات ماض للإنسان؛ لأن الإيمان هو أعظم الأعمال، وهو الذي يُبْنَى عليه صوابية الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان، مُشَدِّدًا على أن الدين جاء ليقاوم الخطيئة ويَنْهَى عنها، مُؤَكِّدًا على أهمية قراءة حكمة الرب عز وجل في خَلْقِ الخطيئة والمعصية، وأن هذا لا سبيل إلى زواله، بل هو في ازديادٍ، وهذا الازدياد يجعل المتديِّنَ أكثَرَ هُدُوءًا في التعامل مع الخطأ، ومع الناس الذين يعتبرهم أقل منه تدينًا، فلا يغلظ ولا يقسو ولا يَشْتَدُّ، وإنما يتعامل بالحكمة..مُنَوِّهًا إلى أن هذا الهدوء يُفْرِزُ أيضا المحافظة على الأخلاق، والبُعْدَ عن الكبر أو الغرور الذي قد يخلقه التدين في نفوس بعض المتدينين الذين ليس لديهم معرفة .

الدين يقوي الصلة بين الناس

وأشار الشيخ سلمان العودة إلى أنه من المعروف عن الأخلاق أنها واحدِةٌ من ثوابت الإيمان، وهي في الواقع العلاقة بين الناس، والتَّدَيُّن يُعَمِّقُ جوانب الأخلاق، والدين يُرَسِّخُ الوحدة الاجتماعية  بين الناس، ويُقَوِّي أواصرنا، فكم من النصوص في حفظ حقوق الجيران، وصلة الأرحام، بل لَعَنَ الله الذين يُقَطِّعُون أرحامهم، فقال الله سبحانه تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).

وتساءل: كم جاء من النصوص في قضية الجوار، وقضية الشركاء، والخلطاء، والناس أجمعين؟ وكم من النصوص في حفظ العلاقة الإنسانية بين البشر جميعًا؟! وما في ذلك من التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتعاون على البر والتقوى؛ والبر والإقساط مع غير المؤمنين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).

وفسر فضيلته ذلك بقوله: إن الدين جاء لِيُعَمِّقَ ويُؤَكِّدَ ما أمر الله به أن يُوصَلَ، وحتى القيم والمعاني التي جاءت في الإسلام، إنما جاءت لِتُعَمِّقَ هذا المعنى، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصيحة هنا تنطلق من الحب، ومن تنمية الأواصر بين الناس، وأنها علاقة رشيدة، وليست علاقَةَ تناصُرٍ بالباطل..

 وضرب فضيلته مثلًا بحديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "انصر أخاك ظالِمًا أو مظلوما"، فقلنا: يا رسول.. أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالِمًا؟ قال: " تمنعه عَنِ الظُّلْمِ؛ فإن ذلك نَصْرُ".

 مُؤَكِّدًا أن المجتمع بهذا الأمر يكون مُتَعَاوِنًا على النصرة في الحق، ومن النصرة للحق هداية الناس للطريق المستقيم، فليست المسألة مسالة استقطاب، بحيث إنّ ثَمَّ فريقًا يحتسب، وفريقا يحتسب عليه، وفريقا يأمر، وفريقا يُؤْمَر، وليس هناك في المجتمع الإسلامي طبقية، وإنما من الممكن أن آمرُكَ َاليوم وأنت غدًا من يأمرني، وأن يكون بيننا استعداد بِتَقَبُّل هذا المعنى، فقد كان الأنبياء عليهم السلام يتقبلون هذه المعاني، ويُرَبِّوُن الناس على أن ليس هناك طبقات أو طبقيات.

التوبة من التخلف!

وأكد فضيلته أن الإنسان قد يكون مُقَصِّرًا، ولكنه يأمر، ومن الممكن أن يكون المرء عالما أو فقيها أو داعيا، ومع ذلك يُؤْمَرُ ويُنَبَّهُ على بعض الأخطاء، فهذه قضية ينبغي التأكيد عليها؛ لأنها هي التي تحمي المجتمع من أن تكون بعض أوامر الدين سببًا في التباعد بين أطياف المجتمع ومُكَوِّناته، مُشِيرًا إلى أنه مع تقدم الزمن أصبح هناك شىء من المبالغة في التخصص أحياناً.

 فمثلا عندما نتكلم عن موضوع مثل التوبة، تلقائيًّا يبدر إلى أذهان الناس أن التوبة تكون من الذنوب الأخلاقية، وأن التوبة أيضا تكون من تَرْكِ بعض الطاعات، وهذا كله صحيح، لكن هل يقع في ذهن الناس أن التوبة تكون كذلك من الأفكار التي فيها تقصير، والتوبة من التخلف في مجال التنمية، والحضارة، والبناء، والاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، والإصلاح السياسي والإداري؟! هذه قضية ربما نُسَلِّم بها نظريًّا.

وأشار فضيلته إلى أننا من الناحية العملية معتادون أن مثل هذه المفاهيم أصبحت مُخْتَزَلَةً بشكل واضح جدا، والكلام عنها لا يكفي، فلابد أن يكون هناك تَرْدَادٌ وإعادة، كما قيل:

أَعِدْ ذِكْرَ نعمان لنا، أعِدْ إن ذكره            هُوَ الْمِسْكُ ما كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ !

وأكد فضيلته على أن مثل هذه الأمور لابد أن نبدأ فيها ونُعِيد، حتى تستقر في أذهان الناس، وقال: أذكر في مسألة "أن الدين يجب أن يكون حافزًا قبل أن يكون رادعًا" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الصحابة وهم يُصَلُّون وهو مريضٌ مَرَضَ الموتِ، ومع ذلك تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم، وفي أحد المرات وجد قوةً ونشاطًا في نفسه، فتقدم وصَلَّى إمامًا بهم، أو أبو بكر يصلي، والنبي صلى الله عليه يصلي بصلاته.

خطأ التعميم

وحول استخدام التدين كسلاح قال فضيلته: إذا وَجَدَ أناس ضعفًا في نفوسهم أو في إيمانهم، فهم يستغلون كل أمر .. فمثلا يستغلون مناصبهم أو علاقاتهم، أو يستغلون أحيانا التدين، وفي السابق كان هذا فعل المنافقين (اتخذوا أيمانهم جُنَّةً فصدوا عن سبيل الله).. ومن هنا أتي أهمية الفرز، ولذلك  أقول دائمًا: إن من أخطاء الناس (التعميم).. فمثلا يقال: مُدَرِّسُو المواد الشرعية فيهم كذا وكذا، وأئمة المساجد فيهم كذا وكذا، والمتدينون فيهم كذا وكذا، والفقهاء والتجار فيهم كذا وكذا،، فهذا التعميم مُنْطَلَقٌ خاطئ، وليس فيه إنصاف.. ولابد من دراسة الظاهرة، فيقال: إن فئة من الناس عندهم كذا وكذا... لكن لا تعتبر هذا تعميمًا يَشْمَلُ كل الفئة؛ لأنك لن تستطيع أن تكون عايشتها، وكل فئة من الناس فيهم العالي والنازل، والقوي والضعيف، والصادق والكاذب.. وأنا أقول: يجب عدم التعميم في إطلاق الأحكام, فمثلا الصحفيون يجب ألا نعمم عليهم أمرًا ما، أو حتى الرياضيون أو أي فئة أخرى، ولكن ينبغي التَّأَنِّي، وأنْ نتقبل أن هناك حالات فردية، ولا يجب أن نقوم بتعميمها على شريحة بأكملها؛ لأن هذا يكون فيه ظُلْمٌ وعدوانٌ أحيانًا.

المظهر مرة أخرى!!

ولفت الشيخ سلمان  أنه من الصعب فرز المجتمع إلى فئة متدينين وغير متدينين، إذا كان التدين بمعنى المظهر، وقصره على طول شعر أو قِصَر الثوب وفقط، فهذا المعيار لا يَدُلُّ على حقيقة التدين، فحقيقته إيمانٌ في القلب، ونُطْقٌ باللسان، وعَمَلٌ بالجوارح، ومُحَافَظَةٌ على الفرائض، وأداءٌ للحقوق، مشيرًا إلى أن اختزال الدين وقصره على المظهرية التي رآها الإنسان لأول مرة، هو سِرُّ هذا الخلل والإشكال.

مؤكداً أن التدين الحقيقي يمنحنا الجمال، "فالله جميل يحب الجمال"، ولا ينافي التَّدَيُّن أبدا أن يكون الإنسان حريصًا على جمال ثوبه، وجمال المظهر، وتسريح شعر لحيته ورأسه، وعنايته بالطِّيب، ونظافة البدن، والوضوء والغسل، ويكفي أنه من العبوديات لله، والكفارات، فأن يقوم المرء بهذه الأعمال فهذا حافز إضافي، فضلًا عن الحافز الفطري والبشري.

التدين والزواج

وفي حديثه عن حقيقة التدين والعلاقة الزوجية، قال الدكتور سلمان العودة: إن أبرز ميزة يعطيها المتدين الحقيقي قبل الزواج هو أن يعطي لمن اختارها ولأهلها قدراً من الطمأنينة، ويمكن القول إنه كمؤشر عام  فإن المتدين أَقَلَّ وقوعًا في الأخطاء من غيره، فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية، ولذلك قد يكون غير المتدين أكْثَرَ وقوعًا في الأخطاء، والعلاقات المحرمة، سواءٌ في السفر أو الارتباط، بخلاف المتدين الذي قَصَرَ نفسه على زوجه، كما قال الله سبحانه وتعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين).

وأوضح فضيلته أن من التدين أيضًا حفظ حقوق الزوجة، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).. وأضاف: وأما أن يكون هناك شخص يشك في زوجته، أو يمعنها من الخروج لقضاء حاجتها، أو يكون عنيفًا ضد الأهل، فهذا ليس محسوبًا على التدين.

وأكد أن المجتمع العربي كُلَّهُ محسوب على أنه مجتمع متدين، وأن الذين يفعلون هذا  لم يدفعهم إليه التدين، وإنما دفعتهم عوامل أخرى كالجهل، أو سوء التربية، أو ترسبات من الطفولة، وأشياء شاهدوها لآبائهم، وهذا تفرزه البيئة. وعلينا أن نقدم الدين كرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وقال تعالى : ( وجعل بينكم مودة ورحمة).. فينبغي أن نقدم التدين كرحمة في العلاقة الزوجية، ونعزل الممارسات المنحرفة، سواءٌ مورست باسم الدين، أو باسم الرجولة-كالكبرياء- أو لأي اعتبار آخر..

نِسَبُ التدين

وعرض البرنامج لتقرير حول نِسَبِ التدين في المجتمع العربي، وجاء فيه أن نسبة التدين –بحسب الآراء- كانت ما بين 55% إلى 80% في السعودية، وما بين 55% إلى 60% في مصر، وما يقرب من 50% في دبي، فيما قال أحد الأشخاص من أصل عربي، ويعيش في الولايات المتحدة: إن غالبية الشعب الأمريكي بدأ يتجه نحو التدين.

ثم علق فضيلة الشيخ على هذا التقرير وقال: الحمد لله.. النِّسَبُ كلها مشجعة، وأعتقد أنها صحيحة، وأكثر منها أيضًا.. فالنظر الإيجابي في حياة الناس يكشف أنه حتى أولئك الذين يعتقدون أن لديهم جفوةً مع الدين ، ليس لديهم عداء مع الدين، ولكن عندهم تقصير، أو بعض المعاصي، أو غلبتهم نفوسهم الأَمَّارة بالسوء على ذنب من الذنوب، وظهر هذا الذنب على سيماهم وملامحهم، لكن في دواخلهم إيمان، وفي قلوبهم ندم، ولديهم حِرْصٌ على التوبة، وربما يحاولون أن يعوضوا ويكفروا عن هذه الذنوب بكثيرٍ من الأعمال الخيرية.

وحول فكرة التعدد والتدين قال فضيلته: التعدد متاح للكل، وليس للمتدينين فقط، وهناك خطأ في النظر إلى التعدد نظرة سلبية ، من حيث وجود الظلم، وإهمال الأسرة، وإهمال الأبناء، وعدم العدل، والإعلام يكون له دور كبير جِدًّا في إعطاء الصورة السلبية هذه.

عودة المسلسسلات التركية

وتعقيباً على مداخلة تحكي عودة  المسلسلات التركية من جديد تفرض نفسها على الكثير من بيوت المسلمين يشاهدها الصغار والكبار وما تضمنه من مشاهد تخدش الحياء وما لها تأثير سلبي في الغالب على حياة بعض الأسر من فتن للبنات وتأثير سلبي على العلاقة بين الأزواج

قال الشيخ سلمان سبق وأن قلنا إنه من دون شك ليست المسلسلات التركية فقط هي التي بدأت تغزونا،  فالإعلام العربي يحفل بالعديد من القنوات المدبلجة للأفلام الأمريكية، وهي لا تقل خُطُورَةً عن المسلسلات التركية والمكسيكية والروسية الخ.. وربما يأتينا في القادم ما هو أشد من ذلك!

وأكد أن المهم في مواجهة ذلك بناء وعي  الناس، وصناعة اليقظة، وبناء الشخصية الإسلامية، مع تذكير الناس باختيار الجيد فيما يشاهدونه، ويا ليت الناس يكفيهم فقط أن يقال هذا حرام حتى يتركوه، فالناس أحيانا يُفْتُون أنفسهم في مثل هذه الأمور!! وربما يقولون: إنهم يقضون وقت الفراغ، أو حتى حينما يجدون من يقول لهم مثل هذا الكلام، فإنهم يعتبرون ذلك نوعًا من التشدد، ولا يلتفتون إليه.

 ولذلك ينبغي أن ندرك أن صناعة البدائل أَمْرٌ مهم جدا؛ البدائل التاريخية والإيجابية، والبرامج الإعلامية المفيدة التي تبني الشباب، وتحل مشكلاتهم، مثل مشكلة البطالة، ومشكلة تأخر الزواج، ومشكلة ضعف الوعي، ومشكلة التعليم. وأعتقد أن هذه مسئولية كبيرة علينا جميعًا، سواء الإعلاميين أو الدعاة .

الخريطة القادمة  للتدين

وتساءل أحد المشاهدين وقال: في ظل الانفتاح وتماهي كثيرٍ من عوائد المجتمع، وإلف الناس للتغيير، هل بإمكاننا أن نرسم الخريطة القادمة للتَّدَيُّن كسمةٍ في المجتمع، بالطريقة التي نريد؟

 ورَدَّ فضيلته عليه بالقول: أعتقد أن من المهم أنْ نَحْرِصَ جميعاً على إيجاد الصورة الإيجابية للمتدين، فبعض الناس أحيانا يقع في ذهنه صورة نمطية لشخصية تاريخية، أو لشخصية المتدين الواقعي، وهذه الصورة ربما تجعل بعض الناس يحكمون على التدين بحكم سلبي، أو يبتعدون عنه، أو يصفون أنفسهم بأنهم غير متدينين، بناء على هذه الصورة.. ولذلك أعتقد أنه كلما أمكن أنْ نَرْسُمَ صورةً أكثر إشراقًا وحَيَوِيَّةً، كمثل صورة عبد الله بن المبارك في قوله : يعجبني من القُرَّاء كُلُّ طلقٍ مِضْحَاك، وأما من تلقاه بالْبِشْر ويلقاك بالعبوس فلا كَثَّر الله في المسلمين من أمثاله .. إذن فالجانب الأخلاقي ضروري جِدًّا في موضوع التدين، والعلاقات مع الناس، وأداء الحقوق، والجانب الحياتي .. وأعتقد أن كل هذه الأشياء إضافاتٌ ينبغي أن نجعلها أساسِيَّةً في مفهوم التدين، ونَمَطِيَّة المتدين.

 

صناعة التماثيل

وفي رده على سؤال حول من يفتي بإباحة صناعة التماثيل، حيث إنه لم يعد هناك من يعبد الأصنام، قال الشيخ سلمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فمثل هذه الأشياء مما لا شك فيه أنه لا تجوز صناعتها، ولا ترويجها، وإن كان ليس هناك من يعبدها كما يقول الأخ، لكن قد تُعْبَدُ، والواقع أنّ هناك من يعبدها، وأنا رأيت في بلاد إسلامية، مثل ماليزيا، من غير المسلمين من يأتي إلى تمثال كُتِبَ عليه صنع سنة 1920 مثلا، ويعبده، ويدعوه، وهكذا يقع للإنسان الجهل!

دعاوى الفتنة باليمن

وحول من يتحدث عن دعاوي فتنة قد تَشُقُّ الصف اليمني تحت شعارات كثيرة، أكد فضيلته أنه كتب رسالةً عن "حكمة اليمن المشطورة"، ونُشِرَت في الموقع، وإن كانت بعض الصحف اعتذرت عن نشرها، لا أعرف بالضبط لماذا ؟ لكن هذه الرسالة كانت دعوةً أوَّلًا إلى الإخوة في الجنوب أن  فكرة الانفصال ينبغي أن لا تكون مطروحة، حتى مع وجود مشكلات، فالانفصال وإن أفرز دولة جديدة، فعلينا أن ندرك ما هي ماهية هذه الدولة الجدية؟؟ ستكون واحدةً من ضمن الدول التي نعرفها الآن، ولن تكون استثناءً خارقًا!! وستبدأ المشكلات من جديد، فالوحدة بلا شك خَيْرٌ من الانفصال، وهي أقرب إلى طاعة الله ومرضاته، وتحقيق مصالح الأمة.

وخاطب فضيلته الإخوة في الجنوب أنهم مهما كان عندهم من مشكلات، أو إحساس بأن هناك تقصيرًا في حقهم، أو عدم عدالة في توزيع الثروة، أو في التنمية، أو أي ملاحظات أخرى، أن يكون باب الحوار هو الحل.

وأضاف: : وأدعو أيضا الحكومة اليمنية إلى أن تعمل بجد إزاء هذه المشكلة العويصة، وأن تفتح آفاق الحوار، وأن تستمع بِقَدْرٍ كبير من المصداقية إلى الشكاوى، وأن يتم التعاطي بإيجابية، بعيدًا عن التعاطي بتحريك أطراف معينة ضد أطراف أخرى، مما يُفْرِزُ في النهاية أن يشعر الناس بروح المؤامرة تسري بينهم.

وذكر أنه قال لأحد الإخوة: دائمًا إذا قال الإنسان ما يعتقد أنه الحقيقة يمكن أن يخسر الجميع!

 وأنا أدعو الجنوبيين لترك التفكير في قضية الانفصال، وأن تكون هناك محاولات كبيرة للإصلاح، وأدعو الحكومة في الشمال إلى التعامل بجدية وإيجابية مع تلك الشكاوى، وإزالة جميع أسبابها، وعواملها، وأرجو أن لا يكون هذا سببًا في أن يسخط علينا الجميع، فنحن لم نقصد أن نُسْخِطَ أحدًا، ولكن أُدْرِكُ أن في هذا مرضاةَ الله سبحانه وبحمده، وعلى الأقل يقول الإنسان ما يدين بأنه هو الحق الذي يجب أن يُقَال، مهما كان حجم المعاناة الموجودة هنا أو هناك.

الإيمان في القلب

وفي رده حول أهمية وجود الإيمان في القلب، قال فضيلته: لاشك أن الإيمان كما قلنا هو الحافز للأعمال كلها، فكريةً كانت أو عمليةً أو تَعَبُّدِيَّةً أو دنيويةً أو دينيةً..وهذا لا شك فيه.

 وأشار إلى أن السائل يتحدث عن معركة قائمة، ثم تساءل فضيلته: هل الإيمان يكفي دون عمل أو لا يكفي؟ وأجاب: نحن نُؤْثِرُ أن نبعد عن الجدل الفقهي بين مجموعات معينة، ولنأخذ بصيغة القرآن الكريم والسنة النبوية في الإيمان والعمل الصالح .

 وأضاف: الكثير يتساءلون : هل الإيمان شرط كمال أم شرط صحة؟ وأنا لا أجد ما يدعو إلى بحث هذه القضية أصلًا، ويكفينا الأخذ بالنصوص الشرعية، وأن لا نخوض أو نَنْجَرَّ إلى معارك جدلية كلامية تستنزف المزيد من وقتنا، دون أن يكون لها مردودٌ إيجابي، ويكفي في ذلك ما قاله السلف رضي الله عنهم وأرضاهم.