سلسلة المعرفة 5 + 6
سلسلة المعرفة
د. محمد سعيد التركي
الحلقة الخامسة
طريقة التفكير
مراعاة طريقة التفكير في التربية هو من أكبر المسائل الضرورية في التربية الإسلامية، وهي العملية الفعالة التي يجب الإعتماد عليها وخاصة لصنْع الشخصية الإسلامية، إبتداء من المدرسة، مروراً بالتربية الفكرية لكامل المجتمع، وإنتهاء بآخر يوم في حياة المسلم، فطريقة التفكير الإسلامية تعني أن يَبني المسلم كل أفكاره وبالتالي كل أقواله وأفعاله على الفكر الإسلامي، المستند إلى ما أمر الله به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون رأيه كما يوافق رأي الإسلام، ويكون فعله كما جاء في الإسلام فيما يتعلق بعلاقاته بربه وغيره من بني الإنسان وبنفسه، ولا يكون رأيه أو فعله كما يوافق رأي أي فكر آخر غير ما هو من عند الله، كالفكر العلماني أو الديمقراطي أو الشيوعي أو أفعالهم، أو يوافق أي أفكار كفرية، كالدعوة الوطنية أو القومية، أو يوافق أي أفكار فيها تقديم المصالح فوق أمر الله ونهيه، أو يوافق أي أفكار فيها إستسلام للواقع المخالف لأمر الإسلام، وبناء الآراء والأفكار والأفعال على أساس هذه الإستسلام .
وفي الواقع لا تجد المدرسين أو دكاترة الجامعات أو أسيادهم من الحكام، أو حتى علماء السلاطين، لا تجدهم يُبنون أفكارهم أو أقوالهم أو أفعالهم على أساس الفكر الإسلامي، بالرغم من علمهم الواسع بالإسلام، ناهيك عن تربية أبنائنا الصغار أو الكبار، أو باقي المجتمع على طريقة التفكير الغير إسلامية، وتبني طريقة تفكير غير إسلامية لإستخدامها في حياة المسلم الفرد.
ولا نقول أنهم جميعهم يستخدمون طريقة التفكير الغير إسلامية تعمداً، إنما بناؤهم هم بهذه الكيفية كانوا قد أرضعوه من صغرهم إرضاعاً، فصار يجري مجرى الدم في عروقهم، فلا يؤثّر بعدها في أنفسهم أيُّ علم أو أيّ فقه أو أي ثقافة إسلامية .
فلو سألت أحدهم يوماً ماذا ترى من حل لمشلكة فلسطين؟ لقال لك لو أن العرب اجتمعوا وتوحدت كلمتهم لاستطاعوا الضغط على إسرائيل، أو أن يقول أحدهم: مالنا ولهم، الله يعينهم، أو يقول غيره: الله ينصر الفلسطينيين ليحرروا بلادهم من إسرائيل، ويكون لهم حكم ذاتي وتخلص المشكلة. وكلها إجابات تستند على طريقة التفكير الغير إسلامية. أما طريقة التفكير الإسلامية، التي تقول أننا يجب أن نقيم دولة الإسلام وندعو إلى الجهاد، ونقوم فنحرر بلاد المسلمين كلها من الأعداء الكفار المستعمرين، بما فيها بيت المقدس، فهي لا تُستخدم على الإطلاق، وليست هي طريقة التفكير السائدة لا في المدارس والجامعات، ولا عند علماء السوء ودكاترة وعلماء التربية، ولا في المجتمع .
ولو نظرت لأحدهم وهو يتعامل مع غيره من المسلمين، لوجدته يتعامل مفتخراً، من منطلق الجنسية التي يحملها، والتي قررتها أصلاً هيأة الأمم المتحدة (سعودي، أماراتي، كويتي، عراقي، سوري، مصري، تونسي، أريتري، أثيوبي، صومالي وهكذا)، أما طريقة التفكير الإسلامية التي لا تقر طريقة التفكير هذه ولا تقر الإنتماءات القومية أي الجنسيات، وتمنع التعامل على أساسها، فقد باتت طي النسيان، وأصبحت مُنكَرة لمن يتحدث بها أو يتعامل على أساسها .
ولو أنكرت على أحدهم ممن يقوم بأعظم المنكرات، أو يقوم بأحد الأعمال الشركية، كما بيّنا سابقاً، لأجابك بأنه لم يجد غير هذه الوظيفة أو هذا العمل ليكتسب من خلاله ويعتاش به، ويعتمد على طريقة التفكير الإستسلامية للواقع، والتي جعلها مقياس أعماله والقواعد التي يبني عليها طريقة تفكيره، ولم يجعل طريقة التفكير الإسلامية هي الأساس الذي يبني عليها فكره وأعماله.
وترى علماء السوء عندما يُسألون عن قضايا الأمة، أو المفكرين السياسيين، أو غيرهم من المثقفين، تجد آراءهم كلها تنطق بطريقة التفكير الغير إسلامية، وتستند أساساً على الإقرار بالأوضاع السياسية الحالية، وعلى تقسيم بلدان المسلمين، وعلى الإقرار بهذا التقسيم، والإقرار بالحكام المتعددين (كما يدعونهم ولاة الأمر)، وعلى أن كل دولة يجب أن تحمي حدودها ومصالحها مقابل جاراتها من بلدان المسلمين، أما طريقة التفكير الإسلامية التي تقول أن بلاد المسلمين يجب أن تكون واحدة وجيشهم يجب أن يكون واحداً، وثرواتهم واحدة، وقوتهم واحدة، وأن تقسيم بلدان المسلمين الحالي إنما هو من الكفر والمخالفة لأمر الله وإستسلام للعدو المستعمر، وأن حاكمهم يجب أن يكون واحداً وشرعهم واحداً ومرجعيتهم واحدة، والرفض لتقسيمهم وإنتمائهم المختلف لقوميات وأجناس متعددة أمر مرفوض في الإسلام أصلاً، طريقة التفكير هذه لا تجد لها واقعاً في عقولهم، أو واقعاً في نفوسهم .
طريقة التفكير الإسلامية يستحيل إستخدامها إن لم تكن مقترنة مع أفكار الإسلام الأخرى، وتستحيل إذا لم تجد بقوة السلطان من يجعلها المقياس لجميع المعالجات وإدارة مصالح المسلمين، وفي التربية والتعليم، وفي محاسبة الحكام، وفي جعل الإسلام هو السائد في حياة الناس كافة، وفي الإقتصاد والقضاء وفي السياسة والإدارة وغيرها .
قال الله تعالى في سورة الأحزاب 36
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء 65
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به
الحلقة السادسة
تكمن مصيبة فكرة ولي الأمر عند تحريف المفهوم الذي تحمله هذه الفكرة، وخاصة أن فكرة ولي الأمر تعني للمسلمين أحد أركان دولتهم العظمى التي تصل بحق إلى درجة التقديس، ففي فكرة ولي الأمر تماسك لدولة المسلمين، وحفظ لوحدة المسلمين ووحدة كلمتهم، وعظمة قوتهم وشدة بأسهم، لأن ولي أمر المسلمين هو القائم على أحكام الإسلام وأمر الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بتطبيقها، وحمايتها وصونها، وإقامة أحكام الجهاد، ونشر الإسلام ونصرة المسلمين، وتوظيف المسلمين وطاقاتهم وثرواتهم للنهضة والإنتاج، والعمل على رفاهية المسلمين، وحماية المسلمين من تدمير صناعاتهم وزراعتهم وتجارتهم، وحمايتهم من تسلط الأعداء وإحتكار الأموال والإستغلال، وحمايتهم من الفقر والحاجة والعوز، والعمل على عزتهم وحريتهم وسلطانهم، وعدم التفريق بين ألوانهم، وعدم القبول بحدود تفصل بينهم وتميزهم أو تعاديهم عليها، وذلك كله كما جاء في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس.
لذا فإن ولي الأمر هو الذي يقوم على أحكام الإسلام وتطبيقها كاملة غير ناقصة ولا محرفة، ولا موالياً لأحد من الكافرين، ولا ناهباً لثروات الأمة، ولا مبدداً لها، ولا معطلاً لأي حكم من أحكام الإسلام، ويكون مُبَايَعاً بيعة حرة من المسلمين، وليست بيعة تدليس أو إيهام وخداع، أو بيعة جبرية قهرية، ويكون مُبايَعاً بيعة لتطبيق أحكام الإسلام، وليست بيعة لمُلك أو لجمهورية أو ديموقراطية.
فليس ولي الأمر هو كل من إعتلى كرسي الحكم وارثاً إياه، أو مغتصباً إياه بسلطان من موالي أو بسلطان أجنبي، أو على حساب دماء ملايين من دماء المسلمين وأعراضهم .
فالآية الكريمة في سورة النساء حيث قال رب الخلق أجمعين فيها: "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، ولم يقل الله سبحانه وتعالى فيها: أطيعوا أولي الأمر منكم والله والرسول، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى أولي الأمر منكم !!!، فلم تُجعل طاعة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مهمشة بعد طاعة أحد خلقه .
وما هو متبع في المدارس والجامعات كافة، وفي كل خطب المساجد، وفي كل أحاديث علماء السوء، هو التدليس على المسلمين، وتثبيت القناعة للدارسين بأن الحاكم الموجود الآن على كرسي الحكم، ملكاً كان أو رئيساً أو أميراً، إنما هو وليّ الأمر الذي أشار الله بإتباعه وطاعته، وعدم عصيانه وعدم الخروج عليه بشكل مطلق، حتى ولو طبق على الناس أحكاماً غير أحكام الإسلام، وحتى لو فجَرَ وَوَالى غير المسلمين .
ولذلك أصبح المسلمون رجالهم ونساؤهم، شيوخهم وشبابهم وأطفالهم يحملون مفهوماً مُضَللاً عن ولي الأمر وطاعة ولي الأمر، فأصبحوا يتبعون ويخضعون لغير ولي الأمر الذي فرضه الله عليهم، ظناً منهم وجهلاً أو تجاهلاً أنهم يتبعون ويطيعون ولي الأمر، فيتبعون أحكام الكفر والضلال ويعينون عليها، ويعملون على ظلم أنفسهم والناس أجمعين، ويهيئون لأنفسهم طريقاً إلى النار ومصيراً أسوداً في الدنيا والآخرة .
ولذلك لا عجب أن يعبث بالمسلمين أعداؤهم، ولا عجب أنهم يهانون، ولا عجب أنهم يُستعبدون، وتُحتل بلدانهم وتُدنس أراضيهم ومقدساتهم، وتنتهك دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، وهم لا يحركون ساكناً، والسبب في ذلك أنهم وجهوا عبادتهم لغير الله ممن يحكمهم بحكمٍ غير حكم الله ممن يسمونهم أولي الأمر وشياطينهم وأعوان شياطينهم .
قال الله سبحانه وتعالى :
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً).