الهريرة وهاشم
حارثة مجاهد ديرانية
كنا بالأمس في منزل جدتنا وفيه بعض أقاربنا، وكنا في الحديقة مع بعض أطفال عائلتنا وقد ركب أحدهم دراجة صغيرة ومن حوله هرتنا الأم التي اختارت حديقة جدتنا مسكناً لها ومعها هريراتها الصغيرات يمشين من حولنا ومن بين أرجلنا، وكنا شهدنا للتو حادثة صغيرة تأذت فيها ذراع إحدى الهريرات وهاشم الصغير (وهو صبي صغير محبوب في عائلتنا لم يدخل بعد المدرسة) يسوق دراجته بوداعة وحوله الهريرات. قيل لهاشم: "احذر يا هاشم أن تدوس الهريرة وأنت تسوق دراجتك، فإن ذلك يؤلمها"، سأل هاشم الصغير: "وماذا يحصل إن أنا دعستها بدراجتي؟"، قالوا: "فإنها إذن تهجم عليك وتخرمشك بمخالبها". فأثار الجواب الأخير انزعاجي كله، وعجبت لأمر المقالتين ما أبعد إحداهما عن صاحبتها! وأصدقكم أني وقعت في حب المقالة الأولى وأبغضت الثانية! فأما الأولى فإنسانية جداً وأما الأخرى فقاتلة للإنسانية. لا يا هاشم، ليس الذي يحصل أنها تخدشك بمخالبها بل أنها تتألم، وهذا هو بيت القصيد في الموضوع كله. وملت على هاشم وقلت له مؤكداً: "ما الذي يحصل لك يا هاشم إذا وقع شيء ثقيل على قدمك؟ إنك تتألم كثيراً، صح؟"، قال: "إيه" (أي: "نعم")، قلت: "والهرة الصغيرة مثلك تشعر وتتألم أيضاً، وأنت إذا لم تنتبه وأنت تسوق دراجتك فدعستها فإنها تألم كما تألم، وأنت لا تحب للهرة أن تشعر بالألم". وغرقت في أفكاري بعد تلك الحادثة الصغيرة، وجعلت أفكر مع نفسي: كم عدد الأطفال في هذا العالم الذين خرب المربون فطرهم لما علموهم أن عليهم ألا يؤذوا الهررة لأنها سوف "تخرمشهم"؟ يقول القائلون ذلك لأطفالهم وهم يعلمون أنهم يكذبون، ويطردون من أذهانهم السبب الحقيقي وهو أننا نجتنب إيذاء الهرة لأننا لا نحب لها أن تشعر بالألم، لا لشيء إلا بدافع الإنسانية التي فطرت نفوسنا عليها، ولا يلبث الطفل أن يدرك كذب أبويه، فلا يرى بعد ذلك المانع الحقيقي من إيذاء الهرة أبداً[1]، لأنهم قالوا له إن المانع هو أنها "تخرمشه" ولم يقولوا "لأنها تألم". وإنها تألم، ولكنها ربما تخدش أو لا تخدش، فإن كانت شرسة عاقبت المعتدي وردته على أعقابه، وكثيراً ما تضعف وتكتفي بالفرار فلا تعاقب من تعمد إيذاءها. عندها يشب الطفل وقد ربي أنه لا يؤذي الآخرين مخافةَ أن يؤذوه، فإن أمن أذاهم تمادى هو في الإيذاء، وأما الفطرة الإنسانية الخيرة عنده أنه يعرف هو نفسه الألم، ولا يحب أن يسببه لغيره بغير حق فإنهم يقتلونها. أتراهم يدركون جرمهم لما يلقنون صغارهم أن صنع الخير يجب أن يكون دائماً مرتبطاً بالثواب والشر دائماً بالعقاب؟ ألا يعلمون أننا متى ربطنا هذا الربط الوثيق جردنا الكلمتين (أي: الخير والشر) من معنييهما الحقيقيين وجعلناهما مطية لنظام الثواب والعقاب هو يقرر ما الخير وما الشر، فإن كافأ النظام المرتشي عددنا الرشوة "خيراً" وإن عاقب الصادق سمينا الصدق "شراً"! ألا يدرون أن الخير والشر أسمى من أن يتلاعب بهما نظام الثواب والعقاب (وغلب عليه في هذه الحياة الدنيا أنه جائر ظالم) وأنهما هبة من الله قد غرسها في نفوسنا غرساً راسخاً؟ كل واحد فينا نحن البشر يدري ما الخير وما الشر، لا يقتصر علمه على القارئين والمتعلمين ولكن يعلمه كل عاقل وأبسط الناس يعلمه ويدركه.
فانتبهوا يا أيها العقلاء! لا ينفي أحد أن المكافأة مطلوبة للإحسان والعقاب للإساءة وأن هذا من العدل، ولكن هذا لا يعني أننا نبغي الخير ونجتنب الشر طمعاً في المكافأة أو خوفاً من العقاب وحسب، بل إننا نحب الخير لذاته ونبغض الشر لذاته، وهذه هي الفطرة الإنسانية التي فطرنا الله عليها، فليكن عهدنا ألا نجرم أنفسنا بأن نربي جيلاً فنجعله يكفر بهذه الفطرة الإلهية الخيرة.
[1] وأرجو أن يكون قد وضح للقارئ في هذه المرحلة من المقالة أن حديثنا عن "الهرة" بالذات لم يعد إلا رمزاً أعني به كافة المخلوقات التي تحس وتشعر، وعلى رأسها بالطبع إخوتنا من بني آدم. فالطفل لا يضرب رفيقه في المدرسة إلا حين يكون أضعف منه فيأمن أن يرد عليه اعتداءه، وهكذا..