غرّنا الرجل بصلاته

صالح خريسات

دخل عمر بن عبد العزيز المسجد، فرأى بلال بن أبي بردة، منزوياً يصلي، ويحسن الركوع والخشوع , فقال: إن يكن سر هذا الرجل كعلانيته، فهو أفضل أهل العراق. فقال العلاء بن المغيرة، وكان خصيصاً بعمر، أنا آتيك بخبره , فاقترب منه، وقال: اشفع صلاتك، فإن لي حاجة. فلما سلم، قال له: تعرف منزلتي عند أمير المؤمنين , فإن أشرت عليه أن يوليك العراق، فما تجعل لي؟ قال: عمالتي سنة. قال: فاكتب بذلك خطاً، حتى لا نختلف. فقام بلال من وقته وكتب. فحمل العلاء الخطاب، إلى عمر بن عبد العزيز , فلما قرأ الخطاب، كتب إلى واليه في العراق: أما بعد , فإن بلال غرنا بالله، فكدنا نغتر فيه , ثم سكبناه، فوجدناه، خبيثاً كله.

 وسأل الإمام، الحسن البصري، رجلاًً من الخوارج , فقال له: حدثني عن السلطان , أيمنعك من شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة؟! , فقال الرجل: لا. فقال الإمام البصري: أيمنعك من صوم رمضان؟! , قال الرجل: لا. فقال الإمام: فأراه إنما منعك الدنيا، فتقاتله عليها !

وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رجلاًً: أتعرف فلاناً؟ قال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين. فقال عمر: هل صاحبته في سفر؟ فقال الرجل: لا. فقال عمر: هل شاركته في مال؟ فقال الرجل: لا. فقال عمر: لعلك تراه في المسجد، يرفع رأسه ويخفضه؟! قال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين. فقال عمر: إنك لا تعرفه.

ودخل رجل من المارقة، على الإمام أبي حنيفة النعمان، وهو في المحراب يصلي , فسأله: أخبرني عن المسلم , يقف خلف الإمام، ويصلي بصلاته , هل يسرق؟ قال الإمام: نعم، ويقام عليه الحد. فقال الرجل: هل يزني؟ فقال الإمام: نعم , ويقام عليه الحد.فقال الرجل: هل يقتل؟ فقال الإمام: نعم , ويقام عليه الحد. فقال الرجل: فلماذا يصلي إذن؟ فقال الإمام: ولماذا وضعت الحدود إذن؟ ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير.

سقنا هذه الحكايات الأربع , لنبين للناس أن العمل وحده، هو الذي يقرب مكانة المسلم عند الله، وليس صلاته أو هيئته. وتلك حقيقة أكدها الحق، سبحانه وتعالى، بقوله:" ليس البر أن تولوا وجوهكم،قبل المشرق والمغرب،ولكن البر من آمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وآتى المال على حبه، ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وأبن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب، وأقام الصلاة، وأتى الزكاة، والموفون بعهدهم، إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء، والضراء، وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون ".

والسر في هذه الآية، أنها أزالت عن المسلم، أقنعة الإيمان الوهمية، وأظهرته في صورته الحقيقية , بما ثبت في قلبه، وجعلت العمل حقيقة الإيمان. وهي صورة، تخالف الصورة التقليدية، التي جعلت بعض المسلمين، وبخاصة زعماء الجماعة الإسلامية المتطرفة , بين المحيطين بهم من البشر , الفئة الوحيدة البريئة، بين مجموعة من المذنبين الفاسدين التعساء. وهذا غير صحيح. فالإسلام،دين العمل.

وفي القرآن الكريم، يتكرر طلب العمل الصالح، مائة واثنتين وعشرين مرة. " من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة،" , " إلا من آمن، وعمل صالحاً، فأولئك لهم جزاء الضعف، بما عملوا " , "ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن،فأولئك يدخلون الجنة" , " يوم تجد كل نفس ما عملت، من خير محضراً، وما عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه، أمداً بعيداً " , " وتوفى كل نفس ما عملت " , " إنا لا نضيع، أجر من أحسن عملاً ".

وعمل يوم صالح , أعظم منزلة عند الله، من الركوع،والسجود، والدعاء.نقول ذلك للذين يقفون برؤيتهم للإسلام، عند حدود الآخرة، شاغلين أنفسهم، بشؤون الثواب والعقاب , والإيمان والاعتقاد , وداعين الجميع إلى ضرورة السير ورائهم , مستخدمين في ذلك، مختلف أسلحة التأثير، والتكفير، والتخويف.

ويتألف جيش هؤلاء المتطرفين،من الأعداد الضخمة، من الذين لا عمل لهم ولا حلم , وهم مستعدون دائماً، لتدمير المجتمع،لأنهم في النهاية لا ينتمون إليه. وقد استطاع التيار السياسي الديني، أن يجتذب أعداداً غفيرة من هؤلاء، نجدهم جالسين على أبواب الجوامع، ويبيعون اللبان، والعطور، والبخور، والسواك. ولا يكادون يفقهون حديثاً.

وقد تمكن بعض الوصوليين، من استغلال هذه الأعداد الضخمة، من المنهزمين، وتوظيفها لديهم في معسكرات صنع الأذهان. حيث تتولى فرق متخصصة، في تطويع نصوص القرآن، وتأويلها، حسب ما تقتضيه مصالحها , فيفسرون القرآن على هواهم، ويقومون بتكفير الكل، وهم وحدهم على صواب , ويتلاعبون في تفسير الآيات، بما يخدم أغراضهم،وقد وجدنا من بينهم، من يفسر قوله تعالى: " ومن لا يحكم بما أنزل الله " بأن المقصود بها، الفصل بين الناس، وإبداء الرأي. بل إن واحداً من العلماء " سعيد العثماوي " أثبت أن هذا الخطاب، موجه إلى الكتابيين، أهل التوراة، والإنجيل، وليس إلى المسلمين.

فيجب أن تدرك هذه الفئات المنهزمة , أن المسلمين ناس كأمثال الناس، وأن مهمتهم على هذا الكوكب، مهمة بناء وتعمير، وليست مهمة تدمير. قال تعالى: " هو أنشأكم من الأرض، واستعمركم فيها " وهذا النص الإلهي، يربط خلق الإنسان، بعمارة الكون. والله سبحانه وتعالى،عندما سخر الأرض للناس، ثم دعاهم قائلاً "فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه" لم تكن هذه دعوة للتنزه، والترهل، والبطر , ولكنها كانت تكليفاً إلهياً واضحاً، للإنسان، بالسعي في الأرض، واستثمارها. ولعل أبلغ تعبير عن هذا الحرص , قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قامت الساعة، وفي يد أحدٍ منكم فسيلة، فليغرسها ". فالفزع الأكبر, وقيام الساعة , ونهاية العالم , يجب أن لا يشغل الإنسان عن عمله.

إن مقاطعة الحياة باسم الدين، لا يمكن أن تكون مسلكاً إسلامياً مقبولاً، كما أن الإعراض عن الدنيا، والتقاعس عن الضرب في الأرض، لا يقبله العقل أبدا،ً وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد وعد بالنصر والاستخلاف في الأرض، فإن وعده كان مشروطاً , وأنه سبحانه وتعالى، قد كتب في الزبور من بعد الذكر، أن الأرض يرثها، عباده الصالحون. وليس من الصلاح في شيء , أن يقاطع المسلمون الحياة الدنيا، ويخرجون إلى الكهوف، والمغارات،والجحور , ويحتمون وراء أسوار من الرفض، والهستيريا، ويتصورون أن كل ما عرفه الناس، من الأفكار، والمذاهب والنظريات، باطل , وإنهم فقط من بين خلق الله، الذين هم على حق.

إننا نشهد بيننا اليوم من الغلاة والمتطرفين، من يظنون أنهم تأدبوا بآداب القرآن والسيرة، ويحسبون أنهم قد اتخذوا من النبي أسوة حسنة. لكنهم في الواقع، كسالى عجزة , لا مكان لهم بين العقلاء من الناس , ولذلك نجدهم يهجرون المدن، ويسمونها دار حرب، ثم يستأنفون الغارات بغرض السلب والغنيمة، ويسمون ذلك جهاداً. فيجب التصدي لكل هؤلاء الذين يتخذون من الدين قناعاً رقيقاً، ويفسدون في الأرض. قال تعالى: " وإذا تولى سعى في الأرض، ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل ".