الليبراليون... وتلميع الشخصية العربية
سهاد عكيلة
[email protected]
في حلقةٍ من برنامج «الاتجاه المعاكس» بعنوان: «الحكم الصادر بحق الزيدي الذي قذف بوش بالحذاء» بثّتها فضائية الجزيرة بتاريخ 24 آذار 2009، كان أحد ضيفَي البرنامج «الليبرالي» أحمد أبو مطر شديد الحرص على «صورة الشخصية العربية أمام الغرب»، معتبراً أنّ «ضرب حذاء على رئيس أكبر دولة في العالم عملاً همجياً حقيراً لاأخلاقياً»... مُبدياً استغرابه من القضاء العراقي كيف حكم عليه بثلاث سنوات فقط!!!
عجيب حرص هذا الطابور من «المثقّفين العرب» على تلميع صورة «الشخصية العربية» أمام الغرب؛ ووجه العجب يكمن في أنّ هذا «التلميع» ينبني دائماً على حساب عقيدة الأمة وثقافتها وموروثها الحضاري وأمنها وثرواتها وحقها في الدفاع عن نفسها بكل ما تستطيع، وحقّها أيضاً في تمريغ أنوف المحتلين في الوحل...
والسؤال الذي يتعيّن طرحه هنا: لماذا لا يحرص مجرمو الحروب في أمريكا وما يسمى بـ«إسرائيل» على صورتهم في عيون العرب؟ ففي الوقت الذي يصنَّف فيه الصهاينة «دولياً» بأنهم يتمثّلون مبادئ الديمقراطية ويحرصون على حقوق الإنسان ويحترمون حريته، وفي الوقت الذي يدّعي فيه الأمريكان بأنهم ما دخلوا العراق إلا لتحريره ولإرساء قواعد «الديمقراطية» وحقوق الإنسان فيه، تُرتكب المجازر وتُهدَم البيوت، وتُغتصب النساء ويُعتَقلن، ويتم القضاء على حضارة بلد بأكمله... ويشاهد العالم أجمع ذلك الفِعل «الهمجي» دون أن يخشى هؤلاء على صورتهم أمام العالم فضلاً عن «العلم الإسلامي». ليس هذا فحسب، بل يعملون على تقنين تلك المجازر وذلك الإرهاب وتبريره وتسويغه تحت مسمّيات يعرف القاصي والداني أنها عناوين ما صُمِّمت إلا استخفافاً بالعقل العربي وبالشخصية العربية التي يحرص أحمد أبو مطر وزملاؤه من العرب الليبراليين الجدد على تلميعها!!! فأين هؤلاء من كشف اللثام عن الوجه المشوّه البَشِع لأولئك المجرمين بدل الترويج لسياساتهم في المنطقة؟!!
والحقيقة أنّ هؤلاء يؤدّون - بما يسوِّقون له من ثقافة الانبطاح والانهزام - خدمة جليلة لأعداء هذه الأمة سواء عن حُسن نية أو عن سوئها، وللتدليل على ذلك اقرؤوا معي ما كتبه «جون آلترمان»، مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي، تحت عنوان: «الليبراليون الجدد... عمالة تحت الطلب»، يتحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب، ويقول: «أصبحت الحاجة ماسّة إلى الليبراليين العرب أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يرى فيهم بعض الغربيين الأمل والقُوى القادرة على مواجهة خطر «القاعدة»، لذلك يدعوهم كبار مسؤولي الحكومات في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية إلى موائد الأكل وشرب الخمر... إن اهتمام الغرب المتزايد بالليبراليين العرب يُنذر بتأزم موقفهم، ويجعلهم يوصَمون بالعمالة، ليس العمالة الهادفة إلى تحقيق الحرية والتقدم، ولكن العمالة للغرب ومساعدته في مساعيه لإضعاف وإخضاع العالم العربي... إن الناظر إلى حال الليبراليين العرب يجد أن السواد الأعظم منهم ينتظر أن تأتي الولايات المتحدة لتسلمهم مفاتيح البلاد التي يعيشون فيها... يجب أن لا نتخلى عن الليبراليين العرب؛ فكثير منهم يقاتل بشجاعة في سبيل تحقيق أفكار ندعمها...»!!
لعل هذه النظرة الثاقبة المفسِّرة للدعم الغربي لهؤلاء تشي بحقيقة دورهم المتمثِّل في التمهيد لاحتلال الأمة الإسلامية وغزوها ليظفروا بعدها بحظوة أو منصب أو شهادة «حسن سلوك» من الغاصبين، وفي ترويض هذا الجيل على ثقافة الهزيمة؛ فنجدهم يسعَوْن لمسخ الهوية الإسلامية، ويُرغمون المجتمعات العربية على تبنّي ثقافة «الحداثة» الغربية - التي تتصادم مع الدين - بعدما لاكوها ووجدوا من مرارتها فلفظوها وتلقّفها مثقّفونا وروّجوا لها عبر أبواقهم الإعلامية... وذلك من خلال: إخضاع التشريع الإسلامي بأكمله وشموليته للنقد والتحليل، والتشكيك بالإرث الثقافي والحضاري لهذه الأمة، والدعوة الصريحة لفصل الدين عن السياسية، بل عن الحياة العامة برمّتها... والترويج لثقافة التسامح مع الأعداء حتى لو أبادونا ودمّروا مقوِّمات الحياة لدينا واحتلوا أرضنا وسلبونا حقنا في الدفاع عن كرامتنا وحريتنا… ويعملون بجلاء - بعدما عملوا لسنواتٍ في الخفاء - على تكريس فكرة التطبيع بأشكاله كافة مع العدو الصهيوني والتأسيس له في وعي هذا الجيل، بحجّة أن المنطقة لن تنعم بالسلام والأمن والرخاء إلا من خلال بوابة الصهاينة! ويعتبرون الجهاد في سبيل الله إرهاباً، ويسخِّرون أقلامهم لتشويه تلك الصورة المشرقة للمجاهدين في سبيل الله سواء بأسلحتهم أو بأقلامهم أو بمواقفهم الثابتة المحافظة على أصالة المنهج الإسلامي. كما يتجلى دور معظمهم بالسعي للتخلص من مخالفيهم من خلال الدبابات والطائرات الأمريكية أو الصهيونية دون أن يرفَّ لهم جَفن للمجازر التي تُرتكب بحق أبناء أمتهم، ودون أن ينتفضوا ضد التدخل الأجنبي السافر في شؤون بلادهم؛ فها هو أحد منظِّريهم الليبرالي العربي كنعان مكية يقول - إبان احتلال أمريكا للعراق: إنّ قصف بغداد بالقنابل والصواريخ الأميركية كان بالنسبة لأُذنه كسيمفونيات بيتهوفن!!!
هذا نموذج مما يُراد للشخصية العربية أن تكونه على أيدي «مثقفينا» الذين ما زالت تتقاذفهم الثقافات الشرقية والغربية ذات اليمين وذات الشمال: فمن الاشتراكية إلى الشيوعية إلى الليبرالية، ومن القومية إلى الوطنية...
فيا أيّها «الليبراليون العرب»: إذا كانت الليبرالية حاجة غربية ملحّة في فترة تاريخية محددة ساد فيها ظلم الكنيسة والإقطاع والاستبداد السياسي... فما حاجتنا إليها والله قد أغنانا عن أي معتقد أو ثقافة وافدة بقوله تعالى: اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأَتمَمْت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلامَ ديناً؟ وإذا كنتم «مثقّفين» حقاً ألم تشمل ثقافتكم حقبةً من أروع حِقب التاريخ وأكثرها أمناً ورخاءً وعدلاً وحرية وتقدّماً علمياً ورُقيّاً حضارياً في ظل حضارة دولة إسلامية شامخة عاشت قروناً؟
ويا أيها «الليبراليون العرب»: لو لم يكن فيما يسمّى بـ «الحضارة الأمريكية» غير سعيها لعولمة ثقافتها وفرضها بالقوة على شعوب الأرض لَكَفَتْها ظلماً وقُبحاً وهمجيةً وانحطاطاً إنسانياً وأخلاقياً... في الوقت الذي يتميّز فيه المنهج الإسلامي الذي تسعَوْن لنَقْضِه بمبدأ: لا إكراه في الدين!
وإن كنتم تريدون حقّاً أن «تلمِّعوا» الشخصية العربية فأعيدوا لها شيئاً من البريق الذي فقدته يوم أن نحَّتْ الدين جانباً، وبحثت عن بدائل تملأ الفراغ، فتاهت بين السُّبل، وكنتم سبباً بالمزيد من التيه... وأنتم الذين تُناط بكم مسؤولية النهوض بواقع الأمة بما أُتيح لكم من فرص «العلم» و«الفَهم»... ولكنكم سقطتم مع المتساقطين؛ وإن لم تصحِّحوا مساركم وتعيدوا ترتيب أولوياتكم وتنحازوا إلى أمّتكم فاحجزوا لكم مكاناً بجانب أسيادكم في لوائح المجرمين المهزومين بإذن الله، قال تعالى: كتَبَ الله لأغلبنّ أنا ورُسُلي، وانتظروا شهادة التاريخ التي تكتب الآن إنجازاتكم بحروفٍ من... عمالة.