لابدّ في العمل السياسي ، من مهاترات
.. لكن ، ما حدودها ، وما ضوابطها !؟
عبد الله القحطاني
· في كتب اللغة :
هتَر وهتُر: هتْراً .. حَـمُـق وجَهِل .
هتَر فلاناً الكبَـرُ : أفقده عقله ، وصيّره خَرِفاً .
هاتَره : سابّه بالباطل من القول !
تَهاتَر الرجلان : ادّعى كل واحد على الآخر ، باطلاً .
المهاتَرة : القول الذي ينقض بعضه بعضاً .
التهاتُر: الشهادات التي يكذّب بعضها بعضاً
ويقال تهاتر الشاهدان : كذّب أحدهما الآخر ، فسقطت شهادتهما .
· العمل السياسي ، فيه أبواب كثيرة ، من أبواب المنافسة .. وهذه تقتضي أنواعاً من الصراع ، والصراع يقتضي السعي ، إلى الغلبة والتفوّق والنصر.. وهذا كله ، قد يفتح أبواباً شتّى ، من أبواب المشاحنة .. وأبواباً من الحقد والحسد ، والكيد والمكر والخداع .. حتّى بين أصدقاء ، متنافسين على مواقع معيّنة ، من مواقع العمل العامّ ! لأن السياسة عمل عامّ بطبيعتها.. فلا نعلم أن ثمّة سياسة تنتمي إلى قطاعات خاصّة !
· بناء على كل ماذكر ، آنفاً ، لابدّ لمن يعمل في السياسة ، من أن يوطّن نفسه ، على مواجهة أنواع كثيرة من المهاترات ، في أيّة ساحة من ساحات العمل السياسي .. لاسيّما ماكان له طابع تنافسي ، بين الأحزاب داخل الدولة ، أو بين الأفراد في الحزب الواحد ، أو بين الدول المتصارعة ، المتنافسة على مصالح إقليمية أو دولية !
· التنازع بين الحقوق ، وبين المصالح .. لابدّ منه ! ولابدّ لكل طرف من وسائل وأساليب تدعم مايراه حقاً له ، أو يرى فيه مصلحة له ! ومن الوسائل والأساليب المتّبعة ، عادة ، تكذيب الأطراف التي تنازعه ، فيما تدّعيه من حقوق لها .. أو من صواب في ادّعاءاتها !
· الحقّ والباطل نسبيّان ، بشكل عامّ ، في العمل السياسي .. وكذلك الخطأ والصواب ! فكل طرف ، يرى الحقّ من الزاوية التي ينظر منها .. ويرى الصواب ، كذلك ، من زاوية رؤيته ، هو ، التي تناسب مصلحته ، أو طريقته في التفكير!
· كثيراً مايختلط الحقّ بالباطل ، والخطأ بالصواب .. فيكون لدى كل طرف ، من الأطراف المتصارعة ، نسبة من الحقّ ، مختلطة بنسبة من الباطل .. ونسبة من الصواب ، مختلطة بنسبة من الخطأ ! وكل طرف يضخّم مايراه من حقّ وصواب لديه ، وينفي عن نفسه الباطل والخطأ ، أو يقلّل من كل منهما ، بقدر مايستطيع .. إذا عجز عن نفيهما بشكل تامّ !
كما يضخّم من باطل خصمه ، ومن خطئه .. ويقلل من حقّه وصوابه ، إذاعجز عن نفيهما بشكل تامّ !
· مقاييس الخطأ والصواب ، والحقّ والباطل .. كثيرة ، متنوّعة ! كل طرف يسعى ، جاهداً ، إلى جرّ خصمه ، إلى التعامل بالمقياس الذي يراه ، هو ، محقّقاً لمصلحته ، ومؤدّيا إلى نيل مايراه حقاً له !
· من مقاييس الخطأ والصواب ، والحقّ والباطل : الديني ، والوطني ، والقانوني ، والعرفي .. ولكل منها عناصر وبنود ، وقواعد إثبات ، ووسائل دعم !
· القوى المادّية : من بشرية وعسكرية واقتصادية .. وسائل دعم ، لمن يملكها ، في إثبات مايراه حقاً له ، ونفي مايراه باطلاً لخصمه ، أو خطأ .. في الكثير من ساحات الصراع !
· القوى المعنوية : الخلقية والقيمية ، وسائل دعم ، لمن يملكها ، في إثبات مايراه من حقّ له ، وفي نفي مايراه باطلاً لخصمه ، أو خطأ .. في بعض ساحات الصراع !
· القوى المعنوية والقيمية : ضوابط جيّدة ، لكثير من أنواع الصراعات ، المادّية والمعنوية ! وحين تغيب هذه القوى المعنوية ، عن أيّ صراع ، يصبح هذا الصراع همجياً ، إلى حدّ كبير .. أو يصبح صراع وحوش في غابة ! مهما حاول أصحابه ، تغطيته بأغطية متمدّنة ، أو متحضّرة ، أو ملوّنة بألوان من الرفق والدماثة !
· ميادين الكلام ، التي يتصارع فيها المتخاصمون ، كثيرة ، ومتشعّبة ، وتحتشد فيها ، عادة ، أنواع من الكلام ، الغثّ والسمين ، والسيّء والحسن .. بما في ذلك : الكذب ، والتزييف ، والشتم ، والاتّهام ، والتجريح ، والنيل من الأشخاص ، والمواقف ، والأفكار ، والآراء ..!
· قد يمارس بعض الخصوم ، الهَترَ ، في مواجهة خصومهم .. وهو الحمق والجهل ـ كما ورد آنفاً ـ ! كما قد يهاتر أحد الخصوم ، خصمه ، بالمعنى الذي تذكره كتب اللغة ، وهو : أن يسبّه بالباطل من القول ! كما أن أحد الخصوم ، قد يهتِره الكِبَـر ، فيفقده عقله ، فلا يدري مايقول ! أو يَهتره كِبْـر، أو هوىً ، يكون أشدّ تدميراً لعقله ، من كبَر السنّ ، في بعض حالات اللدَد في الخصومة !
· أقوى سلاح في المهاترة ، لتكذيب الخصم ، ونفي مالديه من الباطل الواضح ، أو الضعيف .. هو الحقّ الواضح ، أو القويّ ! وأقوى سلاح ، لنفي الخطأ الواضح ، أو المبهَم .. هو الصواب الواضح !
· من مارس الكذب مكرَهاً ، لأن خصمه جرّه إلى ساحة الكذب .. فقد خسر الكثير من قوّته المعنوية ، وأفقد نفسه الكثير من ثقة الآخرين به ، واستوى ، هو وخصمه ، في السوء ! حتّى لو كان خصمه كذّاباً محترفاً للكذب ، متمرّساً فيه .. وكان هو، يكذب على سبيل الإكراه ، أو المعاملة بالمثل ! فيكون قد ضحّى بقوّة معنوية ، يحترمها البشر، جميعاً .. ليكسب قوّة مادّية ، غيرَ مضمونٍ كسبُها ! وحتّى لو كسبها ، فقد خسر نفسه ، إذا كان من أصحاب القيَم المعنوية ، التي يعتزّ بها ، ويدعو الناس إلى الالتزام بها !
· الصراع بين القيم النبيلة ، وبين القوى المادّية ، المجرّدة من القيم النبيلة .. صراع قديم ! وهو مستمرّ ، إلى الأبد . والأمثلة كثيرة ، في سائر الديانات ، والتجارب البشرية .. على انتصار أصحاب القيم النبيلة العزلاء ، على أصحاب القوّة الغاشمة المتجبّرة ؛ برغم الانتصار الظاهري للقوى المادية ، على القيم النبيلة العزلاء ! فإذا اجتمعت القوّة المادّية ، مع القيمة النبيلة ، في دعم الحقّ .. فهو الانتصار الكريم ! وإذا افترقتا ، وانتصرت القوّة المادّية الغاشمة.. فقد حقّقت كل منهما ماتراه نصراً لها، وفقاً لطريقة تفكيرها ، وفهمها لسنن الحياة البشرية ! إذ لايرى المادّي من نتائج سلوكه ، إلاّ ماتحت قدميه .. بينما يرى الآخر ، نتائج أخرى ، في آفاق سامية ، مترامية الأبعاد ، لاحدود لها ! وهاهنا ، تكمن القيمة الحقيقية للفضيلة ، التي هي الطموح الأسمى للوجود البشري ، منذ خلق الإنسان ، إلى نهاية الحياة !