دور الإعلام في صناعة الهيمنة

وصياغة التبعية للغرب !

محمود ناجي زيد الكيلاني

[email protected]

في ظل الهجمة التصعيدية المسعورة على بلاد الإسلام وأهله عموما، وفي خضم الأحداث المتتالية والمتسارعة التي تعصف بالمنطقة العربية قلب الأمة على وجه الخصوص، والتي تقودها الولايات المتحدة الأميركية بنفسها أو من خلال مندوبيها من دول الجوار لعالمنا الكبير، أي ما توصف بـ "حروب الوكالة " كحرب إثيوبيا في الصومال على سبيل المثال .

يلعب الإعلام بشتى أقسامه " المرئي والمسموع والمكتوب " الدور الأهم في هذه المعركة، من خلال نقله للأحداث بمواصفات وتفصيلات تتوافق مع الوسائل المتاحة والغايات المطلوبة للطرف الأقوى " ماديا وتقنيا "في المعادلة، والذي يحاول جاهدا أن يظهر سياساته العسكرية الجائرة، وتهديداته الوصائية اللامنطقية، وتدخلاته الحظرية التأديبية؛ بمظهر " المحرر المضحي "من دافع المصلحة العالمية العامة.

ولن يقوم بإبراز هذه " المهمة الكاذبة " لستر عوار القائمين عليها، إلا تلك الآلة الدعائية "propaganda” الاحترافية؛ من خلال صبغها بـ "طلاء إنساني" يبرر سياساتهم تلك أمام الرأي العام العالمي، ويحشد التأييد لتدخلاتهم المستقبلية في دول ومناطق أخرى.

كما ويغرر الناظر المستهدف - بفتح الدال - بتوجيه ناظريه إلى الجانب الأخاذ مما يحملون، بخداع بصري مستلهم من الحملات الترويجية للسلع التجارية، وهو ما يتقنه بكل جدارة أرباب العلاقات العامة والإعلام في بلادهم.

وَتـَتِمُ هذه ِالعَمَليَة منْ خِلالِ أخـْذِ جُزْءٍ حَسَن ٍمِنْ كُلٍّ سَيِّء أوْ رَديء، ومِن ثـُمَّ التـَعْميْم بالجُزْءِ الحَسَنْ، الذيْ تُدَقِقُ عَينُ الكاميرا في إخْراجِه وتبْيان ِمَواطِن ِالجَمال ِفِيْه، مَعَ مَزجِهِ بمَجموعَة ٍمِنَ الشِعاراتِ الهُلاميَةِ البَراقة، التي تُضْفيْ على نفسِّيَة الزَبون ثِقَة ًبالمُنتَجْ و حُلما ًباقتنائِهِ، و لَوْ على المَدىْ البَعيْد.

وعلى ذا النحو يسيرون بـحملتهم التسييسية لترويج التبعية، وتبدأ باقتناصهم لبعض اللقطات وانتقائها بدقة متناهية، مع إجراء بعض التحسينات عليها، والتي تظهر مدى السعادة والحرية التي ينعمون بها، مع مناغمتها بمجموعة من الوعود والشعارات التي يتمناها ويحلم بها العنصر المستهدَف، فتصرف انتباهه عن الجوانب السيئة المخفية، وتثير فيه حماسة ترنو إلى التغيير، (قد) يشوبها في البداية لوثة من التوجس والشك الاحترازي، وهذا أمر طبيعي يدركه واضعي تلك الأسس والسياسات والبرامج، ويبررونه بأن صفة " العدو "ما زالت ملازمة لهذا العنصر، والتي تزول من خلال التدعيم المستمر بصور وأشكال أجمل، مع الاستناد إلى شهادات مؤيدة من أناس أجريت في حقولهم وعلى عقولهم بعض تلك التجارب " التحريرية ".

وبمجرد الوصول إلى مرحلة المقارنة بين ما عاين من "حرية ومظاهر فاتنة وأحلام قابلة للتحقيق" وبين ما عايش من " تكميم للأفواه والعقول ومظاهر محبطة ووأد للأحلام في مهدها " تتولد لديه حالة من الإحساس الباطن بالنقص والدونية والحاجة ليد ناشلة من براثن التخلف والرجعية، التي يحيا بها حسبما صوِّرَ له "دون أي شك كالذي كان يراوده سابقا "مع طغيان نكران الذات والنظرة السلبية في إسقاطاته على مجتمعه ومحيطه، تتحول مع طول التكرار والمتابعة بصور وشعارات جديدة إلى حالة من الهيام بالمستهدِف - بكسر الدال - ورؤيته، يتنازعها حالة من التمني لتطبيق مشروعه، لإغفاله الجوانب السوداوية في " الكُلٍّ السَيِّء " الذي لم يره ، جريرة تفنن مركب وشحن دعائي مستمر، فيصب جل اهتماماته بعد تشتيت فكره وتوجيهه لزاوية مبدعة في نقطتين:

أولاهما: محاولة المجاراة وإيجاد حالة من التطابق ولو شكليا من خلال الملبس والمأكل وصيغ التحدث.

ثانيهما: البحث عن الكيفية للتخلص من واقعه والوصول إلى من يقدم له تلك الحياة المرسومة بتفان وإتقان. وهاتان النقطتان هما المؤدى الطبيعي للامبالاة والاستسلام الطوعي أمام القادم أيَّا كان، ونستطيع أن نجملهما تحت مسمى " التبعية عن بعد " أو " الانتظار التبعي ".

وهو ما يسعى إليه أولئك "صناع الهيمنة "من خلال إعلامهم المنظم بنسق منقطع النظير؛لإدراكهم أنهم في معامع وجود، تحتاج منهم ابتداءً إلى تفكيك صور مختزنة بالذاكرة عن ماض كان عقبة كأداء أمام مشاريع إمبراطورياتهم السالفة، عبر عملية إنساء مركزة؛ لتكسير مفاهيم جلمودية متوارثة، ارتبطت بعزة غادرت مدارج أحفادها - لربما تعود إن أهملت - وإحلال أخرى جديدة عن هذا الواقع العربي الإسلامي، لطمس لغته المرتبطة بتأريخه و تمزيق ما تبقى من أوصاله، بإنزال أمثاله العليا من كينونات أفراده واستبدالها بأخرى غريبة، لا تقوِّم له عضدا ولا تقيْم له مجدا، معتمدين بذلك على النظرية الشهيرة "الإعلام نصف المعركة". وهي النظرية التي أتقنها كهنة السياسة في الغرب منذ زمن بعيد، وتفطن لها القليلون من الطرف الآخر المعني بتحمل الأعباء الإجرامية، والموسوم بالإرهاب في وقت متأخر.

فمن جهتهم مادام أنهم في ساحات حروب مترامية الأطراف قد عادت من جديد، يصعب التحكم بها وإدارة دفتها من خلال لغة التبجح بالقوة والتهديد بأعتى وأذكى الأسلحة فتكا، ومع خروج فئة مقاومة لمشاريعهم الإحتلالية لا تأبه بمعداتهم و ترساناتهم ولا تلقي لها بالا، فلابد من إبلاء هذه الآلة الإعلامية الدعائية صاحبة التأثير المباشر في تحطيم نفسية المتلقي العادي، صاحب السواد الأعظم والحاضنة الجماهيرية الأهمية الأولى بعيد الآلة العسكرية مباشرة أو حتى قبلها، ليسيرا في النهاية معا بخط متواز تكميلي، لتثبيت دعائمهم و تهيئة الأرض لزرعهم المر.

وقد نبأهم مبكرا بأهميتها الهيمنية مع بداية القرن الفائت مخترع المصباح الكهربائي " توماس أديسون " في زمن ندرة الوسيلة المرئية حين قال: "إن من يتمكن مستقبلا من السيطرة على شاشة الصور هذه مشيرا إلى الشكل الأولي للتلفاز فإنه سيتمكن من الهيمنة على العالم" وهذا مما يحضهم في زمان تواجدها بشكل كوني مفرط على هكذا تنافس لامتلاكها، ولنا أن نتصور من هذه النسب والأرقام مدى اهتمامهم الهستيري بهذه الآلة الإعلامية. فالولايات المتحدة الأمريكية تملك وحدها "عالميا " ما يربو عن: - 27% من محطات التلفزة. - 45 % من محطات البث الإذاعي. - 5% من الصحف اليومية. وبالمجموع تملك الدول المهيمنة على العالم بالإضافة إلى أمريكا، ما يزيد نسبته عن 9 % من مجمل وسائل الإعلام العالمية، أي حوالي " خمسين ألف محطة تلفزة " و " سبعين ألف محطة إذاعية ".

وتكون هذه الوسيلة الإعلامية ناجحة بالنسبة لصانعي الإعلام ككل، بقدر ما تستطيع استقطاب متابعين لبثها، وبذلك تتحقق أولى خطوات التبعية المهيئة للهيمنة بالنسبة لصناعها.

وهو ما يبذلون لأجله قصارى جهدهم من خلال الدعم المادي المهول، الذي وفر لهم الدراسات الفاحصة المتتبعة لنبض الشعوب المستهدَفة من البث وما يروق لها متابعته، بالإضافة إلى الكم الهائل من القنوات المرتبطة بالأقمار الاصطناعية، والناطقة بفحوى تفكيرهم على مختلف الألسنة المتآمرة معهم.

وقد قدم لهم ذلك الدعم عند الدخول في ماهية الإعداد الداخلي "الصحفيين المهرة "و "الزخم البرامجي الآسر للعقول والغرائز" و "التكنولوجيا الرقمية العجيبة" التي بإمكانها تغيير فحوى الصورة ومدلولاتها وقولبتها في الإطار الذي يريدون، لإدراجها في مضمون تنافري مغاير للحالة التي اقتنصت من واقعها، باستغفال محكم و دقيق للجمهور الذي ما زال يؤمن بأن " الصورة لا تكذب ".

فاستجمعوا أهم عناصر الإعلام التي تخدم سياستهم، من رسالة إعلامية مفبركة يخرجها محرر محترف في الصياغة واختيار العناوين والمصطلحات، التي تصبح من كثرة التكرار أنموذجا لغويا تألفه الأسماع وتردده الألسنة، وهي إحدى صور التبعية التي تثبت جدواها مع الزمن، إلى مرسِل متمكن لديه من الموهبة الشيء الكثير في تحوير الحقائق، والمقدرة على إدارة نفسه ومن يقابله بحنكة وثقافة عالية؛لاستدراجه بإقرار لبعض السياسات التي يفعلها ويتبناها الساسة المغدقون ماليا على الوسيلة الإعلامية، و بذلك ينال مرسِلهم الثقة والإعجاب لدى المشاهدين، وهو المنفذ الأول لدخول أدمغتهم، ليتم غسلها تدريجيا بمساحيق يبقى أثر أريجها عالقا بعقلية المتابع، مهما حاول غير أولئك المتآمرين إزالتها.

وهؤلاء الإعلاميون يستطيعون إيجادهم أو بالأحرى اقتناصهم من متابعاتهم الحثيثة للمواهب بفعل الإغراء المادي أيضا؛لأن رأسماليتهم قائمة من أساسها على ذلك ومسالة " التجارة الميكافيلية الرخيصة " ليست غريبة عن تفكيرهم وفلسفتهم، فهم يدركون ولو ضمنيا أهمية تلك القاعدة العريضة القائلة: "حتى تأخذ قيمة فلا بد وأن تعطي قيمة " والقيمة التي يريدون هي تغيير وجهة تفكير المناوئين لتوجهاتهم وأهداف " بروتوكولاتهم " والإبقاء على موالاة المؤيدين بنفس الدرجة مع زيادة تسلسلية مستمرة.

وقد امتلكوا عنصر الوسيلة الإعلامية من إذاعات وصحف ومجلات ورقية ومواقع على شبكة الإنترنت و شاشات بقنوات متعددة ناطقة بلغتهم لتضليل شعوبهم ورفع الروح المعنوية لمجنديهم وأدواتهم، بالإضافة إلى اللغات الأخرى التي لم تغب عن تصورهم، وهو ما يساعدهم في تهيئة عنصر المستقبـل بكسر الباء - لأخذ تلك الرسالة التي خطوا، دون تكلف أو عناء منه.

فعندما أوجدت الولايات المتحدة في منطقتنا العربية " قناة الحرة " بميزانيتها العالية، لم تكن فكرة عبثية كما يظن البعض من المتساهلين من شعوبنا ومثقفينا مع كل أسف في تناول الأمور واستدراك نتائجها التي تظهر مع مرور الزمن؛ بل كانت مدروسة بكل جوانبها، ابتداءً من اختيار اسمها الموافق لمسمى حربهم "حرب تحرير العراق" إلى برامجها الوثائقية المشوقة الداخلة في العمق السكاني كـ " حكايات مصرية " و " بالعراقي " و " حديث الخليج " و" مساواة "، واختراقها لـ (تابوهات) محرمة عربيا، ومقابلاتها الخارجة عن المألوف تقليديا، والتي تعنى شكليا بمسالة التحرر، بطرقها لأبواب مغلقة تعتبر من الممنوعات "الغيبية عقديا " و"العيبية شعبيا "، كطرحها لموضوعات مغلفة بأسماء براقة تعجب كثيرا من سفهاء بني جلدتنا، و تولى اهتماما منقطع النظير من قبلهم على شاكلة " الزواج المدني " و" الثقافة الجنسية " و" حرية الاعتقاد " و "التطبيع وآثاره الإيجابية على الاقتصاد والمجتمع " وذلك باستضافتها لبعض الوجوه الليبرالية المنبوذة من وقاحتها في شارعنا العربي المؤيدة والمدافعة عن ذلك، والتي تدعي المنطق باختراقاتها، مع إعطائهم مساحة من الحرية لا تجرؤ شاشاتنا المحلية إعطاءهم إياها، خوفا من الردات الشعبية كالبرنامج الذي يقدمه جوزيف عيساوي " قريب جدا " والذي يحتفي بكل عنصر ناشز فكريا أو شاذ فسيولوجيا، إلى مراسلين متواجدين في كل زاوية من أقطارنا، يبحثون عن خبر يحمل صفة العاجل أو المستغرب لشد المشاهد، كما فعلت جميع الحركات والدول المستعمِرة "المغتصبة" في شتى بقاع مغتصباتها منذ نشأتها.

وهو ما قامت به تلك الدولة العبرية المزعومة على أرض فلسطين، بتخصيص وقت من إذاعتها للمتابع العربي في زمن ندرة الوسيلة المرئية في بيوتنا، وقد أكملته لاحقا بعقود عندما أدخلنا الشاشة الماسية لغرف معيشتنا، فخصصت بقناتها الأولى فترة إخبارية عربية ببث قوي يصل معظم أنحاء بلاد الشام و أجزاء من مصر، في وقت ذروة المتابعة، حتى حفظت أسماء مراسليهم ومقدمي نشرات الأخبار في بعض الأحيان عن ظهر قلب، من طيب المتابعة لبرامجها العربية فقط ! وقد كان الخبث يعرو رسائلهم الإخبارية، من خلال الكشف المتعمد لبعض الأمور من هنا وهناك، ليكسبوا صدقية لدى المشاهد الشامي والمصري، وهو ما قد حصل فعلا؛ لعدم وجود المنافس الإعلامي القوي.

فقنواتنا المحلية كانت وما زالت حتى بعد أفول نجمها وإقلاع المشاهدين عن متابعتها، لا تحسن إلا المدح والقدح والنشيد الوطني والمسلسلات البدوية والنشرات الجوية، ويكفي مفكري الصهاينة بتلك الفترة نقل الخبر بسند قناة " إسرائيل "، حتى أصبحت لفظة ممزوجة باللاواعي العربي، يعاب على من يصفها بالمزعومة! كما كانت تمرر الكثير من الرسائل المبطنة بالتهديد، لمن يحاول المساس بهيبتها، كعرضها لأحدث الوسائل الاستخبارية والقطع الحربية والتدريبات والمناورات العسكرية لمجنديها، حتى رسخت في عقلية الحاكم والمحكوم العربي أسطورة " الجيش الذي لا يقهر " وثبتت أن إنهاء هذه الدولة ضرب من الخبل أو الخيال، فأورثتنا الانهزامية تابعا عن تابع! ولم يعد لنا إلا أن نعد السنين التي تفصلنا عن "يوم النكبة "و "يوم النكسة " لنحتفي بـ" يوم الأرض " ونقيم المهرجانات و البازارات لذكريات "حروب " لا تستحق من هذا الاسم شيئا.

والأدهى من ذلك كله أنها قد أوصلتنا عبر تقاريرها المنشورة في صحفها، والمنقولة بترجمة حرفية بكل حيادية وغباء لجميع وسائل إعلامنا، إلى مرحلة بتنا نخاف أن تهاجمنا تلك الجرثومة في بلادنا وتضعنا تحت نير احتلالها كما هو حاصل بفلسطين و هضبة الجولان السورية.

فسطرت هيمنتها بحرب نفسية كان محلها عقولنا الهرئه والمحتلة فكريا، من خلال طلقات تحذيرية يتقنون حشوها بمادة ترهيبية، تعتمد على ضخ تضخيمي عبر وسائل إعلامية نشطة، لعبت الدور على أكمل وجه، فأصابت الصميم للجماهير العربية المستهدَفة.

وما هيئة الإذاعة البريطانية " BBC" عن هذا ببعيد، وهي الصوت الإعلامي المخزن بالذاكرة بدقات" بغ بن "، بنشراتها التشويقية و تقاريرها الغريبة المنتقاة بدقة، والتي يعتقد العديد من المراقبين على مر العقود، أن لهذه الإذاعة اليد الطولى في " تكريس هزائمنا وانتكاستنا تلك " و "إذكاء الصراعات و التوترات بيننا " لقلة التمحيص والخبرة عند تقبل الخبر، وتلهف شعوبنا لمتابعتها والاستشهاد بها؛ لبراعتها المشهودة في صنع خلطة " السم والدسم ".

وهي التي دأبت على البث عبر موجاتها باللغة العربية منذ 6 عاما، كما أن اغلب إنتاج نشراتها يصدر من القاهرة بدلا من مقرها الرئيس لندن، لتنقل من قلب الحدث " الشرقي " و تكون بذلك السباقة في تناول الخبر وتحليله. وقد أكملتها بقناتها المتلفزة باللغة العربية، لتجمع بين التقرير الأكثر إثارة و الكلمة المسمومة بالإضافة إلى الصورة المنتقاة في آن معا، لتضيف إلى التكريس الانهزامي تقبلا شعبيا.

فالتنافس على استقطاب المشاهد العربي على وجه التحديد تنافس محموم على أشده، ولن يقف عند حد العبرانيين والأنجلو أمريكيين، فعما قريب ستخرج لنا القناة الألمانية بنسختها العربية، كما تعتزم المفوضية الأوروبية إخراج قناة"EURONEWS" بنفس النسخة، كما خرجت الفرنسية "FRANCE24"ببث جزئي وبميزانية تقدر بـ 8 مليون دولار، والروسية " روسيا اليوم " ببث شبه كلي وبلغت موازنتها عند انطلاقتها 35 مليون دولار. مما يدلل على أهمية منطقتنا بالنسبة لهم، من شتى النواحي العقدية والثرواتية، وعلى أن الإعلام يحتل المكانة الأكبر في هذا الصراع، و هو بمثابة حجر الأساس في بنائهم القادم على مسارح ساحاتنا، والأداة الأمثل لتطويع هذه الشعوب وتدجينها.

ولكن يقف في وجوههم جميعا العنصر الإعلامي الأهم، ألا وهو الاستجابة والتفاعل من قبل الشعوب المستهدَفة، إن كان ثمة من يحسن إدارة دفتها من بني جلدتنا وعقيدتنا.

وهي المسالة التي باتت على " نحو ما " تتفلت من عقالهم، بالنظر إلى وسائل إعلام غير مملوكة لهم، وتريد بشتى السبل الإيقاع بهم وإبانة زيفهم، وعلى رأسهن شبكة الجزيرة، والتي لا نستطيع أن نذكر موضوع الإعلام إلا ونذكرها، لتفردها باستجماع عناصر الإعلام عربيا ومنافستها عالميا بشهاداتهم هم - مع بعض التحفظات التي لا تمنعنا من الإشادة ببعض مما قدمت لمشاهدنا العربي - ولكن ومع كل هذا يبقى خطر تلك القنوات العالمية الأخرى قائم يتهددنا، لاختلاف مسالة التفكير وتباين وجهات النظر إلى الأمور من شخص لآخر في المجتمع الواحد، ناهيك عن اختلاف الثقافات والعادات والأيدلوجيات، التي تفسر الصورة الأقرب لتفكير حامليها، وانحياز البعض منا لمآربه الشخصية.

وهنا لابد وان نشير إلى أننا لو استطعنا أن ندير وجهة المشاهد، ونوحد رؤيته " اختياريا " في متابعة شاشة عربية أو إسلامية، بفضل ما تقدم من برامج قيمة ومعلومة فريدة، فسوف نصطدم بأمر لا يقل صعوبة في تحقيق ذلك؛ بل ولربما يتعداه في الدرجة والأهمية، فنحن ومع كل أسف أسارى مصادرهم " الأوروبية والأمريكية " وان ما يزيد عن 85 % مما ننقل من أخبار يتم من خلال وكالاتهم الخمس: - وكالة رويترز البريطانية reuters. - وكالة الأنباء الفرنسية “A.F.P” - وكالة الأنباء الألمانية “D P A “ - وكالة يونايتد برس أنترناشونال الأمريكية “ U.P.A” - وكالة أسوشيتد برس الأمريكية “ A.P “ و هذه الوكالات تقوم يوميا بتوزيع ما يقارب "أربعين مليون كلمة "على مختلف الوسائل الإعلامية العالمية، أما مجموع ما يقدمه ما يسمونه بـ "الشرق الأوسط " فلا يزيد عن " ثلاثمائة ألف كلمة " بنسبة لا تتجاوز1.3%. ومن السذاجة أن نتوقع بأن هذه الوكالات " الأوروبية والأمريكية " تنقل لنا الأنباء بمحايدة تامة، دون تحريف بزيادة أو نقصان- ولو ادعت ذلك- فهي تتبع إلى سياسات دول وإمبراطوريات ورؤوس أموال خاصة لها غاياتها، التي تصب في مصلحة المهيمنين بالنهاية، ومن أشهر رؤوس الأموال تلك " الملياردير الأسترالي روبرت ماردوخ " والمعروف عالميا بـ "إمبراطور الإعلام " وهو " يميني محافظ " يمتلك مجموعة "بي أس كي و آ ي بي " البريطانية التابعة لمجموعة " نيو كوربس" التي يديرها ابنه "جيمس ماردوخ" ومن ممتلكاته أيضا صحيفة "The Sun " ويعتبر من ألد الأعداء لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC" لانتهاجها نبرة صوت تميل إلى اليسار كثيرا كما يدعي، لاسيما خلال تغطيتها الإعلامية العدائية لمشاركة بريطانيا في الحرب الأمريكية على العراق.

والمضحك المبكي أننا نشتري هيمنتنا بأموالنا، بدفعنا قيمة هذه الأخبار المقننة لتلك الوكالات في حال النقل عنها، ناهيك عن مساعدة بعضنا الذاتية في تكريس الهيمنة الخارجية داخليا، فكل وسيلة من وسائلنا الإعلامية محكومة بالإتباع لأجندة خاصة وخطوط حمراء نابعة من رأي السلطة الحاكمة لها، أو رأي المسؤول عنها أو صاحب رأس المال في تغطية نفقاتها، ومصيبة المصائب في الكم الهائل من الشاشات الفضائية التابعة مجازا- لأمتنا، والتي من أساسياتها "الربح للربح " دون النظر إلى الرسالة والهوية، وهي من الأبواق المساعدة في صياغة التبعية و الانبطاحية، بشكل تستمرئه الشعوب، بصرفهم عن متابعة قضيتهم الأولى، من خلال التركيز على دغدغة الغرائز أو البحث في أمور مكررة كـ" مواضيع الجن والشعوذة والسحر" وهذا دون أن نسهب بالتفصيل عن دور ما يسمى بـ"الفن والفنانين" في ترويج الهيمنة واستساغتها و صناعة الغزو الفكري، وخصوصا ما يسمونه بالفن السابع " السينما " و التي نعتقد جازمين أن الأيادي الخارجية تعبث فيها وتمولها ولو من خلف "الكواليس" لما نرى فيه من إسفاف وابتذال وتجرأ على القيم والحرمات وخدش للحياء وتمرير لكثير من السياسات الغربية الخارجية والداخلية الغريبة.

وختاما فإن المهمة الملقاة على عاتق من فهموا ما تعني الصورة والكلمة والخبر، من إعلاميين متخصصين وكتاب مخلصين ورجال أعمال مؤمنين بقضية أمتهم كبيرة بحجم الخطر، وهو ما يحتاج منهم جهودا جبارة في ظل حمى المنافسة بين وسائل الإعلام على استقطاب جمهورنا و تسييسه، من خلال إيجاد إعلام قوي مضاد يهتم بالقيم و يتقن إدارة الأزمات، ويدحض الصورة المزيفة بصورة حقيقية محايدة يحكيها الواقع، لفضح مخططات الأعداء ومن يسير في ركابهم، من خلال برامج تثقيفية تشويقية مميزة تحاكي عقيدته ومشاعره وأحاسيسه، لتجعله مشدودا مشدوها بالمادة المقدمة، لنبني من مضمونها جيلا واعدا مؤمنا برسالته، مدافعا عن قضيته، يعلم ما يحاك له من قبل أعدائه، ولا يأبه بعواصفهم مهما اشتدت، بلا نظرة سلبية تثبيطية أو تكرار ممجوج يسقط قيمة المتابعة من أعين الجماهير، أو تكلف ظاهر في استعمال الأوصاف والألفاظ، أو تقليد أعمى يفقدنا هويتنا، كاستنساخ برامج شبيهة بما تبث القنوات الساقطة، بدعوى أن الجمهور يريد ذلك، كي نزرع الثقة في نفس المتلقي، وحتى يخرج بالنهاية بمعلومة راسخة مغايرة لما يحاول الإعلام الغربي وأذنابه تأكيده وتثبيته في عقليته؛لأن المشاهد غير المتخصص عموما مصاب بالأمية والعمى يحكمه التصديق لكل ما هو جديد لم يعلمه من قبل، وعدونا ليس كمثلنا تحكمه المبادئ والعقائد، فمن أهم صفاته الكذب، يعتمد في ترويجه على مقولة عراب الإعلام النازي جوبلز (اكذب..اكذب..حتى يصدقك الناس)، فلا يهمهم "متى" فأنفاسهم طويلة يورثونها بخطط مئوية للأجيال القادمة، ولا يعنيهم " كيف " فوسائلهم متعددة و مستأجريهم كثر، ولكن ما يهمهم بالنهاية أن نصدق، وعلى أقله أن ينتابنا بعض الشك وهو أولى خطوات تجلي التبعية المهيئة لبسط الهيمنة المهينة.