النخبة

د. خالد احمد الشنتوت

النخبة

إعـداد الدكتور  خالد احمد الشنتوت

مصطلح فرنســي من أصل لاتيني يشتمل معناه الحرفي على عدة مفاهيم منها :

1- الأقلية المنتقاة  .

2- أفضل جزء في الشيء .

3- الطبقة العليا .

 استعمل في القرن السابع عشر لوصف سلع ذات مزايا معينة وفيما بعد للإشارة إلى فئات متميزة كالنبلاء والعسكريين ، المصطلح لغوياً اسم جمع يطلق على من يشغلون مراكز عليا في المجتمع لما يتفوقون به على غيرهم من صفات حقيقية أو مزعومة .

ونظراً لاستخدامه خلال قرون طويلة وفي أطر وبيئات حضارية وثقافية مختلفة فقد اتسم الحوار السياسي حوله ببعض التشويش وعدم الوضوح ، تمثل ذلك في الاستعانة بمصطلحات متباينة لتدل على معنى النخبة ، وأحياناً أخرى استخدم مصطلح النخبة نفسه في أكثر من معنى كما يلاحظ مثلاً في كتابات موسكا وباريتو وماركس وميشيل وأنصار التعددية ، وتبدو أهمية التفرقة بين كل من الألفاظ والمعاني في أن المصطلحات ليست مترادفة وإنما لكل منها معنى محدد يختلف عن الآخر ، من أمثلة ذلك : الطبقة الحاكمة ، الأرستقراطية، الألويغاركية ، الطبقة السياسية .

يستخدم المصطلح على مستويين :

1- أولهما للتمييز بين النخبة في مجتمع ما وبين الجماعات الأخرى التي لا تتميز بالصفات نفسها .

2-وثانيهما بتصنيف الشرائح المختلفة داخل النخبة نفسها إلى نخبة حاكمة وأخرى غير حاكمة ، تتوخى النخبة الحاكمة عادة جانب الحذر في انتقاء العناصر الموهوبة الصاعدة تفادياً لظهور معارضة قوية ، وأحياناً تختار كل العناصر من بين صفوفها لإعدادها للمشاركة في السلطة ثم للحلول محلها فيما بعد ، وتزعم المذاهب العنصرية والطبقية أن مثل تلك القدرات الفردية العالية وراثية .

أسهم في معالجة الفكـرة الفقيـه وعالـم السـياسة الإيطالي موسكا   (1858-1941) الذي لم يستعمل مصطلح النخبة ، واعتبر كل الحكومات بغض النظر عن تركيبها خاضعة لسيطرة أقلية ما بحكم المولد أو الثروة أو المهارة أو أداء الوظائف التقليدية ، واستخلاصاً من دراساته التاريخية المقارنة للمؤسسات السياسية ، أكد أن الأغلبية لم تحكم أبداً وإنما كانت خاضعة دائماً للأقلية ، ونبه إلى أن أحسن أنماطها هي الأقلية المفتوحة التي تجدد نفسها ، لكن مصطلح النخبة لم يستخدم على نطاق واسع في الكتابات السياسية والاجتماعية إلا بعد عام 1930 وذلك عبر نظرية النخبة لعالم الاقتصاد والاجتماع الإيطالي باريتو (1848-1923) .

بـرر باريتو نقده للحكومات الديمقراطية النيابية بأنها تعتمد في الواقع على القوة ، وحتى إذا طبقت مبدأ الاقتراع العام فإن أقلية مستبدة تتولى الحكم وتخفي أفعالها بادعاء تمثيل إرادة الشعب .

اعتبر باريتو التاريخ المقبرة للطبقات الأرستقراطية ، ووضع نظرية جديدة للتطور الحلقي للتاريخ أسماها دورات النخبة بمعنى :

وجود حركة صعودية لأفراد متفوقين من طبقات دنيا ليصبحوا أعضاء في النخبة .

حركة النخبة ككل سواء في اتجاهها لاحتلال مواقع السيطرة الاجتماعية أو عند طردها منها ، الخلاصة ، فهم موسكا وباريتو النخبة كأقلية متميزة تمارس السلطة السياسية مباشرة أو تؤثر بقوة ولو سراً في ممارستها .

يعتري هذه الأقلية من آن لآخر تغيير في تركيبها يؤدي إلى تكريس أفراد جدد من طبقات دنيا ، أو دمج فئات اجتماعية بها ، أو الاستعاضة عنها تماماً بتعيين نخبة مضادة كما في الثورات .

 النخبويــــة

 

تفترض هذه النخبات سيطرتها بوساطة ما لديها من موارد كبيرة للثروة أو بتسخير القوة العسكرية أو السلطة البيروقراطية أو المؤثرات الدينية ، ويعزو (باريتو) نجاح النخبوية إلى صفات معينة تستغلها في إحكام قبضتها كالتأثير النفسي أو المكر والخديعة أو القوة والحسم .

على الصعيد الأيديولوجي وجهت النخبوية نقداً شديداً إلى المفاهيم الليبرالية عن التعددية وحكم الأغلبية وكذلك إلى المفهوم الماركسي لصراع الطبقات ، ثم حاولت أن تستبدل بهذه المفاهيم مفهومها هي عن الصراعات متعددة الصور التي تكون النخبات طرفاً فيها .

نظر النخبويون إلى حكم الأغلبية كأسطورة تخفي السيطرة الحقيقية لنواة داخلية قوية من زعماء حزب ما يتلاعبون ببراعة بالضمانات والكوابح التي يوفرها النظام النيابي ، ويستخدم هؤلاء سلاح الأيديولوجية لترسيخ سلطانهم لما لها من دور في توحيد صفوف النخبة من جانب ، وتزويد النظام بالشرعية أمام الجماهير من جانب آخر ، ويقلل كثير من الناقدين للتعددية من أهمية تنافس عدة جماعات أو نخبات على النفوذ ويعتبرونه مظهراً ديمقراطياً شكلياً نظراً لأن هذه النخبات تخضع في واقع الأمر لزعماء لا يستجيبون كثيراً لأعضاء النخبة ، لهذا يطلق الناقدون على الديمقراطية التعددية اسم النخبوية الديمقراطية لكشف التراجع الكبير الذي طرأ على النمط السابق للديمقراطية بالمشاركة . ، هكذا تحولت الديمقراطية إلى ما يشبه المنحة ولم تعد حقاً ، أي أن بقاءها في رأيهم صار متوقفاً على مدى التزام النخبات بها وليس على التزام جمهرة المواطنين الذين تقلص دورهم ونشاطهم كثيراً بفعل هذه التطورات .

وينظر إلى كتاب جوزيف شومبيتر : الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية الصادر عام 1942 على أنه المصدر الأكبر للنظريات النخبوية الديمقراطية .

وكما تعاطف بعض النخبويين الأوائل وخاصة ميشيل وباريتو مع الفاشية لإيمانهم باستحالة تطبيق الديمقراطية الحقيقية في ظل حكم النخبة ، فقد وجهوا النقد أيضاً إلى الماركسية ، بل إن الجانب الأكبر من إسهاماتهم لم يكن إلا محاولات لطرح بدائل للمفهوم الماركسي القائل بأن القضاء على الطبقة البرجوازية الحاكمة كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية بين البشر ، خلافاً لذلك ذهبت النخبوية إلى أن انقسام المجتمع إلى أغلبية محكومة وأقلية حاكمة يرجع إلى تفاوت القدرات والمهارات بين الأفراد وليس لاستنثار الأقلية بقوى الإنتاج كما يقول ماركس .. ورغم اتفاقهم معه على أن المجتمعات السابقة كانت محكومة بأقليات ، فقد أرجع النخبويون قوتها إلى مصادر متعددة ليست بالضرورة امتلاكها لوسائل الإنتاج الرئيسية ، كما أكدوا أن أي مجتمع مستقبلي سيكون خاضعاً أيضاً لحكم الأقلية ، وأن تطبيق المساواة مستحيل حتى في المجتمع اللاطبقي .

أثر مدخل النخبة تأثيراً كبيراً في علم السياسية عموماً وفي الفكر السياسي المعاصر على وجه الخصوص ، كما أصبحت النخبات ذات التأثير السياسي (مثل رجال الأعمال ، وكبار القادة العسكريين ، والتكنوقراط ، وزعماء النقابات ، والزعماء الروحيين) محور دراسات متخصصة تهتم بخلفياتهم الاجتماعية والتعليمية وانتماءاتهم السياسية والدينية ، وباستقصاء احتمالات تأثير تلك المعطيات في صنع السياسة العامة ، أولت دراسات هذا المدخل أيضاً جهداً كبيراً لتحليل كل ما يتعلق بالشخصيات القيادية المؤثرة في انتقاء وتجنيد الأعضاء الجدد في تلك النخبات القوية ، وتم ابتكار مصطلح جديد لهم يتناسب مع خطورة الدور الذي يقومون به ، فبدلاً من المصطلح المتعارف عليه للهيئة الناخبة أطلق عليهم اسم جماعة الانتقاء أو هيئة الاختيار ، برزت كذلك أهمية دراسة العلاقات المتبادلة بين أفراد النخبة الواحدة ، وبين هذه النخبة والنخبات الأخرى في المجتمع ، ثم علاقات كل هؤلاء بالجماهير الشعبية .

 مراحل النمو الاقتصادي وحكام النخبة

عرض "وولتر رستو" أستاذ التاريخ الاقتصادي نظريته عن أطوار ومراحل النمو الاقتصادي ، وذلك في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات ، وقد لاقت من أجهزة الإعلام ومن الإدارة الأمريكية اهتماماً دون غيرها من النظريات ، حتى عقدت ندوة دولية لمناقشته في هذه النظرية .. التي أعدت للقضاء على الفكر الديني والفكر الشيوعي وسحب البساط من تحت أقدام الماركسيين ، ذلك أن كارل ماركس يقسم العوامل الاقتصادية في التاريخ إلى ست مراحل هي :

مرحلة البداية ـــ العصر العبودي  ــ: العصر الإقطاعي ــ العصر البرجوازي : ــ العصر الرأسمالي : ـــ مرحلة الشيوعية العالمية : وفيها تحكم طبقة العمال وتختفي الحكومات ، ويتحول العالم في نظر ماركس إلى أسرة عالمية واحدة ، وتنتهي جميع صور التناقض .

ججاء رستو بنظرية مضادة ، هي مراحل النمو الاقتصادي ، وقد قسمها إلى خمس مراحل هي :

1-مرحلة المجتمع التقليدي .

2-مرحلة ما قبل الإقلاع أو الانطلاق .

     3- مرحلة الانطـلاق .

     4- مرحلة النضوج .

4-مرحلة الاستهلاك الجماهيري .

ولتوفير شروط الانطلاق ، يقسم رستو الدول إلى مجموعتين :

المجموعة الأولى : هي مجموعة الدول النامية أو المتخلفة  ، وفيها تظهر المشكلة السكانية ، وتتمثل في انخفاض حاد في الوفيات وزيادة في المواليد ، وهي مرحلة طويلة وشاقة ، ويرى رستو أن أكثر الدول النامية لا تزال في هذه المرحلة .

المجموعة الثانية : هي مجموعة الدول الغنية بمواردها الطبيعية حيث تنخفض فيها كثافة السكان ويكون معظم السكان من أصل أوروبي.

ويرى رستو أن يلزم ظهور حافز جاد في هذه المرحلة ، والذي يمكن أن يكون ثورة سياسية ، تغير ميزان القوى الداخلي ، وتحدث تغييرات في القيم الاجتماعية ، وفي طبيعة المؤسسات الاقتصادية .

وقد لوحظ أنه بهذه النظرية ظهرت عدة انقلابات عسكرية في الدول النامية ، كلها ترفع شعار الاشتراكية المحلية ، وتتغنى بمرحلة الانطلاق ، حتى سميت في مصر بمرحلة الانطلاق العظيم ، وصدرت في ذلك عدة كتب ونشرات ،و لكن رستو يحاول أن يخفي هدفه من نظريته ، وهو سحب البساط من تحت أرجل الماركسيين ، وتحطيم القوى الأخرى في المجتمعات النامية عن طريق تغيير ميزان القوى وإحداث تغييرات في القيم الاجتماعية .

يحاول أن يخفي هذا الهدف بإشراك عوامل أخرى للتغيير في هذه المرحلة بخلاف الثورة السياسية ، وذلك في شكل ابتكارات تكنولوجية ، أو في شكل إحداث تطورات إيجابية في هذه الدولة ، كفتح أسواق جديدة للصادرات ، أو تطورات سلبية كالاستياء من شروط التبادل التجاري .

ويضيف رستو شرطاً ضرورياً آخر لهذه المرحلة ، وهو أن تكون هناك صفوة أو فئة يسميهم المنظمين ، ويتساءل من أين سيأتي بهؤلاء ؟ ثم يجيب بأن ذلك يشمل أكثر الحركات الإصلاحية والدينية أو الثقافية ، كدور اليهود في كثير من الدول ، وبالطبع تكون الحركات العسكرية هي صاحبة الدور الرئيسي .

 دور الحزب الشيوعي المصري :

لقد استخدم جمال عبد الناصر ، الحزب الشيوعي المصري (حدتو) في هذه المرحلة ، وأبرم معهم اتفاقاً وقعه خمسون من قياداتهم ، تضمن أن يكفل لهم حرية العمل على نشر مذهبهم ، مقابل مساندة النظام واعتبارهم جزءاً منه ، وذلك طبقاً للشروط التالية :

أن يكون جمال عبد الناصر هو رمز الكفاح وليس لينين .

أن تكون مصر هي الأم وليست موسكو .

أن يحل حزب حدتو نفسه ، ويندمج في الاتحاد الاشتراكي ، ويعمل من خلاله بصورة علنية .

أن يتم القضاء على الخلايا السرية وتصبح جزءاً من أجهزة الاتحاد الاشتراكي .

أن يتم الإفراج عن المعتقلين والمسجونين من الشيوعيين ، وتسند إليهم أدوار هامة في الإعلام وغيره من أجهزة الدولة ، وأن يتم تعويضهم مادياً عن فترة السجن .

والجدير بالذكر أن جريدة الأهرام قد نشرت في الصفحة الأولى في أول أبريل 1965 أن الحزب الشيوعي المصري قد حل نفسه ، وذلك ليعمل من خلال القنوات الشرعية وهي الاتحاد الاشتراكي ، ولأنه لأول مرة في العالم يقوم حزب شيوعي بحل نفسه .

هذا وقد تخوف بعض قادة هذا الحزب من عدم تمكينهم من صياغة الشعب المصري ، في القالب الذي تقبله روسيا ، لأن بعض هذه الشروط تعد خيانة لمبادئ لينين وهذه المخاوف قد ترجمها (غالي شكري) في كتابه "الأرشيف السري للثقافة المصري" والذي نشرته دار الطليعة ببيروت في مايو 1975م .

فقد ذكر ما نصه : (خرج اليساريون من السجون في أبريل ومايو سنة 1964 ، وبدأ الكتّاب منهم يعودون إلى صحفهم ، ومن لم يكن منهم مقيداً في إحدى الصحف راح يبحث عن عمل ، والدكتور عبد القادر حاتم وزير الثقافة يستقبلهم بناء على التعليمات بالترحاب الشديد ، ويفتح لهم قلبه مشيراً إلى مؤلفات ماركس وإنجليز ولينين) [ ص/87 ] .

ويعلق الكاتب على ذلك بقوله : ( إن قرار الانفتاح على اليسار ( علوي أي من فوق ) ، وقنوات التنفيذ مسدودة ، حيث كانت مجلة الرسالة تنشر مقالات للمحقق اللغوي محمود شاكر يرد فيها على سلسلة مقالات الدكتور لويس عوض في الأهرام .

فاستخدم محمود شاكر معاجم الاتهام بالشعوبية ، ومعاداة الإسلام ، وتحولت الرسالة إلى ما يشبه جريدة الدعوة ، التي كان يصدرها الإخوان المسلمون قبل حلهم - ، إلى ما يشبه المنشورات الداعية إلى قلب نظام الحكم وراح الشيخ محمد الغزالي يخطب في المساجد ضد صلاح جاهين ، الذي كان متحمساً لعلمنة الأزهر ، وتطوير قانون الأحوال الشخصية ، وفي هذا المناخ وبالضبط سنة 1965 قامت المنظمات الشيوعية بحل نفسها ، وكان الأمر فيما يبدو فوق السطح مزيداً من الالتفاف حول قيادة عبد الناصر ، لتوحيد الجهد والإسراع في طريق التحول السلمي نحو الاشتراكية ، ولكن تحت السطح كان اليمين المتطرف يجمع صفوفه ، وينظم تشكيلاته ، ويستعد لوثبة مسلحة ضد اليسار والنظام ، وحين أسفرت الفتنة عن وجهها المسلح تصدت لها أجهزة الأمن بالسجون والمعتقلات والمشانق واكتفى الرئيس عبد الناصر بإهداء وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى إلى الدكتور لويس عوض ، واكتفى شعراوي جمعة بأن يكون أول عمل له في الداخلية سنة 1966 هو القبض على جيلين من مثقفي اليسار ، وحين دخلتُ  [ المتحدث هو الدكتور توفيق الواعي ] معتقل طرة في التاسع من أكتوبر وجدت معي أحمد فوزي وأحمد فرج وسيد خميس وجمال الغيطاني ، وغيرهم من عشرات الشيوخ والكهول والشباب اليساري ، وكانوا قد أفرجوا عن لطفي الخولي ومحمد الخفيف ، وإبراهيم سعد الدين وأمين عز الدين بعد يوم أو يومين من اعتقالهم ، وبقي بعضنا سبعين يوماً بين طرة والقلعة ، وبقي البعض الآخر حتى الهزيمة ( هزيمة 1967م ) ، في المعتقلات والسجون . ...