أزالوا صلاح الدين .. يا حُزنك يا رفح
أزالوا صلاح الدين .. يا حُزنك يا رفح ؟!
أ.د. حلمي محمد القاعود
- لماذا طاوعتني نفسي ، وذهبت إلى رفح ( المصرية ) ؟
كنت في العريش أحضر مؤتمراً علميّاً . قال بعض الزملاء هيا نذهب إلى رفح . المسافة قصيرة بين أربعين وخمسين كيلو متراً ، لن ترهقني كثيراً ، معرفة الوطن واجبة ، وخاصة لمن عاشوا هزيمة 1967 وعبور رمضان 1973م أمثالي ، كان الحلم يومها أن تتحرر سيناء ، وتخضر بالأمل والزرع والبشر . وقد مضت ثلاثون عاماً على " الصلح الأسود " بين مصر والعدوّ النازي اليهودي ، ازداد العدو قوة وتوحشا ولم يتحقق السلام ، ولم يشعر العرب بالأمان ، ولم ينج من قذائف الطيران والمدفعية والدبابات اليهودية النازية فلسطيني أو لبناني أو سوداني – فإما مات شهيدا ، أو صار جريحا ، أو عانى الرعب والنزوح ودمار البيوت والحصار والموت من الحصار ..
طاوعتني نفسي ، وركبت إلى هناك وهبطت في موقف السيارات مجهداً مكدوداً . البؤس سيّد المناخ . الشوارع أو الشارع الرئيسي الوحيد خرجت أحشاؤه وأعيدت . لماذا ؟ لا أعرف . خزانات الصرف الصحي متفجرة . رائحة " العطر ! " الفواح تزكم الأنوف وتغشى العيون . المدينة / القرية شبه خالية إلا من رجال الأمن الذين يتصدرون مداخل الحارات شاهري السلاح – في اتجاه من ؟ لا أدرى .. العدوّ النازي اليهودي ترك آثاره واضحة وزاعقة على العمائر والمباني التي تعلو في رفح ( الفلسطينية ) ويشاهدها السائر في رفح ( المصرية ) . في موقف السيارات قيل لنا : إن بوابة صلاح الدين أمامنا . سألت : أين هي البوابة ؟ قالوا : في مواجهتنا مباشرة ، خلف الجرافة نهض سدّ عال بني من الحجارة الجهمة الميتة ، لم يستطع أن يحجب الدمار الذي أصاب البيوت الفلسطينية من ورائه . ويقبع فوق السد جندي مراقبة حين رآني أمام الأسلاك الشائكة هتف بى في صوت عال : ممنوع يا أفندي .. تذكرت لأول مرة في رفح أنى " أفندي " وأنى مع زملائي " أفندية " والأفندية كانوا تحت العين الراصدة التي رأت فينا كائناً غريباً ، ما كان له أن يخطو فوق هذه البقعة البائسة !
بوابة صلاح الدين ذهبت . رحلت تماما لصالح السد الحجارة العالي . صلاح الدين رمز العزة والنصر في حروبه ضد الغزاة الصليبيين المتوحشين الذين احتلوا فلسطين والقدس والشام ، سبعين عاماً ، واستوطنوا وغيّروا ملامح البشر والحجر ، ورحلوا بفضل الله وذهبوا إلى الأبد ، وتحرّرت القدس ، وانكسر الغزاة الهمج في حطين . بوابة صلاح الدين تنسب للخليفة العادل الزاهد الشجاع الذي لقبّ بالملك المنصور السلطان يوسف صلاح الدين بن نجم الدين أيوب بن شادي ، ولد بمدينة تكريت سنة 522هـ ، 1128م ، وتوفى سنة 589هـ ، 1193 ، ودفن بدمشق الفيحاء بعد انتصاره التاريخي على الهمج الهامج واستعادته كرامة الأمة وعزة الإسلام .
بوابة صلاح الدين بداية الطريق إلى حطين ونصرها المؤزر وعبق التاريخ وشرف الجغرافيا .. هل تعجز مصر الكبيرة عن حمايتها رمزاً ودلالة وتاريخا وجغرافيا ؟
صلاح الدين درّة التاريخ الإسلامي ونخوة الجهاد الخالص ، ونشوة النصر المعطر بدماء الشهداء والأبطال والأحرار .. كيف يمحى أثره على الشارع الفاصل بين رفح الغرب ورفح الشرق ؟ أياً كانت الأسباب فإزالة بوابته إزالة لصلاح الدين نفسه ، وإهانة لتاريخه ، بل لتاريخ الأمة وحق الأجيال في المستقبل ، كي تتأسى بصلاح الدين وتقتدي بجهاده وانتصاره وتعلن عزة الإسلام .
كان صوت جندي المراقبة يرن في أذني ، لما يزل ، فانسحبت بعكازي ، وأويت إلى محل للأعشاب ، كان المحل الوحيد المفتوح في الحارة المؤدية لبوابة صلاح الدين ، باستثناء بعض المحلات في أول الحارة من ناحية الشارع الرئيسي . قال الفتى الذي يبيع الأعشاب إنه من أصل شرقاوي ، وراح يعرض بضاعته بدءًا من أعشاب الزكام إلى أعشاب القوة الحيوية ! وكل له ثمن وله مستوى ، بالإضافة إلى البهارات الخاصة بالسمك واللحوم والمحشيات ، والأسعار سياحية في وقت عزّ فيه السيّاح . قال الفتى : إن الحارة كانت تغص بالناس والسيارات قبل مذبحة غزة ، ولكنها خوت على عروشها بعد المذبحة النازية التي سكت عنها من يحاكمون الزعماء العرب أو يعلقونهم على المشانق بعد صلاة العيد !
كانت رفح في الزمن القديم أول محطة استراح فيها تيتوس في طريقه لمحاصرة القدس سنة 70 ب .م ، وكانت الحد الفاصل بين مصر والشام ، وفيها انتصر بطليموس الرابع ملك مصر على أنطيو خوس الكبير ملك سوريا في واقعة كبيرة سنة 217 ق . م ، وانتصر سرجون على سباقون ملك مصر في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد . وصفها المهلبى سنة 575 هـ / 1179م بقوله :
" رفح مدينة عامرة ، فيها سوق وجامع ومنبر وفنادق ، وأهلها من لخم وجذام ، وفيهم لصوصية وإغارة على أمتعة الناس حتى إن كلابهم أضر كلاب الأرض ... " ، وذكرها ياقوت الحموي ، فقال : " رفح منزل في طريق مصر بعد الدارم ، بينه وبين عسقلان يومان لقاصد مصر ... " .
ويصفها " نعوم بك شقير " في كتابه " تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها ، الذي ألفه في أوائل القرن العشرين ، بأنها " تزرع شعيراً ، وطمرت الرمال معظم آثارها ، وعبث الزمان والسياح والعربان بالباقي ، ومع ذلك فالقليل الظاهر فوق الأرض من خرائبها يدل على ما كانت عليه قديماً من الثروة والعز ، وأشهر آثارها الباقية إلى الآن :
عمد من الجرانيت السود والسماقى ، كسر من حجارة البناء الصلبة ، وكسر آنية الفخار والزجاج على أنواعها ، والفسيفساء ، وهرابات الماء ، وقطع النقود الفضية والنحاسية والزجاجية من عهد الرومان والبيزنتين ( يقصد البيزنطيين) والدول الإسلامية الأولى ، وآبار قديمة وحديثة ، وجبانة قديمة ، وقبور أولياء ...
في القرن الخامس عشر الهجري ، الحادي والعشرين الميلادي ، تغيرت رفح مثلما تغير الزمان ، فيها بعض ملامح الحضارة التي تعرفها مدن الوادي وقراه ، الشرطة ، المدارس ، المقاهي ، الإدارات الحكومية ، الوحدة المحلية ، المباني المتواضعة ، لكن البشر قلّة .. سألت عنهم فقيل لي : إنهم يفضلون الحياة في البيوت الصحراوية وسط المزارع ، مزارع الزيتون غالباً ، وإلى جواره بعض النخيل والخوخ والتين الشوكى وكلها تزرع اعتمادا على المطر . يمتد شريط الزراعة موازياً لساحل البحر حتى العريش .
عدت من رفح حزيناً مكسوراً أستند على عكازي . وقلبي يشتعل حرقة على وطن كان يدفن رءوس الأعداء في رماله ، فصار اليوم مشغولاً بالانتصار على زامبيا أو موزمبيق في كرة القدم ويتهيأ للمعارك الرياضية كأنه ذاهب إلى ميادين الحروب العسكرية ، لم يعد يسمع المصطلحات العسكرية إلا من معلقي المباريات الكروية : القذائف ، الضربة الصاروخية ، زمام المبادرة ، التمريرة ، التسلل ، الهجمات المرتدة ، الاستحواذ ، الهدف القنبلة ،إصابة الهدف ، الضغط الهجومي ، الدفاع الصخرة ، التسديد ، المراوغة ...
ثقتي في الله ، ثم شعبي ، تؤكد أن مصر منذ فجر التاريخ ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، لن تهون أبداً ولن تسمح للغزاة القتلة أيا كانوا وفى أي عصر ، أن يتمكنوا منها ، ومن وجودها الإنساني الكريم .
حاشية :
ينتفض صبيان الكنيسة في صحف التعري والسيراميك لأن بعض المحلات الإسلامية لا يوجد بها موظفون من الأقلية ، ونسألهم متى ينتفضون من أجل عدم وجود موظفين من الأغلبية في شركات أوراسكوم وغبور العملاقة ؟ ومتى ينتفضون خوفا على حياة علماء الإسلام ودعاته أمام المحاكم العسكرية مثلما يخافون على قادة التمرد الطائفي أمام تهديدات مفبركة ؟