النّحوُ التعليميّ
نشأة النّحو التّعليميّ وسماتُه
الدكتور ناصر الدين أبو خضير - جامعة بيرزيت
يبدو أنّ النّحو التّعليميّ لدى العرب بدأ مبكرًا، مصاحبًا لنشوء النّحو العربيّ، أي منذُ القرنِ الثاني الهجريّ الذي وصلنا منه كاملا كتابُ سيبويهِ وما تضمّنه هذا الكتابُ من آراءٍ نسبها المؤلفُ إلى أستاذه الخليلِ بنِ أحمدَ ويونسَ بنِ حبيبٍ وأبي الخطابِ الأخفشِ وعيسى بنِ عمرَ وأبي عمرِو بنِ العلاءِ وهارونَ بنِ موسى وغيرِهم كثير، وكلّ مَنْ سبق ذكرُه مِن شيوخِ سيبويه عاشوا في القرن الثاني الهجري.
والسؤال في هذا المضمار: مَنْ أوّل مَن ألّف في النحو التعليمي؟ الحقيقةُ أنّ الإجابة عن هذا السؤالِ ليست بالهيّنة، فلم تصلْنا كتبُ القرن الثاني الهجري لكي نُصدِرَ حكمَنا. كما أنّنا لا نستطيع تتبّعَ بدايةِ ما نُظِم من النّحو التّعليميّ شعرًا؛ لِنُدرةِ المصادرِ الأوّليّةِ أيضًا، ولكنّ الباحثينَ المعاصرينَ يشيرون إلى كتابٍ منسوبٍ إلى خلفٍ الأحمرِ البصريِّ ت 180 هـ وهو(مقدّمة في النّحو) ذكر فيه المؤلف بيتينِ مِن الشّعرِ في النّحو التعليميّ منسوبَينِ إلى الخليلِ بنِ أحمدَ وهما: (الكامل)
فانْسُقْ وصِلْ بالواو قولَك كلَّه
وبِلا وثُّمّ وأَوْ فليست تَصْعُـبُ
الفاءُ ناسِقةٌ كذلك عِنْدَنــا
وسَبيلُها رَحْبُ المذاهب مُشْعَبُ
[1]
وقد أَبطلَ هذه الروايةَ بعضُ الباحثينَ ونفى –مُحِقًا- أَنْ يكونَ هذان البيتانِ مِن صُنعِ الخليلِ؛ لأنّ كتب التراجمِ التي ترجمت للخليل لم تذكر أنّه نَظم في النّحوِ العربي شِعرًا .[2]
ويشير هذا الباحثُ –الطناحي- في موضعٍ آخرَ إلى أنّ النّحوَ التّعليميّ لدى العربِ بدأ مُبكِّرًا، وأنّ الناحيةَ التّطبيقيّةَ الوظيفيّةَ في النّحو شَغلتْ بالَ النّحاة العربِ الأقدمينَ، والدّليلُ على ذلك أنّ العلماءَ وضعوا إلى جانبِ كتبِهم المُطوّلة في النّحوِ العربيّ مختصراتٍ للمُبتدئينَ مِن المتعلّمينَ لغاياتٍ تعليميّةٍ مَحضةٍ، نَحْوَ الزّجّاجِ ت311 هـ الذي وضع كتاب "الموجز في النّحو" والزّجّاجيّ ت 340 هـ صاحبِ كتاب"الجمل في النّحو"، كما أنّ هذا الباحثَ أشار إلى أنّ النّحو المنظومَ يُعدّ أيضًا مِن النّحو التّعليميّ وهُوَ قديمٌ في وضعه، وذكر أنّ أقدمَ ما وصلَنا مِن هذا النّحو المنظوم أُرجوزةٌ قديمةٌ في النّحو وضعَها أحمدُ بنُ منصورٍ اليشكريِّ ت 370 هـ .[3]
ونُضيفُ هنا ما وضعَه نُحاةُ الكوفةِ وعلى رأسِهم الفرّاءُ ت 207 هـ مِن كتب الحدود في النّحو، ويرى بعضُ الباحثينَ المُحدثينَ أنّ هذا الضّربَ مِن المؤلّفات يدخلُ في النّحو التّعليميّ في القرنِ الثاني الهجري وقد وُضِعتْ هذه الكتبُ للتّسهيلِ على المُبتدئين في صناعةِ النّحو، بناءً على ذلك يصلُ هذا الباحثُ إلى حقيقةِ أنّ النحاةَ الكوفيينَ كانوا يميلونَ إلى الأغراضِ التّعليميّة في كتاباتِهم.[4]
سؤالٌ آخَرُ يتبادرُ إلى الذّهنِ: هل كان الغرضُ الأساسيّ مِن وراءِ وضعِ النّحو العربيّ تعليميًا للمبتدئينَ،أم وضعه النّحاةُ للعلماءِ والمتخصّصينَ أولًا ثُمّ تبعه النّحو التّعليميّ؟
في الحقيقة ليس بِمُكْنَتِنا الإجابةُ بدقّةٍ عن هذا السؤالِ أيضًا لقلّة المصادرِ الأوّليّةِ ونُدرتها، ولكنْ يُرَجّحُ أنّ التّصنيفَ النّحويّ لدى العربِ اتّسم منذُ البدايةِ بطابِعَينِ:
أولّهما: طابِعٌ تعليميّ غرضُه الأساسيّ أنْ يعرضَ مسائلَ النّحوِ على المبتدئينَ والمتعلّمينَ لكي يطبّقوها في نُطقِهِم إِنْ تكلّموا، وفي كتابتِهم إِنْ كتبوا خطبةً أو رسالةً.
ثانيهُما: طابِعٌ نظريّ مجرّد تظهرُ مِن خلاله فلسفةُ النّحو ومحاججاتُ النّحاةِ، وقد وُضِع للمتخصّصينَ في علوم الشّريعة واللّغةِ وغير ذلك.[5]
يستطيعُ النّاظرُ المتفحّصُ لكتب النّحاة الأوائلِ أنْ يجزمَ بثقةٍ أنّ مؤلفاتِهم احتوت على النّمطينِ معًا، ولْنأخذِ المصدرَ الأولَ في النّحوِ العربيّ ألا وهوُ الكتابُ لسيبويهِ، فقد سلك سيبويه في عرض مادته النحوية في الكتاب مسلكينِ اثنين:
الأول: المسلك الوظيفيّ التّعليميّ أوِ الإرشاديّ، حيثُ يقومُ سيبويهِ في كتابه بعرض الوجوهِ الصّحيحة في النّحو العربيّ كما سمعها مِن أهل اللّغة الفُصَحاءِ، توجيهًا للقارئِ كي يَنحُوَ نحوَهم في أساليبِ البيانِ والتعبيرِ، إِنْ نُطقًا وإِنْ كتابةً.
الثاني: المسلك النّظريّ البحثيّ، فقد قام سيبويهِ في كتابه بالكشف عن أساليبِ العربِ الفصحاءِ و أَقْيسةِ النّحاةِ، مِن أجل وضع قواعدَ نحويّةٍ ثابتةٍ يسترشدُ بها الدّارسونَ في شتىّ العلوم الإسلامية، ويدخلُ في هذا الصّنفِ المحاوراتُ بينَ سيبويهِ وأستاذِه الخليلِ، فـ"الكتاب" يمتلئُ طولًا وعَرْضًا بأسئلةٍ يوجّهُها سيبويهِ إلى أستاذِه مستفسرًا، وبردودِ الخليل وتعليقاته .
ولكي نعزّزَ ما قرّرناه آنِفًا فيما يتعلّقُ باحتواء "الكتاب" على النّحو التّعليميّ الوظيفيّ إلى جانب النّحو النّظريّ المعياريّ قمنا بمراجعة الكتاب، فوجدْنا أنّ سيبويهِ يفرّقُ بين ما هو ضروريّ في صناعة النّحو للمبتدئ الشّادي، وبين ما يفهمُه العالم المدقّق، وقد عُنِيَ سيبويهِ بالجانبينِ التّعليميّ التّطبيقيّ والنّظريّ التّصنيفيّ في كتابه، وهذا ما أشار إليه بعضُ الباحثينَ المعاصرينَ،[6] ولكنّ هذا الباحثَ وضع كتاب سيبويهِ في النّمط الأوّل من أنماط النّحو التّعليميّ فيما يخصّ التّبويب والتّرتيب، وهو النّمط الرّائد الذي سلكه الأوائل مِن النّحاة كسيبويه، فلا يوجدُ نسقٌ أو ترتيبٌ معيّنٌ، فهو بمثابة جَمْعٍ للتّراكيبِ والقوالب اللّغوية وبيان أحكامها وفقا لما استعملته العرب.[7] والنّاظر في الكتاب نظرةَ المتفحّص يرى أمرًا مغايرًا لما جاء به هذا الباحثُ، فـ"الكتاب" مبنيّ ضمن نظامٍ دقيقٍ في تقسيم أبوابه، و هو مُحكَمٌ في بناء عبارتِه، وقد بدأه سيبويهِ بمقدّماتٍ واعدًا القارئَ أنْ يُفيضَ في شرحها لاحقًا، وقد أوفى بما وعدَ، ومِن هذه العبارات التي تُثِبتُ ما نقول:
"وسترى ذلك إنْ شاءَ الله"[8]
، "وترْكُ ذلك أجودُ وأحسنُ للتّبيانِ الذي يجيءُ بعدَه"[9]، "وقد بُيِّنَ المفعولُ الذي هو بمنزلةِ الفاعل في أوّل الكتاب"[10]،"وسترى ذلك في بابِ التّسوية"[11]، "وقد ذكرنا ذلك فيما مضى وسنذكرُه أيضًا إنْ شاء الله"[12]، "وسترى بيانَ ذلك فيما ينصرفُ ولا ينصرفُ"[13]، "لِما ذكرتُ لكَ في الكرُّاسةِ التي تليها"[14]، "وقد أوضحتُه في أوّل الكتاب بأكثرَ مِنْ هذا"،[15]"وكُنّا بينّا ذلك في باب القسم"[16]،"وإنّما أكتبُ لكَ ههنا ما لمْ أذكرْ فيما مضى بيانه"[17].
وثَمّة مواضعُ كثيرةٌ أخرى لدى سيبويهِ أمسكْنا عَن ذكرِها خوفَ الإطالةِ، إذن، كلّ ما سبق فيه دلائلُ واضحةٌ على أنّ "الكتاب" أُحْكِمَ بناؤُه، فكلّ بابٍ وُضِعَ في موضعه وَفْقَ رؤيةٍ ثاقبةٍ ومخططٍ ثابتٍ.
بعدَ الاطّلاع على كتاب سيبويه نستطيعُ أنْ نقرّر بكلِّ ثقةٍ أنّنا نلمحُ فيه الكثيرَ مِن ألفاظ النّحو التّعليميّ الوظيفيّ التي استعملها سيبويهِ للتّيسيرِ والتّسهيلِ على المتعلّمينَ المبتدئينَ في النّحو، ونرى أنّ هذه الألفاظَ تنقسم إلى مجموعاتٍ ثلاثٍ:
1. ألفاظ فيها توجيه وإرشاد للمتعلّم نحو: واعلمْ أنّ، فاعْرِفْ هذا، فتفَطّنْ له، فإنّك ستجِدُه.[18]
2. أمثلة يضربها سيبويهِ للمتعلّمينَ مِن أجل الدّربة والتّمرين، وإنْ لم تكن مستعملةً في كلام العرب الفصحاءِ نحو: "وسأمثّلُه لك مُظهَرًا لِتعلمَ ما أرادوا"[19]، "وهذا مُحالٌ ولكنْ أردتُ أنْ أُمثّلَ لك" [20]، "ولكنْ زعم الخليل أنه تمثيلٌ يمثّل به... وإنمّا ذُكِر لِيُبّينَ لكَ وجهُ نصبِه"[21].
3. ألفاظ القياس التي يأمرُ من خلالها سيبويهِ المتعلّمَ أن يقيس كلامَه على ما قالتْه العربُ نحو: "فعلى هذا فَقِسْ"، [22]"وهو عربيّ ولا عليْكَ بِأيّهِما بدأْتَ"، [23]"فلا ينبغي لكَ أن تقيسَ على الشاذِّ المنُْكرِ في القياس".[24]
وثَمّةَ مصنفاتٌ أخرى في النّحو شملت شيئا مِن النّحو التّعليميّ، وقد صرّح بذلك ابنُ السّراج ت316هـ في مقدمة كتابه "الأصول": "ولما كنتُ لم أعملْ هذا الكتابَ للعالمِ دون المتعلّم احتجْتُ إلى أنْ أذكرَ ما يقربُ على المتعلّم"،[25] وإذا تصفّحنا الكتاب لمحنا هذا الضربَ من النّحو: "ومِمّا يقربُ على المتعلّم أن يُقالَ"،[26] "ورتّبْتُ أنواعه وصنوفه على مراتبها بأخصرِ ما أمكنَ مِن القولِ وأبينِه ليَسبقَ إلى القلوب فهمُه، ويسهلَ على متعلميه حفظُه"،[27] "فإنّما هي شيءٌ قاسه النّحويونَ ليُدرّبَ به المتعلّمونَ"،[28] " وذكرْنا في كلّ بابٍ من المسائلِ مقدارًا كافيًا فيه دُربةٌ للمتعلّم ودرسٌ للعالم ".[29]
وفي هذه النّقول ما يؤكّدُ حقيقة وجود النّحو التّعليميّ في مصنّفاتِ القدماءِ، وهي "سماتٌ واضحةٌ للتيسير تكشف عن نوازعَ مبكرةٍ عند النحاة الأوائل للفصل أيضا في الدّرس النّحوي بين ما هو ضروريّ للشّادي المبتدئ وبين ما يُطيقُه العالم" [30].
كما أنّنا نلحظُ سمات النّحو التّعليميّ في كتب القدماءِ المختصرة مثل: "الموجز في النحو" لابن السّراج ت 316هـ، و"الجمل في النحو" للزّجّاجيّ ت 340هـ، وكتاب"الواضح" للزُّبَيْدِيّ ت 379 هـ، وكتاب "اللمع في علم العربية" لابن جِنّي ت 392هـ[31].
(span>[1] ) الأحمر، خلف، مقدمة في النحو،ص85- 86.
([2] )ا)الطناحي، محمود، أرجوزة قديمة في النحو لليشكري، ضمن كتاب: "دراسات عربية و إسلامية مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمود محمد شاكر"، ص 566 .
( [3] ) الطناحي،محمود فهارس كتاب الأصول في النحو، ص6.
(span>[4] ) ) الأبذي والفاكهي، كتابان في حدود النحو،ص 14.
(span>[5] ) عبادة، محمد، النحو التعليمي في التراث العربي ص10.
([6] ) المرجع نفسه، ص 150 .
([7] ) المرجع نفسه، ص 19 .
([8] ) سيبويه،الكتاب(بولاق)ج: 1، 6.
([9] ) المصدر نفسه،ج: 1، 41 .
([10] ) المصدر نفسه،ج: 1، 42 .
([11] ) المصدر نفسه،ج: 1، 120 .
([12] ) المصدر نفسه،ج: 1، 130 .
([13] ) المصدر نفسه،ج: 1، 393 .
([14] ) المصدر نفسه،ج: 1، 478.
([15] ) المصدر نفسه،ج: 2، 13.
([16] ) المصدر نفسه،ج:2، 273 .
([17] ) المصدر نفسه،ج:2 ،398.
([18] ) انظر على سبيل المثال: المصدر نفسه،ج: 1/ 6، 7، 8، 15، 19، 126، 127 ؛ 2/ 229، 285، 335 .
([19] ) المصدر نفسه،ج:1، 138 .
([20] ) المصدر نفسه،ج: 1، 151 .
([21] ) المصدر نفسه،ج: 1، 163 ؛ وانظر أيضا: المصدر نفسه،ج: 1، 37، 43، 53، 143، 157، 196، 226، 275، 377، 393 ؛ 2، 84، 173 .
([22] ) المصدر نفسه،ج: 1، 220.
([23] ) المصدر نفسه،ج: 1، 384 .
([24] ) المصدر نفسه،ج: 1، 398 ؛ وانظر أيضا المصدر نفسه: 2، 111، 163، 229.
([25] ) ابن السرّاج،الأصول في النحو،ج: 1، 37.
([26] ) المصدر نفسه،ج: 1، 38.
([27] ) المصدر نفسه،ج: 1، 56.
([28] ) المصدر نفسه،ج: 1، 65.
([29] ) المصدر نفسه،ج: 1، 328 .
([30] ) ) الطناحي، محمود، فهارس كتاب الأصول في النحو، ص 5- 6 .
(span>[31] ) ) ابن السراج، الموجز،ص 111، 144 ؛ ابن جني،اللمع،ص 7، 8، 9، 13، 15، 16، 18، 25، 28، 32، 34، 44، 47، 48 ؛ وانظر مقدمة المحقق د. علي توفيق الحمد لكتاب الجمل للزجاجي، فقد أشار إلى الصبغة التعليمية في هذا الكتاب ص 19، وانظر في الكتاب نفسه،ص 6، 8، 11، 12، 22، 31، 35، 56، 107، 128، 130، 133، 138، 141، 156، 188، 192، 325، 409 ؛ وانظر: الزبيدي،الواضح،ص 41، 46، 47، 107، 112 .