الشاعر والنافر في الشعر العربي المعاصر
نعمان إسماعيل عبد القادر
سمعت ذات مرة أحدهم ينشد أمام صاحبه، على حدّ تعبيره، شعرًا من قصيدة كتبها ولا زلت أذكر بيتًا واحدًا منها، لأنه لفت انتباهي وأثار اهتمامي. وأخذ يقول بصوتٍ يشبه إلى حدٍّ ما صوت درويش في إنشاده للشعر: "أَحْيانًا كُرْسِيٌّ واحِدٌ في الْغُرْفَةِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كُرْسِيٍّ عَلى الْقَمَرِ"، ثمّ يسترسل في قراءته ليترك في نفس سامعه انطباعًا بأن الشاعر هذا قد يكون فحلا من فحول الشعراء وفصحائهم. سألت "الشاعر" إذا كان يعرف شيئًا عن علم العروض، فأجابني بالنفي، وأنه غير مستعدٍ لبذل دقيقة واحدٍ كي يتعلم منه شيئًا. فقلت في نفسي: أيعقل أن يصل الأمر إلى هذا الحدِّ لننبذ ما ورثناه عن أجدادنا من هائل من العلوم لنأخذ كل ما نسمعه من آداب الشعوب الأخرى. ولا بدّ من وقفة جادة لرسم حدود واضحة للشعر حتى نرتقي به إلى أعلى المستويات كما كان يرتقي حين ارتقت معلقات امريء القيس وعنترة ولبيد وعمرو بن كلثوم على أستار الكعبة. أنا لست ممن يتقوقعون على أنفسهم في هذا المجال، إنما لا بد من وقف التدهور والانزلاق نحو هاوية ما يسمى بالعولمة حتى لا نكتب بعد عقد أو عقدين من الزمان شعرًا نصفه من العربية والنصف الآخر من الإنجليزية أو الفرنسية. ثُمّ نسمي هذا بعد ذلك تجديدًا وتحديثًا حتّى يواكب طريق الحداثة فيسير بنا في اتجاه لا ندري إلى أين يوصلنا، ثم نقول هذا هو الاتجاه الصحيح.
ثمة تجديد طرأ على الشعر العربي في العصر الحديث، كما يعلم الجميع، ابتداء من شوقي وحافظ والبارودي ومدرسة أبولو مرورًا بالديوان والرابطة القلمية وانتهاءً بالشعر الذي نسميه اليوم بالشعر الحرّ أو شعر التفعيلة. صحيح أن هذه التجديدات قد طرأت رغمًا عن أنف جماعة التقليد بحجة التخلص من القوالب والعوائق التي لا علاقة لها بالتجربة الذاتية الشعرية حتى يستطيع الشاعر التخلص من التكلف واللزوميات، إلا أنها لا ينبغي أن تسير في هذا الاتجاه دون أن تصل إلى هدف منشود من غير نهاية في الأفق.. بل وينبغي أيضًا أن تتوقف هذه التجديدات عند حدِّ الشكل لتغير مسارها لتجد لها طريقًا في دائرة المضمون أو في أوزان الشعر ذاتها بحيث نستطيع أن نجري عليها تغييرات أو نبتكر أوزانًا أخرى لم يعهدها الشعراء العرب من قبل. لا مانع في هذا. لمَ لا؟
ها نحن العرب قد استوردنا عن غيرنا الرومانسية وأشكالها فقبلناها، واستوردنا الشعر المتحرر من القافية فتخلصنا من الصدر والعجز حتى صار البيت كلمة أو كلمتين، فأقررناه. ثم طالعنا بعضهم بالشعر الذي لا يلتزم بوزن ولا قافيةٍ فأقره البعض ونبذه البعض الآخر. فيتحذلق روادهم ويتحمسون لكتابة أشعارهم بالعامية المغموسة بكلمات مطبوخة في لغات أخرى.. سألت يومًا أحد الذين نبغوا في كتابة هذا اللون من الكلام عن دور الأوزان في شعره، فأجابني أنه إذا وجد وزنًا لبيت واحد من أشعاره فإنه يسارع في كسره. لماذا؟ حتى نتخلص من عقدة الخوف من الفراهيدي وأمثاله ليرتقي الشعر العربي إلى مستوى الشعر الأمريكي.. يا سبحان الله! هل أصبح الفراهيدي غولا يلاحقنا أو كابوسًا يقض مضاجعنا؟ هل أصبح الشعر الأمريكي أجود من الشعر العربي؟ وما علاقة الشعر الأمريكي بالأدب العربي؟ في الواقع هذا الشعور بالدونية والانهزامية له علاقة بالانهزامات التي حلت بالأمة العربية حتى أصبح البعض منا يظن أن إله الشعر قد بنى لنفسه كعبة في الولايات المتحدة الأمريكية. آن الأوان لنقول أن الشعر العربي هو أرقى من تلك المهاترات والمزايدات. وما يخرج عن قواعد الخليل بن أحمد لا يمكن أن نسميه شعرًا. إنما هو عبارة عن كلمات نافرة قد تكون جميلة وفصيحة يقولها النافر بطريقة جميلة تلفت الانتباه وتؤثر في السامعين. وقد تكون نابعة عن تجربة ذاتيةٍ أو قد يتصنع قائلها ليصنع منها نافرة جميلة وخصوصًا إذا كان ماهرًا في انتقاء الكلمات لتصبح فسيفساء غاية في التصنع. وهذا لون جديد من ألوان الأدب العربي. وقد يسألني البعض: وهل نسمي أدونيس نافرًا؟ أقول له نعم. هو نافر وليس بشاعر ولا يمكن أن يلبس قميص الشعر ما دام لا يلتزم بأبسط قواعد اللعبة وهو الوزن. لأنه ليس من المعقول أن يبقى اللاعب على أرض الملعب إذا خالف قواعد اللعبة لأن حكم المباراة يصرفه بالبطاقة الحمراء ويوقفه عن اللعب. والنافر أقل درجةً من الشاعر وأستطيع أن أشبهه باللاعب الذي يلعب مع أصحابه خارج أرض الملعب في نطاق لعبة ودّية أو لعبة مع أولاد الحارة. لذا لا بد من تجريد كل هؤلاء من هذه التسمية. ومن هذا اليوم ينبغي أن نسمي كل واحد فيهم نافرًا مهما كان الشخص ومهما كان منصبه.