الأحرار العبيد
عبده مصطفى دسوقي
باحث تاريخي وطالب ماجستير في التاريخ الحديث
[email protected]
ما أكثر ما نتحدث عن الحرية ونترنم بذكرها، وننشدها مع أمتنا التائهة, ولكننا حين نسعى لتطبيقها لا نرى لها أثرًا فيما بيننا.
و ما أكثر ما نتحدث عن حرية الفكر وحرية الضمير وحرية الوطن، ولكننا نبحث عن نصيب هذه المعاني من الواقع فلا نجد لها أثرًا.
أصبحت كلمة تكتب ومعاني تنشر فى حياتنا، ولا وجود لها بين أنفسنا، ولا معنى لها.
أصبحنا عبيدًا أحرارًا؛ عبيدا لأنفسنا والدنيا باطنًا, أحرارًا أمام الناس ظاهرًا... الكل يظن نفسه حرًّا لكنه فى الحقيقة أصبح عبدًا منذ أن خالف تعاليم السماء، وركن لتعاليم الأرض, أصبح فى عداد الموتى, هو حي يرزق لكنه ميت القلب والروح, كل ذلك لأننا تمردنا على عبوديتنا لله، ورضينا باستعباد الإنسان لنا فأصبحنا عبيدًا لأهل الغرب والشرق, نأخذ منهم كل حلو ومر دون أن نميز, دسّوا لنا السم فى العسل فتجرعانه بطيب نفس؛ لأنهم هم السادة والأحرار، تركنا ما ينفع الأمة وأخذنا الخبيث.
أصبحنا نتحرر في ملابسنا وتصرفاتنا ومعاملاتنا ظانين أنها الحرية التي ننشدها، وأن الدين والتدين هما مصدرا التخلف والرجعية والاستبداد, وكل ذلك من وصف الغرب لنا.
نعم... نحن أحرار عبيد عندما سرنا في ركب الدول الغربية، وأخذنا عنهم حريتهم المزعومة، بخلوا علينا بما هو نافع لنا من علم.
حياة كلها رياء وطاعة عمياء وقيود حديدية وإدارة ميكانيكية لا رأي لها ولا إرادة.
حياة تصدر بإشارة الغير وترد بإشارة الغير، فهي تتعرض لعنت أعداء الإسلام, فهم دائما يشعروننا بأننا عبيد لهم لا رأي لنا، ولا كلام يسمع منا، أصبحوا الآمرون الناهون في ممتلكاتنا.
إن اليوم الذي يتمتع فيه الإنسان بالحرية التامة هو اليوم الذي يصبح فيه قادرًا على استعباد نفسه وتذليلها لأوامر ربها, وليست الحرية هى التحرر من قيود المجتمع وتقاليده كما نرى فى شعوبنا الإسلامية.
إن اليوم الذي يتمتع فيه الإنسان بالحرية هو اليوم الذي يصبح فيه قادرًا على مواجهة الغرب وأعداء الدين، والوقوف فى وجههم دون خوف من قطع معونة، أو رهبة من الإغارة عليه.
إن اليوم الذي يتمتع فيه الإنسان بالحرية هو اليوم الذي يستطيع أن يعود بدينه كما كان عليه السلف الصالح, عندما كان ينادي الحاكم فيهم مخاطبًا زعيم الغرب: "أطلق سراح المرأة وإلا سيرت لك جيشًا أوله عندك وآخره عندي"، عندما كان يقول الواحد منهم: "جئت لك بأناس يحرصون على الموت كحرصكم على الحياة"، أناس قال الله فيهم: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ` فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عمران: 173-174].
أناس أحيا الله قلوبهم، وأرهب عدوهم، وأنار طريقهم، فسادوا العالم، ونشروا معنى الحرية الحقة ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].
إذًا لنترك هذه الحرية التي يمنينا بها الغرب، ولننسها رويدًا؛ ففي البحث عنها عناء لا طائل من ورائه, ولنفكر في الحرية التي رسمها لنا الله، ولنكن شجعانًا في مجابهة الحقيقة الراهنة, ولتكن عبوديتنا لله لا لغيره, عندها نسود العالم، وننشر معنى الحرية الحقة.
لقد عدت بذاكرتي لسنوات مرت من عمري، وتذكرت رجلاً رأيته في صبيحة العيد كفيفًا نحيفًا, شارد العين, قلق الفؤاد , يكاد لا يشعر بما حوله من هول ما يحدث له, ترى الدمع ينساب من عينيه ليروي لحيته الشعثاء، إذا نظرت لملابسه تجدها تكشف عن جسد هزيل, لا تكاد تواري من جسده سوى القليل، سألت عنه فقيل لي: هو فلان الغريب الطريد المحروم المهضوم – ينظر إلى الناس يوم العيد فيجدهم يسعون نحو الأهل والعشائر والفرح على وجههم، والسعادة تملأ قلوبهم، يلبسون أجمل الثياب, فينظر لحاله فيجد نفسه الشريد الحائر الذي لا دار له ولا عشيرة, فعجبت من ذلك في هذا اليوم، فالناس تودع الأسى وهو يستقبله, أسفى لهذا وما أشد أسفى! لقد ظل شريدًا حائرًا لا يعرف ماذا يفعل ولا أين يذهب!!!
فعدت بذاكراتي فوجدت الناس في الماضي كان التشرد ملجأهم، والحيرة شغلهم، والحزن يملأ قلوبهم, ويكاد القلب ينفطر من هول ما يحدث لهم، والوليد يشيب من هول ما يسمع من حوله, حتى جاءهم من أنقذهم ورفع عن كواهلهم هذا الهم وملأ قلوبهم بشرًا وسعادة, وجعل الوليد يأمن في منامه, لقد بدل الظلمات نورًا، وجعل الكون كله ضياء، ما هذا الشيء؟ أهو جاه عريض؟، أو ملك عاضد؟ أو حسناء لعوب؟ .. لا لكنه النور الذي أضاء الكون بقدومه, وأحيا القلوب بعد مماتها, وأعز الناس بعد ذلهم, إنه نور الإسلام... نور القرآن الذي بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانت بلادنا ألوانًا من المتناقضات, سادات كالبراميل, وآدميون كالخيال, قوم يلتهمون اللحوم والشحوم، وقوم يلتهمون الهموم والغموم, حتى جاء هذا النور فساوى بين الجميع, وجعل الحب والمودة بين الناس أجمعين, وجعل الغني يعطف على الفقير, والفقير يدعو للغني دون حنق عليه.
اللهم أنت تشهد بأن هذا مني ليس نزوعًا إلى شيوعية, أو ميلاً إلى اشتراكية أو رأسمالية، إنما هو دينك الذي أسرج فؤادي وأنار حياتي وعم بالضياء كل جوانبي, ورسم السعادة للناس في كل أمورهم, فبذكراه توحدت القلوب وتجمعت المشاعر، وأخذ الكل يهتف فى وقت واحد: "صلى الله عليه وسلم"، لقد أعاد للحياة ذكراها، وها هى الأيام تنجلي وتأتي النفحات الربانية والتي أهلت علينا من مبعث النبوية، فذكرى الإسراء والمعراج التي ربط بين مبعث النبوية وباقي بعثات الأنبياء إلى ذكري تحويل القبلة إلى الكعبة والتي وحدت شمل المسلمين على قبلة نقية خالصة لهم، ثم يأتي رمضان الذي وحد القلوب، وجمع الكل على عمل الخير، وزكى النفوس، وألهب الفؤاد برحمة المسلم لأخيه المسلم، واستشعار حاله، حتى إذا جاء العيد وجد الفقير من يعطف عليه، ويرسم على شفاه البسمة التي كادت تختفي طوال العام، وعندما يأتي الحج يسارع الجميع إلى بلد الله الحرام ملبين موحدين متجردين من مظاهر الدنيا، متحررين من عبوديتهم لأنفسهم إلى عبودية ربانية.
أما إن بعدنا عن ذلك، ونسينا كل هذا فسنظل الأحرار العبيد.