الرضا الوظيفي
م. محمد عادل فارس
مصطلح " الرضا الوظيفي " هو مما أبدعته العلوم الإنسانية الحديثة ، كعلوم الإدارة، والتنمية البشرية ، والتأهيل التربوي ...
وهو ، كأمثاله من المصطلحات التي يكون لمضمونها أصول قديمة ، ومفهومات متداولة ، يأتي إفرادها بالبحث والدراسة ليعطيها شخصية متميزة ، ويساعد على تلمُّس مقوّماتها وعواملها ومعوّقاتها ... ويساعد أخيراً على تطويرها وحُسن استثمارها .
ومفهوم الرضا الوظيفي يعني التوافق والانسجام بين العمل الذي يقوم به الفرد ، وبين الدوافع الباطنة لدى هذا الفرد ، وهو ما يؤدي إلى التوافق بين المصلحة العامة ، أو مصلحة المؤسسة ، أو مصلحة المجتمع .. وبين المصلحة الذاتية للفرد ، أو رغبته وهواياته وميوله ...
ومهما أكّدنا أهمية التجرد والإخلاص ، والترفع عن الرغبات الذاتية ... فإن جزءاً لا بد أن يظهر في العمل ، من خصائص الفرد وميوله .
ولعل أعظم أساس لهذه الفكرة هو ما قاله النبي e : " اعملوا ، فكلٌّ ميسَّر لما خُلق له " .
فمع أن القرآن الكريم بيَّن أن الجنّ والإنس إنما خُلقوا جميعاً لعبادة الله تعالى } وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون { فإن عمق هذه العبادة ، وجوانبها وميادينها ، تختلف بين فرد وآخر . فالإسلام قد جعل أعمال الإنسان محكومة بمعايير الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام ، والله تعالى يعلم أن من الناس من يكتفي من الأعمال بحدِّها الأدنى ، فيقوم بالواجب منها ، ولا يكاد يقوم بشيء من مندوباتها ، بينما يقوم بالواجبات والمندوبات الكثيرة في أعمال أخرى ، بل إن من الناس من يقصّر في بعض الواجبات ، ثم يقوم في جانب آخر بالواجبات والمندوبات . وهذا ما عبّر عنه بعض علماء السلف عندما قال : من الناس من يُفْتَحُ له في باب الصدقات ، ولا يفتح له في باب الصلاة ، ومن يفتح له في باب الجهاد ، ولا يفتح له في باب الصيام ...
وإذاً فهناك الميول والرغبات والاستعدادات التي خُلق لها الإنسان ، فإذا كلف بما ينسجم مع ما " خُلق له " كان إنتاجُه أفضل ، وأداؤه أعلى . وهذا لا يعفيه – بالطبع – من القيام بالحد الواجب عليه في الجوانب الأخرى .
وعلى سبيل المثال نجد من المسلمين من لا يكاد يزيد على الصلوات الخمس شيئاً من النوافل ، بينما ينفق من ماله في أعمال الخير ذاتَ اليمين وذات الشمال ، ومن لا يكاد يصوم يوماً سوى في رمضان ، لكنه يحجّ ويعتمر مرات كثيرة .
ونلحظ من حكمة الله تعالى أن شرع للرجل والمرأة من الأحكام ما يناسب استعدادات كلٍّ منهما . فقد جعل كلاًّ منهما صالحاً لأداء مهام كثيرة مشتركة في الحياة ، وشرع لهما تشريعاً واحداً ، وأفرد كلاًّ منهما لمهام ، فجعل للمرأة مهام الحمل والولادة والرضاع ورعاية الطفولة ... بما يناسب ما خَلق فيها من عاطفة جياشة ، وصبر جميل على ما تحتاجه هذه المهام ، فهي تقوم بها بأريحيّة ونجاح ... وجعل من مهام الرجل السعي في طلب الرزق ، وحماية الأسرة مادياً ومعنوياً ، بما يناسب ما خلق فيه من قوة على تحمل ذلك . فالرجل والمرأة يعملان ، وهما ميسّران لما خُلقا له ، وهما يحققان في عملهما " الرضا الوظيفي " ، وإن تفاوت الأمر بين فرد وآخر .
* * *
وإذا قَصَرْنا حديثنا على أداء الفرد داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ، وداخل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والمنشآت الاقتصادية ... أمكننا أن نجد دراسات كثيرة تسعفنا في هذه المجالات .
وهنا يمكن أن نتحدث باختصار عن معنى الأداء الوظيفي ، وعوامل الرضا الوظيفي ، ومضادات الرضا الوظيفي ، أو ضغوط العمل ، ونتائج ضعف الرضا الوظيفي .
أما الأداء الوظيفي فهو نتاج عمل الفرد بما يخدم أهداف المؤسسة من حيث حجمُ هذا النتاج وجودتُه وسرعته والاقتصاد في نفقاته ..
فالأداء الجيد يترافق مع طاقة جسمية وعقلية عالية يبذلها الفرد ، ومستوى عال من الجودة ، وإبداع لطرق جديدة في الإنجاز ، واقتصاد في الموارد البشرية والمادية والزمن ، وتجنب للمشكلات الإنسانية والفنية .
فحتى يوصف الفرد بأداء وظيفي عال ، ينظر إلى تفاعله الكامل مع العمل ، وحسن مبادرته، وغيرته على سمعة المؤسسة ، وحرصه على نجاحها ، وتحسين العلاقات الاجتماعية مع زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه ، وصيانته للتجهيزات المادية للمؤسسة ...
فإذا كان الأداء الوظيفي جيداً على النحو المذكور قيل : إن هذا الفرد يتمتع بالرضا الوظيفي!.
عوامل الرضا الوظيفي
أهم هذه العوامل :
1. شعور الفرد أنه يؤدي دوراً ناجحاً في المؤسسة ، فعندما يكون العمل المسند إليه يتناسب مع مواهبه ورغبته ينجح فيه ، ويشعر أنه يحقق ذاته ، ويرضي " دافع الإنجاز " في نفسه . وهو ما يُعبَّر عنه بأنه " وضع الرجل المناسب في المكان المناسب " . ففي جمعية خيرية قد تجد من يصلحُ للاتصال بالأثرياء ويقنعهم بجدوى التبرع لجمعيته ، ويشرح لهم " الأدوار العظيمة " التي تقوم بها جمعيته ... لكن هذا الرجل لا يصلح بالضرورة لأن يكون " محاسباً " أو " أميناً للصندوق " أو " مديراً إدارياً " ومن يصلح لمثل هذه المواقع لا يصلح بالضرورة للاتصال بالأثرياء وحضهم على التبرع ...
2. وقريب من الفكرة السابقة : شعور الفرد أنه يخدم القيم التي يؤمن بها ، ويحقق التوافق بين ما يحصل عليه من إنجاز ، وبين ما يرغب أن يحصل عليه .
3. وكذلك شعوره أنه يحقق مصالحه الشخصية من استقرار ، ومن ترقٍّ في الوظيفة ، ومن ثناء ، ومن تعويضات مالية شرعية أو غير شرعية !.
ويُذكر هنا أنه في المفاوضات السياسية والاقتصادية بين جهتين ، يحاول الفريق المفاوض أن يُشعر أعضاء الفريق الآخر أنه سيُشبع لهم تطلعاتهم الشخصية ، وبذلك يهيئهم للموافقة على شروطه ...
وفي المؤسسات الصناعية والتجارية ، عندما تخصِّص المؤسسةُ حصة من الأرباح للعامل ، أو تعطيه زيادة في الأجر مقابل الزيادة في الإنتاج أو في ساعات العمل أو أيام الدوام ، أو حين يملك أسهماً في الشركة ... يجد أن التفاني في العمل سيخدمه شخصياً ويحقق مصالحه ... كما يحقق مصالح المؤسسة .
4. شعوره بالعدل ، أي بالتكافؤ والتناسب بين ما يحصل عليه من حوافز ومكافآت ، وبين الجهد الذي يقدمه ، والأداء الذي يحققه . ونقول هنا : " شعوره بالعدل " ، فقد يكون ما يحصل عليه عادلاً بالفعل ، لكن نظرته الذاتية إلى إنتاجه تجعله يضخّم من شأن هذا الإنتاج ، ويستصغر المكافأة التي ينالها عليه فلا يشعر بالعدل ، ولا يتحقق لديه الرضا الوظيفي .
5. شعوره بأن ظروف العمل مناسبة له . وتشمل هذه الظروف : قرب مكان العمل من مكان بيته ، وعدد ساعات العمل وتوزيعها ، وفخامة المكتب ، وحسن تهويته ، وهدوءه ، والتقدير المادي والمعنوي الذي يجنيه ...
6. العلاقات الإنسانية الدافئة بينه وبين العاملين معه من رؤساء ومرؤوسين وزملاء ..
7. توافقه مع قوانين العمل ولوائحه ونظام الدوام ...
8. الولاء التنظيمي ، ومدى قناعته بأهداف المؤسسة وتوجهها .
مضادات الرضا التنظيمي
ومع أن غياب أي عامل من عوامل الرضا ، أو ضعفه سيكون من مضادات هذا الرضا ... فإنه يمكن ذكر بعض مضادات الرضا الوظيفي ، أو ما يمكن تسميته بضغوط العمل .
تنتُج هذه الضغوط عن التفاعل السلبي بين ظروف العمل وبين خصائص الفرد ، من قدرات وخبرات ومهارات واتجاهات وميول ...
وتؤدي هذه الضغوط إلى إفرازات في الغدد الصم ، تؤدي بدورها إلى ارتفاع ضغط الدم ، وزيادة معدل التنفس والأرق وتوتر الأعصاب .
والإنسان المتوتر قد يُصدر قرارات متعجلة فجّة متعارضة ، ويقف مواقف غير متوازنة ، ويسبب مشكلات مع الآخرين ، ويصاب هو بعدئذ بالإحباط ، أو الإجهاد ، أو الأمراض ...
والضغوط التي تؤدي إلى هذا ، أو إلى بعضه ، إنما هي الضغوط الشديدة ، أما الضغوط المعتدلة فتولد الحوافز ، وتشحذ الفكر والهمة ...
والضغوط على أنواع ، وفق أسبابها :
فمنها ما يعود إلى الفرد وظروفه الشخصية ، كالحالة الصحية والمشكلات الأسرية ، وصعوبة السفر في مهمة للمؤسسة وترك أسرته بلا رعاية ...
ومنها : عدم ملاءمة العمل للفرد ، من حيث الأفكار والمعتقدات ، كأن يعتقد أن ما تسير فيه المؤسسة ، أو ما تطلبه منه ، يتعارض مع قناعاته أو مع معتقداته .
ومنها : شعوره بأن رؤساءه لا يقدّرونه مادياً ( فلا يعطونه المكافآت والعلاوات والترفيعات المناسبة ) ، أو معنوياً ( فلا يستشيرونه ، ولا يأخذون برأيه ) . وطبعاً ، قد لا يكون هذا الفرد محقّاً فيما يشعر به .
ومنها : شعوره بالعجز عن الإنجاز الجيد ، إما لضعف في قدراته البدنية أو النفسية أو الفكرية ... وإما لغموض الأهداف التي يُطلب منه تحقيقها ، وإما لضعف تأهيله وتدريبه ، وإما لضعف المساندة الاجتماعية التي يلقاها من رؤسائه وزملائه ، وإما للقيود الإدارية ( البيروقراطية ) وتعدد المرجعيات التي يُطلب منها الموافقة على إنجازاته .
ومنها : وجود ضعف في تأهيل المؤسسة نفسها كضعف إمكاناتها المادية أو الفنية أو الإدارية ... وهو ما يؤدي إلى رثاثة في الأثاث ، وتخلّف في المعدّات ، ووجود ضوضاء ، وسوء في التهوية أو التكييف الحراري ...
نتائج عدم الرضا
عندما لا يتحقق الرضا الوظيفي لدى الفرد يظهر أثر ذلك في صحته البدنية والنفسية ، وفي علاقاته ، وفي إنتاجه ... وقد يتعمد الإهمال والتقصير حتى تتفاقم الأمور ، وقد يُكثر من النقد ويضخّم المشكلات ، وقد يستقيل من العمل أو يطلب الإعارة أو الإجازات الكثيرة... وقد يضعُفُ ولاؤه للمؤسسة ، بل قد ينقلب هذا الولاء إلى كُره وتآمر .
وبعد
إن وضوح مفهوم الرضا الوظيفي وعوامله ومضادّاته ... يُفيدنا في تفهم مسالك الناس أولاً ، كما يُفيدنا في تحسين هذه المسالك ثانياً ، وفي اختيار الفرد للعمل الذي يتوقع منه تحقيق الرضا الوظيفي له ، ثالثاً ، وفي معالجة أسباب الخلل حيثما وجدت ... والله الموفق، وهو المستعان.