علم العربية بين الماضي والحاضر

علم العربية بين الماضي والحاضر

د. مشهور مشاهرة / جامعة بيرزيت

 [email protected]

إنّ مِمّا اتّفق عليه النّاس أنّ النحو محتاجٌ إليه في كل الفنون، فالأمّة مجمعة على استحسان علم العربية، والندب إليه، والحث عليه، ذلك أنّ تعليمه وتعلّمه من فروض الكفاية، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلّم في كتاب الله إذا لم يكن عارفا بلغة العرب. وقديما قال الإمام فخر الدين الرازي ما معناه: معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية؛ لأنّ معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع، ومعرفة الأحكام بدون أدلّتها مستحيل، فلا بدّ من معرفة أدلّتها، والأدلّة راجعة إلى الكتاب والسنّة، وهما واردان بلغة العرب، ونحوهم وتصريفهم، فإذن، توقّف العلم بالأحكام على الأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقّف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقّف على الواجب المطلق، وهو مقدور المكلّف، فهو واجب، فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة.(انظر:المحصول للرازي، ج1،ط3،ص203.)

هذا كلام نفيس، حقّه أن يُسطّر بماء الذهب، فعلم العربية من أعظم العلوم نفعا، وأخصّها للرائد مرعى، به يُفَرَّق بين الصحيح والسقيم من الكلام، فهو مفتاح العلوم، ومصباح الفهوم، وأحد شروط الاجتهاد الرئيسة، وكذلك هو في التفسير والفقه وأصوله، وبقيّة العلوم الشرعية. وزاد البيهقي في (شعب الإيمان) في باب طلب العلم، عن الواقدي بسنده، عن أبي الزّناد عن أبيه، قال: "ما تزندق بالشرق إلا جهلاء بكلام العرب، وعجمة قلوبهم" (شعب الإيمان للبيهقي، ج2، ص260)، فهو عُدّة الداعية، والمُحدّث، ورجل البيان وغيرهم. وفي الفريدة(الفرائد الجديدة للسيوطي،ج1، (ومعه نظم الفريدة، وشرحها المطالع السعيدة)وكلاهما للسيوطي، ص11.).

النحوُ خيرُ ما بهِ المرءُ عُنِي             إذْ ليسَ عِلمٌ عنه حقاً يَغتَنِي

وعن البيهقي، في شعب الإيمان، في باب طلب العلم،عن شعبة قال: "إذا كان المحدّث لا يعرف النحو فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير"(شعب الإيمان، حديث رقم:1689، ص260. وانظر: السيوطي، الفرائد الجديدة، ج1، ص15.).

مثل الطالب الحديث ولا                          يُعرب النحو ولا له آلاتهْ

 كحمار قد عُلّقت ليس فيها                        من شعير برأسه مخلاتهْ

 وفي ألفية العراقي:

"ولْيحذر اللحّانَ والمصحِّفا                      على حديثه بأن يُحرِّفا

فيدخلا في قوله (مَن) كذبا                    فحقٌّ النحوُ على من طلبا

 ]وعن الأصمعي[:إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو، أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليّ)لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه فقد كذبت عليه"( انظر ما تقدم من: فتح المغيث للسخاوي، ج2، الفصل الخامس: مبحث التسميع من الشيخ القارئ اللحان والمصحّف والحث على الأخذ من أفواه الشيوخ،ص224-226.)

وقديما قالوا في النحو أشعارا، أو نظما كثيرا منه:

النحو يصلح من لسان الألكن                                والمرء تكرمه إذا لم يلحن

 ومِمّا يُنسب للإمام الكسائي في ذلك:

وإذا  لـم يـعرف النحو iiالفتى
فـتـراه  يـنصب الرفع iiوما
كـم  وضـيع رفع النحو iiوكم


هـاب  أن يـنطق جبنا iiفامتنع
كان من خفض ومن نصب رفع
مـن  شـريف قد رأيناه iiوضع

 وقالوا:

 

الـنـحـوُ أفضلُ ما يُقرا iiويقتبسُ
إذا  الفتى عرف الإعراب كان iiله
لا يـنـطـقون حذارا أن iiيلحّنهم
لا يـسـتوي معرب فينا iiوملتحن




لأنّـه  لـكـتـاب الله iiيُـلـتَمَسُ
مـهـابـة  لأنـاس حوله iiجلسوا
كـأنّـمـا بـهـم من أجله خرس
هل تستوي البغلة العرجاء والفرس

 ونختم بهذا المقطوعة، وإلا فالنظم فيه كثير:

 

الـنـحـو  قنطرة الآداب هل iiأحد
إن الـنـحـاة أنـاس بان iiمجدهم
أهـل الفصاحة لا يخشون من iiأحد
فـهل  علمتم بذئب يخشى من iiغنم
لو يعلم الطير ما في النحو من أدب
إنّ الـكـلام بـلا نـحـو iiيُحسّنه






يـجـاوز الـبـحـر إلا iiبالقناطير
فـوق الـعـبـاد جـميعا بالمقادير
عـنـد  الـقراءة في أعلى المنابير
وهل  ترى الأسد تخشى من خنازير
حـنّـت  إلـيـه وأومت iiبالمناقير
نـبـح الـكلاب وأصوات السنانير

(انظر ما تقدم من نظم من: الفرائد الجديدة ومقدمتها، ج1، ص17. )

ونحن نقول أيضا: سَلوا التاريخ كيف تعلّم النّاس العربية، وصنّفوا فيها؟ إذ المقام ليس للإحصاء والتفصيل، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

هكذا كان حالهم قديما، أو تلك صورة من حالهم في القديم؛ يتشدّدون، ويحتاطون، وهم أهل صنعة وبيان، يضربون على اللّحن، ويُكافئون على الإعراب، فكيف الحال في هذا الزمان؟