اللغة العربية كما نراها من الميدان

د. مشهور مشاهرة / جامعة بيرزيت

 [email protected]

يصعب على الباحث المخلص أن يرى لغته تتعرّض لأشرس هجمة استعمارية، ولا يُحرّك ساكنا، تلك الهجمة التي بدت ظاهرة للعيان، فلم تعد خافية على العامّة فضلا عن الخاصة، فالعربية كما يعلم الجميع لغة تراث وحضارة ودين، وأيّما انتقاص منها أو تقليل من شأوها، أو محاولة إضعافها ما هو إلا خدش، وجرح، ومحاولة ضرب للتراث والحضارة والدّين.

أقول -والجرح ينزف، مواجها القارئ، وبلا خجل-: إنّ من أبناء جلدتنا من يُنَفّر من العربية، ويزدري من مُتَعَلِّمها، حتّى غدا المدرّس مغلوبا على أمره، فلم يعد كثير منهم مقتنعا بتخصّصه، وبات أمام هذه الهجمة الشرسة يبكي اليوم الذي حصل فيه على تخصص لغة عربية، يحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ثمّ يمضي يحسب راتبه الشهري، وديونه، ويوازن نفسه بزملائه من تخصّصات مختلفة، ثم يُنهي تفكيره بالبحث عن عمل مساند.

ولا تقف رياح السّموم هذه عند الأستاذ وحده، بل تهبّ على طلبتنا، فتجاوز آذانهم، ليسهموا عن قصد أو غير قصد بهذه المكيدة، والنّتيجة الأوّلية: لم تعد المدارس تُقَدِّم لأقسام العربية في الجامعات إلا (النّطيحة والمتردّية وما أكل السبع)، ويُستثنى من ذلك دائما (من رحم ربّك، وقليل ما هم)، حتّى صار معلّم العربية المتميّز من الذكور في بعض البلاد–إن وُجد- يأخذ (علاوة بدل ندرة)، وصار معلّم الرياضيات أو الحاسوب أو غيرهما بلا عمل، أو ما يُسمّى عندنا(عاطلا عن العمل).

ومردّ ذلك إلى أسباب كثيرة، أهمّها: فصل العلوم عن الدين، وفك الارتباط بين الواقع المعيش والمادّة المدروسة، هذا فضلا عن إساءة التوزيع على التخصّصات، وسوء الإرشاد، من المدرسة والأهل والجامعة، بل من الواقع المجتمعي عامّة.

ويا ليت أنّ الدّاء توقّف، أو انحسر عند هذا الحدّ، بل استمرّ وتسلسل حتّى تدحرج إلى الجامعات؛ فالغرس في مجمله ضعيف موبوء، يزحف زحفا، يقتلك بجهله، وعدم اكتراثه، نبدأ معه من أبجد العلوم في العربية، وكأنّه حديث عهد بالنحو والأدب والبلاغة، وفي كلٍّ كسور، ومعضلات، ومآسٍ، يخجل المرء من تسطيرها؛ فالنحو عندهم صعب المآل، والأدب بعضه سوء أدب، وهرطقات هنا وأخرى هناك، وأمّا البلاغة فقد جار عليها أهلها، وظلموها، وما زالوا يفعلون؛ جهلا بمادّتها، وطُرق تدريسها، حتّى حسبها من لا علم له بها قواعد جامدة، لا حياة فيها، وتناسى المسكين أنّ إعجاز القرآن الكريم وارد بها، وأنّها مركوزة في التراث، كالمعادن النفيسة، تنتظر الأيادي البيضاء كي يُكشف النّقاب عن جمالها وأسرارها، فلم يقدروا عليها، وأشاحوا بوجوههم عنها، وولّوا وجوههم قبل الغرب، يأخذون من حداثته ما يُمكن أن يكون بديلا من البلاغة العربية الأصيلة، ولكنْ، هيهات هيهات، أن يُمكِّن الله من تلك العلوم النافعة من يزدري أمّته، ويلهث خلف دُريهمات، أو مناصب زائلة، فمن سرّه زمن ساءته أزمان، والأيّام حبلى، ولا بد للحامل أن تضع حملها، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

ومع ذلك، يأبى القدر إلا أن يُخرج من رحم هؤلاء من يواصل دراسته العليا، أعني الذكور خاصّة، وإلا فأغلب الإناث يرضين من كل هذه الغنيمة بوظيفة متواضعة في المدارس، أو بزواج قد تجمع بينه وبين الدراسة، وقد تكتفي فيه البنت ببيتها، وأطفالها من بعد.

ولك أن تسأل عمّا يدرسه من يواصل تعليمه من الذكور(وهم قليل كما قلنا)؟ اُبادرك القول: إنّ أساتذة الجامعات فيهم الخير، إلّا أنّ هذا الزمان قد أصاب النّاس ببلوى حبّ المال، والمنصب، والجاه، تزامنا مع البعد عن الله عز وجل، فلم تعد الدرجات حقيقيّة، وصارت محكومة بالأهواء، والمصالح الشخصية، ولم يعد الطلبة يبحثون عن العلم، بل صار أغلبهم يلهث خلف الدرجة، حتّى لو لم يأخذ من العلم شيئا. أمّا الأستاذ صاحب العلم والمعرفة، الذي لا يفتأ يقرأ ويبحث ويُنَقِّر عن المسائل، ويُتعب الطلبة بحثا وتنقيبا فهذا متشدّد يكرهه الطلبة، ويعظه الزملاء بالرجوع عن هذه الطريقة المنفّرة في التعليم، ليرى نفسه منفردا كالبعير الأجرب، شاذّا عن قواعد القوم، أعني أولئك الذين يقضون نهارهم في القيل والقال، وليلهم في المقاهي، والمتنزّهات، وما شاكلها من سهرات. ونحلف، ويحلف معنا جمع غفير من المخلصين أن من هؤلاء من هجر الكتب والكتابة منذ زمن طويل، ولولا تدريسه للمادة منذ سنين طويلة، وإعطاؤه العلاماتِ دون كيل أو وزن؛ إرضاء للطلبة، وإخفاء لتقصيره لما بقي ساعة في الميدان، ولعلّ هذه هي الأخرى من نكد الدنيا على الحرّ. ثُمّ قل لنا بربّك، أيّها الكريم، أبَعدَ هذا تسألُ عن تميّز!

اعلم أخي، أنَّ الطلبة إذا انحازوا لمثل هؤلاء الأساتذة، وتجنّبوا العلم وأهله، -وهو منحازون، متجنّبون، (لا شكّ)- سيخرج غرسنا ضعيفا، ثُمّ تنتقل العدوى إلى المدارس، إلى فلذات أكبادنا، ينقلون إليهم الداء، وهكذا في سلسلة ذرعها طويل طويل.

ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى قضيّة مأساويّة أخرى، وكل قضايانا، والحمد لله، الذي لا يُحمد على مكروه سواه، كلّها، إن لم تكن مأساوية، فإنّ فيها رائحة المآسي، تلك قضيّة خطيرة، وهي الانتساب في الجامعات، فقد دأب بعض الطلبة الالتحاقَ بالجامعات المصرية، أو السودانية، أو غيرها، مع إقامة، إن أقاموا، ثمانية أشهر، يُشرف عليهم أساتذة كبار، ولكنّهم لم يعيشوا الحياة الجامعية النظامية، ببحوثها، وما يتعلّق بها، خسروا ذلك، وخسروا متابعة الإشراف، فإن كثيرا منهم يكتب في مواضيع مكرورة، ولا يُكلّف نفسه بالبحث والتنقيب، ولو أردنا أن نتتبّع رسائل هؤلاء، وقد اطّلعنا يوما على بعضها، لأريناك أيّها القارئ الكريم عجبا، ولكنْ، حسبنا في هذا المقام أن نحذّر أو ننبّه.

واعلم أنّ هذه مشكلة عامة، غير مرتبطة ببلد دون بلد، بل هي من البلاء العام، ولكلّ طلبة بعد ذلك تعاطف خاص من قِبَلِ المشرفين أو المدرّسين، على اختلاف في سبب التعاطف. وعلى العموم فإنّ المصلحة الشخصية غير العلمية هي القاسم المشترك في كثير من الأحيان.

وفي الختام، نقول مؤكّدين: أيّها القارئ الكريم، لا تبتئس، فإنّ العلماء لا يخرجون في كثير من الأحيان إلا من رحم المآسي، فعليكم بالاعتكاف، قراءة، وكتابةً، وتدبّرا، مع إخلاص لله، قصدا إلى ابتغاء مرضاته، ونصرة دينه، وخدمة أمّة القرآن. ثُمّ لا تظنّنّ أيّها القارئ الكريم أننا بالغنا في الوصف، أو تحاملنا على الأمة، أو مؤسساتها، نحن من الميدان كتبنا، وما شهدنا إلا بما علمنا، على أنّ في الأمّة خيرا كثيرا، وطاقاتٍ هائلة، ولكنّها بحاجة إلى استثمار، وما قلناه عن المدارس والجامعات لا يعني بالضرورة القدر الحتمي الذي لا يُمكن أن يتغيّر، ولا يعني كذلك أن مؤسساتنا خلت من المخلصين، أبدا، فإنّ فيها من المخلصين ما يمكن أن نسمّيهم بأسمائهم، أو ننعتهم بأوصافهم، إلّا أنّ الواقع يشهد أن فيها فسادا لا يمكن لعاقل أو مخلص أن يتغاضى عنه.

هذا ما رأيناه، ولمسناه، وعايشناه، وما كتبنا حرفا إلا غيرة على هذه الأمّة، ورجاء إصلاحها، وبالله التوفيق.