عباد الرحمن ..

عباد الرحمن ..

وأخلاق العبيد !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

سألني سائل : لماذا يحترم الشعب الفرعوني الجنسيات الأجنبية ويحتفي بها ، وفى الوقت نفسه يحتقر بعضه بعضاً ويزرى ببعضه إلا من كان مسئولاً يملك سوط السلطة أو نبوت الشرطة ؟

وكأنّ السائل يعتب علىّ ما كتبته من قبل في تحميل الفرعنة للشعب والحكام معاً ، ويُريد أن يُحمّل الشعب وحده المسئولية كاملة ، فهو الذي يصنع الآلهة ويعبدها ، وعليه أن يقبل ما يجرى له وفقاً لأمزجة الآلهة المصنوعة .

وقال لي آخر ونحن في صالة السفر بالمطار: انظر كيف يعاملون الأجانب ، ويبالغون في تكريمهم ، بينما المصري إلا إن كان ذا حيثية سلطوية أو منسوبة إلى السلطة تتم إجراءاته فوراً ، ويجد من يساعده ، ومن يوسع الطريق للباشا ، ومن يأخذ أوراقه ليتجاوز بها العجائز أمثالك أو من يتوكأون على عصا مثل عصاك !

حتى من كان مسئولاً سابقاً ، يصعب عليه أن يقف في الصف ، أو يبحث عن حقائبه بنفسه ، أو يدفع عربة الحقائب بيده . هناك من يأتي ، أو يحرص على من يأتي ليقوم له بكل شيء على أن يكون من غير عمال المطار أو موظفيه ، ليتحقق له التميز والمغايرة والحرص على " البريستيج " .. ويضيف المتحدث ، ألم تر الرئيس السابق كارتر ، وهو يمضى في مطارات واشنطن ولندن وشرم الشيخ ، وهو يدفع عربة الحقائب بيده ويقف في الصف مثله مثل غيره من الناس دون أن يعانى من مركب نقص أو إحساس بالدونية أو شعور بتورّم الذات ؟

شارك في الكلام مسافر كان يجلس قبالتنا ، فذكر أن المصري لا قيمة له في أي مكان إلا إذا كان مربوطاً بحبل السلطة  أو الرشوة ، وأن العيون الزرق لها الأفضلية العليا على العيون السمر في شتى المواقف والمناسبات ، وضرب مثلاً أعادنا إلى الحادث الإرهابي في الأقصر قبل عشر سنوات أو أكثر ، حين عوقب وزير الداخلية على الهواء أمام الدنيا كلها ، وعاد راكباً قطارا يعد الفلنكات ويقطع المسافة إلى القاهرة في وقت طويل ، وكان قد ذهب إلى الأقصر في الطائرة السريعة مرافقاً للرئيس ! هل تعرف السبب ؟ كان الضحايا من أصحاب العيون الزرق ، أي من غير المسلمين ، وهؤلاء قيمتهم عالية للغاية ، ويجب التكفير عن الجريمة التي ارتكبت في حقهم بكل الوسائل ولو كانت الإطاحة بأكبر رأس في جهاز الأمن علناً وعلى رؤوس الأشهاد ! تأمل الفارق عندما جرت حوادث دهب ونويبع وشرم الشيخ ! لم يحدث شيء ذا بال ، لأن الأغلبية الساحقة من الضحايا كانوا من أصحاب العيون السود ؛ أي من المصريين البائسين ، وهؤلاء لا ثمن لهم ولا قيمة !

تدخل السائل الأول ، وأصرّ أن الشعب المصري يحمل في جيناته الآن ، بحكم التراكم التاريخي ، كرات دموية خاصة قوامها العبودية والقابلية للاستعباد ، تجعله يركع دائماً أمام القوة أو السلطة ، سواء كانت داخلية أو خارجية ، مادية أو معنوية ، والأمثلة كثيرة على ذلك عبر التاريخ ، وانظروا اليوم كيف يخضع أستاذ الجامعة لأمين شرطة أو ضابط صغير ، وكيف تكون الحظوة والتدليل لبوق إعلامي أو مطبل أجوف أو مشخصاتي  أو زمّار مأجور على أهل العلم وقادة الفكر وروّاد الثقافة والعاملين في الحقول والمصانع والأسواق والمواقع المختلفة .. إن العنصرية تكاد تمزّق المجتمع وتفتك بمكوّناته ، وتظل متوهجة إلى أن تصطدم بالآخر الأجنبي ، فتختفي تماماً ، وتتحوّل إلى عبودية شاملة في اللغة والفكر والسلوك ، وتأمل تعامل السلطة القوية مع كيان الغزاة النازيين اليهود ، إنه انبطاح كامل ، لا يستطيع أن يرفع رأسه ولو بالكلام فحسب ، ناهيك عن أمريكا وبعض الدول العربية الغنية ! وتستطيع على ضوء ذلك أن تفسر ما يلاقيه المصري في الغربة من هوان واستضعاف واستذلال ، وهو ما حوّل بعض المصريين إلى منافقين محترفين يشي بعضهم ببعض لأصحاب الأعمال خوف انقطاع الرزق أو رغبة في الوصول إلى منفعة ، يستوي في ذلك العامل البسيط والخبير المتميز .

قال المسافر الذي يجلس قبالتنا ، أريد أن أشير إلى ما قاله الأستاذ الذي تحدث عن جينات العبودية أو القابلية للاستعباد ، التي تحدث عنها المفكر الإسلامي الراحل " مالك بن نبي " وإن كانت قد جاءت في سياق آخر ( القابلية للاستعمار ) ، والاستعمار والاستعباد مادتهما واحدة على كل حال ، العبودية في الإسلام جاءت من أجل الخالق سبحانه وحده ، وليس لأحد آخر ، بوصفه مالك الرزق والأجل حيث لا يملكهما سواه ، ومن يتأكد من ذلك ، فهو يعيش حرّاً نبيلاً في سلوكه وأخلاقه لأنه لا يخضع إلا لله وحده ، الذي قال جلّ شأنه : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ  إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " ( الذاريات : 56 – 58 ) .

ثم إن الحق سبحانه ، وصف المؤمنين به الذين يعبدونه بعباد الرحمن ، ووصفهم بأنهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقد بشرهم بالجنة جزاء على عبوديتهم الحقيقية له ، حيث لم يعبدوا غيره أو يشركوا به أحداً من خلقه وهم في كل الأحوال أصحاب العقول المضيئة : " وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ " ( الزمر : 17 – 18).

الإيمان يجعل العبودية لله شرفاً وميزة وطريقاً إلى الحرية في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، أما أخلاق العبيد فهي تختلف تماماً لأنها أخلاق فاسدة ، ينسى أصحابها وجود الله ، ويعتقدون أن المخلوقات المماثلة هي التي تملك الرزق وتستحق العبادة . وهؤلاء هم الذين يُسيّرون المجتمع المصري الآن ، وينخرون جسده كالسوس ، ويعيقون تطوره ، ويطرحونه ذليلاً مهيضاً أمام الغرباء والفاسدين حتى بدا مُثلةً يعبث بها كل مغامر وانتهازي !

قال واحد من المسافرين ، وكان صامتاً طوال الحديث ، أراكم تتحاملون على الشعب المصري كثيرا؛ فأبناء هذا الشعب هم الذين حققوا ملحمة العبور في رمضان 1393هـ ( أكتوبر 1973م ) ، وهم الذين يبدعون ويعملون داخل مصر وفى الوطن العربي والعالم ، ويظهر منهم المتفوقون والناجحون الذين تباهى بهم الدنيا ، وأمريكا نفسها تضم آلافاً من المصريين المتميزين في الإنتاج والعمل والبحث والمجالات الإنسانية الأخرى .

انفعل جارى ، وأشار إلى المتحدث ، وكأنه يختم الحديث ، حيث أوشكت الرحلة ، وسمعنا النداء للتوجه إلى باب الخروج من الطائرة :

يبقى أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، وأن الشعب الفرعوني من القوم الفاسقين ، فالعلو في الأرض والفسق لا ينتجان إلا هذا البؤس الذي نعيشه ولا حول ولا قوة إلا بالله . قوموا إلى طائرتكم يرحمكم الله .

              

هامش :

 صبيان الكنيسة في صحف التعري والسيراميك وصفوا الصحابي الجليل أبا هريرة - رضي الله عنه – براوي الأكاذيب !! .. هل يستطيعون أن يصفوا واحدا من قادة التمرد الطائفي في الكنيسة بمثل هذا الوصف ، أم إنهم يعلمون أنهم سيدفعون الثمن غاليا ؟