تجلّيات (الأنا) في السياسة
تجلّيات (الأنا) في السياسة،
وفي غيرها: بين اللاصقة، واللاعقة، واللاحقة!
ماجد زاهد الشيباني
* الأنا المقصودة ، هنا ، هي نزعة ( حبّ الظهور) ! وهي إحدى نزعات النفس البشرية ، بصورة عامّة ! فيندر أن تخلو نفس ، من هذه النزعة ، عبر الأزمنة والأمكنة ! وهي تولد مع الطفل ، ولا تموت في النفس ، إلاّ بموت النفس ، ذاتها !
* النماذج كثيرة جداً ، في حياة البشر المشاهير:
روي عن عمر بن الخطاب ، أنه حمل قربة الماء ، وهو خليفة للمسلمين ، ليسقي أناساً من جيشه .. فقيل له : لو شئت لكفيناك هذا ! فقال : أعجبتني نفسي ، فأحببت أن أهينها !
وروي عن الشاعر الأعشى ، أنه قال :
وقصيدةٍ تَـفد الملوكَ غريبة قـد قـلتُها ، ليقال : مَن ذا قالـها
· الفرق بين نزعة حبّ الظهور، لدى المرء ، وبين مصلحته .. واضح ، لايحتاج إلى شرح ! فالأولى : حالة نفسية داخلية .. والثانية : حالة خارجية ، مرتبطة بحسابات عقلية ، يقرّر المرء ، فيها ، ما فيه نفع أو ضرر، له..وماهو حاجة له ، أو ضرورة.. وما فيه ربح أو خسارة ! وهذه ، كلها ، لا تخلو من نزعات نفسية شتّى ، تصاحبها ، وتلابسها ، وتسهم في صناعة الموقف ، أو القرار ، المتعلّق بها ، سلباً ، أو إيجاباً !
· العناصر التي تقوّي نزعة حب الظهور ، كثيرة .. منها : المنافسة ، والتحدّي ، وأجواء المغالبة والتشاحن .. ونحو ذلك !
· العناصر التي تحدّ من نزعة حبّ الظهور، أو تهذّبها .. كثيرة ، كذلك ، منها : التربية والتثقيف والتعليم .. ومنها : بعض النزعات النفسية الأخرى ، الكامنة في النفس البشرية !
· قوّة حبّ الظهور، تتجلّى في حالات ثلاث ، كبيرة واسعة ، هي :
ـ حالة الملازمة الدائمة ، لدى بعض البشر، الذين لاتفارق (الأنا) صاحبَها ،عندهم ، في كل قول ، أو سلوك ، أو موقف.. في أيّ أمر من أمور الحياة ، الخاصّة والعامّة ! فالمبتلى بهذه الحالة ، لا يقول قولاً ، أو يفعل فعلاً ، إلاّ ليرى نفسه ، ويُري الآخرين نفسَه ، في هذا القول ، أو الفعل ! وكأنه يقول للناس : انظروا ، ياناس .. ها أنذا .. هاهنا .. وعليكم أن تُعجبوا بي ، وأن تثنوا عليّ ، وأن تَلهجوا بذكري ، في صباحكم ومسائكم ، وفي مجالسكم الخاصّة والعامّة ! وواضح ، هنا ، أن (الأنا) هي حالة لاصقة ، لا بالمرء ، فحسب ، بل ، بكل ما يقول ويفعل ! وهذه الحالة ، هي أشدّ حالات الابتلاء ، بالأنا ، أو نزعة حبّ الظهور.. لأنها قد تفسد على المرء ، الكثير من أمور حياته الخاصّة والعامّة .. وربّما تفوّت عليه مصالح كثيرة ، إذا حصل تنازع ما ، في داخله ، بين الأنا ، وبين القدرة العقلية على حساب المصالح ، بشكل منهجي موضوعي ؛ إذ يطغى عليه حبّ الظهور، فيغلبه على نفسه ، ويضحّي بمصلحة واضحة ، أو يوقع نفسه في مفسدة واضحة ، أو في خطر واضح ! أمّا إذا كان التنازع بين حساب مصلحة عامّة ، وبين الأنا اللاصقة هذه.. فقد تسبّب هذه الأنا، كوارث ، لمن لهم علاقة بهذه المصلحة العامّة ، المضيّعة ، أو المهدورة .. أو المنحّاة جانباً ، لتحلّ محلّها ، الأنا اللاصقة ، لدى الفرد المبتلى بها ، والذي وضعته الأقدار، في موقع صناعة القرارات للآخرين ! فهو يصرّ على مايراه ، هو، يحقّق له بروزاً ، أو شهرة ، أو إعجاباً ، لدى الآخرين .. حتى لو عارضه كل مَن حوله ، وأثبتوا له ، بالأدلّة الواضحة ، أن موقفه غير سليم ، وأن طريقته في الحساب فاسدة ، أو مؤذية ، أو مدمّرة ! ( وقد يميل بعض الناس ، إلى تسمية هذه الحالة ب : النرجسية !) .
ـ الحالة الثانية : هي حالة النزعة المصاحبة ، غير اللاصقة .. وهي التي تبرز فيها نزعة حب الظهور ، حيناً ، وتغيب حيناً ، وتطلّ برأسها ، في أثناء الفعل ، على استحياء ! فإذا كبحها صاحبها ، غابت عنه ، لتعود من جديد ! وقد تظهر بعد القول ، أو الفعل .. لتؤكّد وجودها ، فتلعق من الآثار الإيجابية ، للقول أو الفعل .. ما تحافظ به على وجودها ، أو رفعة شأنها .. دون أن يتمكّن المرء من قمعها ، تماماً .. ودون أن يسمح لها بالهيمنة عليه ، وعلى أقواله وأفعاله.. ويمكن تسمية الأنا ، في هذه الحالة ، ب : اللاعقة !
ـ أمّا اللاحقة ، فهي التي تبرز في نفس صاحبها ، بعد القول أو الفعل .. دون أن يكون لها أيّ تأثير، في توجيه المرء ، نحو ما يقول أو يفعل ! وبروزها بعد القول ، أو الفعل ، ظاهرة صحّية جيّدة .. لأنها تَدخل في إطار محاسبة النفس ، ليعرف المرء ما أخطأ فيه ، وما أصاب .. فيراجع نفسه ، إذا كان مخطئاً ، ويحمد الله على الصواب ، إذا كان مصيباً . وهذه الحالة ، هي أرقى حالات النفس ، وأسماها !
* واضح أن التقسيم ، هنا ، لحالات النفس البشرية ، يختلف عمّا أورده علماء التفسير، عن حالات النفس الثلاث ، الواردة في القرآن ، وهي : الأمّارة التي تأمر بالسوء .. واللوّامة التي تفعل السوء ، وتلوم ذاتها عليه .. والمطمئنّة التي لاتأمر إلاّ بخير! فالتقسيم الأخير، هذا ، إنّما يشمل النفس ، بسائر نزعاتها ، لابنزعة حبّ الظهور، وحدها ! بينما الحديث في هذه السطور، منصبّ حول نزعة حبّ الظهور، وحدها ، وهي إحدى النزعات الإنسانية !