ترف الرواية

راجي بطحيش

[email protected]

سألتني فتاة جميلة: راجي لماذا لا تكتب رواية طويلة ...أو مجرد رواية!

أجبت نفسي بسرعة بإجابات أصبحت كالأسطوانة المشروخة (ولنكن عصريين..كالقرص المصاب بالجراح)..

أولا: كتابة الرواية الطويلة أمر ممل يجعلك تكره الشخصيات وتلعن الساعة التي جاءتك الفكرة وجلست فيها لتكتب على الأقل هذا ما قاله شيخ الروائيين الراحل قبل أيام "الطيب صالح" في مقابلة متلفزة شبه أخيرة وتلخيصية

ثانيا: يجب ان يكتسب الروائيون تجربة  حياتية غنية وهذا ما يفسر سبب  أن معظم الروائيين العرب هم شيوخا ، فإذا أنا يا عزيزتي ما زلت صغيرا جدا على كتابة الرواية ... 

ثالثا: بما أن الرواية هي فن مديني – بمعنى أنها وليدة المدن الكبرى وليس الأطراف ...وبما أننا لا نملك مدينة فلسطينية حقيقية ونعيش في مجمعات قروية ماسخة وبما ان الجميع يذكرنا ليل نهار أن  الناصرة ليست مدينة بل هي إتحاد من القرى تطمح (عبثا) كي تصبح مدينة ...وبما أن الخاصرة العربية من حيفا ليست مدينة بسبب شفافيتها الفضائحية والقدس محاصرة وتل أبيب مدينة اللحظة الخائنة ورام اللة فندقا للاجئي وبقايا التسويات والحلول الوسط  فإنني بحاجة ان أستقر في بيروت كي أكتب رواية طويلة(حجة ممتازة كي لا أكتبها) ...إذا فبانتظار الحل البيروتي ...سأكتب المزيد والمزيد من المقالات ..والقصص المهشمة أطرافها على صخور الغرائبية ...والنثر الحر..والنثر الشعري.. الخ ...الخ... 

يعرف الجميع وأنا أولهم ان هذه الحجج واهية ...مع انها تبدو منطقية ...فمن يتجول في المعارض المقامة محليا بأعقاب معرض القاهرة للكتاب لعام 2009 بإستطاعته ملامسة حجم الأزمة الروائية وليس فلسطينيا وحسب ...

فلا عنوان فلسطيني جديد لرواية حقيقية...أي عنوان!!

هنالك نصوص...الكثير من النصوص التي هي ليست رواية ...الرواية هي أصعب ما يمكن كتابته لأنها عالم يتوجب بناءه بعناية ومنهجية ومهنية ...عالم يشمل السرد والشعر والبحث والتدقيق والصبر والرغبة بمرافقة الشخصيات حتى نهاية الكتاب وما بعد بعد ذلك...

ثمة شروطا مهنية يجب أن يمنحها المناخ للكاتب لتشييد مشروعه الروائي كي لا يكون مبتورا..وناقصا..ومتسرعا ..وما أسوأ ان يكتب الكاتب روايته على عجلة وبإرتباك وبهدف التخلص منها ولفظها ..ليندم على ذلك بقية حياته....أو ربما لا

ما لفت انتباهي من إصدارات هذا العام هو ذلك الكم الكبير  من الكتب التي لا تتعدى التسعين صفحة تحت تسمية روايات تعاني من "انيميا" وبخل غير مفسر بالنص وبتكثيف مرعب باللغة وكأن كاتبيها خافوا على انفسهم من التماهي أكثر من اللزوم بنصهم ..أو أرعبهم ذلك الإستحقاق الروائي فانسحبوا خارج الفعل السردي وتركوا ما كتبوه تحت التسمية الحرجة ل"رواية" وتمتاز بذلك دور نشر مثل "العين"الحديثة المصرية و"ميريت" الأكثر شهرة بعشرات "الروايات" التي تقذف بك خارج تجربة القراءة قبل خطوة واحدة من الانغماس فيها...والملاحظ هذا العام أيضا أن آخر  منشورات دار نشر عريقة كالآداب البيروتية تتميز بقصر النفس ذلك الذي أتحدث عنه...

يحتاج الكاتب منا الى ناشر طموح ومثقف يرافق عمله حتى اثناء العمل عليه كما يحتاج الى شروط حياتية ومعيشية يتحقق من خلالها العمل الروائي بدقة ...كما لا يمكن تحقيق طول النفس الروائي إن لم يتوفر للمبدع حد أدنى من النتائج الواعدة

بداية من مناخ يستوعب العمل، مرورا بحقوق دنيا من الدعاية والعلاقات العامة والمقابل المادي ...مرورا بحركة نقدية جادة بعيدة عن المداعبات المتبادلة ...لا يمكننا ان ننتظر من جيل كامل ان يؤسس ويطور فن روائي...هكذا..دون شروط..ودون ناشر..ودون مقابل...ودون جاهزية مجتمعية...فكيف يمكننا ككتاب فلسطينيين تشكيل مشهدا روائيا منافسا عالميا وسط هذا الوجود المتشظي والمشروط بعنواين الأخبار وزحام الأحداث وذاكرتها القصيرة وتفوقها أحيانا على أية رواية مفترضة وكل ذلك دون وجود لأي قاعدة للصناعة السردية الطويلة تخرجنا من الواقع لحين وتمنحنا ترف ممارسة الرواية لحين أيضا.