قرنفل غزة الحزين
قرنفل غزة الحزين
توفيق أبو شومر
خبرٌ تناقلته كلُّ وسائل الإعلام ، جاء في صورة مكرُمة من السلطات الإسرائيلية يقول :
سمحت إسرائيل بتصدير خمسة وعشرين ألف وردة من مزارع الورود في قطاع غزة إلى العالم !
وللعلم فإن هذه المكرمة الإسرائيلية تجيء ضمن سلسة من المكرمات الإسرائيلية المتوالية !! ومنها :
مكرمة السماح بإرسال ثلاثين شاحنة محملة بأغذية لحديقة حيوانات غزة كما ورد في صحيفة يدعوت أحرونوت4/2/2009 :
" قام مسئولو رعاية الحيوان في إسرائيل بتقديم 30 شاحنة محملة بالغذاء والأدوية من أجل حيوانات غزة ".
ومن ضمنها أيضا مكرمة إنشاء مستشفى ميداني عسكري إسرائيلي لعلاج الجرحى والمصابين المدنيين الفلسطينيين بالقرب من حدود قطاع غزة عند معبر إيرز .
ومن ضمن المكرمات التي ما تزال تتناقلها الألسنة في غزة قصة الرأفة والرحمة التي رافقتْ الغزو العسكري لقطاع غزة ومنها مكرمة قام بها أحد ضباط جيش الدفاع عندما أحضر طبيب سرية الدبابات التي اقتحمت حي تل الهوا دواءً من صيدلية الدبابة لمريضٍ مُسنٍ .
ومن قصص المكرمات الإسرائيلية أيضا أن طائرة من نوع الأباتشي نقلت امرأة مسنة لم تتمكن من مغادرة منزلها إلى المستشفى الميداني ، فقام أطباء جيش الدفاع بعلاجها أسبوعا لتعود صحيحة معافاة !
هكذا إذن شرع الإعلامُ الإسرائيلي في طمس الجرائم التي ارتكبها في حقنا باستعمال أسلوبٍ إعلامي جديد، وهو أسلوب (المحاسن تطمس المساوئ) اعتمادا على أن " ما يتذكره العربُ في الغالب ، هو ما يحدثُ أخيرا" ، فهم سريعو النسيان ، يغفرون الذنوب ما تقدم منها وما تأخر !
وعند تحليل مكرمات جيش الدفاع فإننا سنصاب بالصدمة.
أما بالنسبة للمكرمة الأولى وهي مكرمة السماح بتصدير ورود القرنفل الغزية إلى أوروبا وعددها بالتمام والكمال خمسةٌ وعشرون ألف وردة فقط لا غير !
مع العلم بأن أثر الجرافات الإسرائيلية والدبابات التي حوّلتْ مزارع العنب والطماطم وكذلك مزارع الورود إلى حطام ما تزال ماثلة أمام أعيننا حتى الآن ، كما أن الحقول الناجية من الدمار والمساحات الزراعية هي أقل بكثير من ربع المساحة التي كانت مخصصة للزراعة في غزة قبل العدوان الأخير.
كما أن نجاة بعض مزارع ورود القرنفل الغزية، كان بمحض الصدفة ، لأن للقرنفل صفات الصمود، مثل صمود غزة بالضبط ، فهو نوع من أنواع الورود التي تصبر على العطش، وتكافح الآفات ، وتتحمل سيقانها الرياح .
وبالمناسبة فإنني أقترح أن يكون شعار غزة هو زهرة القرنفل مضافا إلى شعارها الرئيس وهو العنقاء ، فقد واظبتُ غزة أن تزرع القرنفل في دمارها وتسقيه من دم أبنائها ليحتفل به العالم رمزا للحب بينما يستخدمه الغزيون بكثرة في بيوت عزائهم كرمز على الوفاء لذكرى من قضوا !
فقد استعملت شعوبُ العالم ورد القرنفل استعمالات شتي في الحب والوصال ، وفي الهجر والانفصال ، وفي الولادة وجنازات الموت ، وفي الأمل والألم والشقاء ، وكرمز على الصداقة وشعار للثورة ، وجعلته تكريما للآباء والمعلمين ، ووصفته دواء مطهرا من الفساد .
واعتبرت المسيحيةُ القرنفلَ بلونه الحقيقي الأحمر الفاتح رمزا للمسيح وهو يحمل الصليب وللعذراء وهي تبكي على المسيح .
حتى أن جامعة أكسفورد جعلته رمزا لأقسام اختباراتها ، فاللون الأبيض للاختبار الأول ، أما اللون الوردي الفاتح فللاختبار المتوسط ، أما الأحمر القاني فهو رمز لاختباراتها النهائية.
أما عن المكرمة الإسرائيلية الثانية فقد خًصِّصتْ لحديقة حيوانات غزة حتى يبثوا رسالة بأنهم من أنصار البيئة ، وهذه المكرمة هي غريبةٌ عجيبة لأنني كنتُ أول من دخل حديقة الحيوانات في الزيتون بعد خروج الدبابات الإسرائيلية منها ، فقد أفزعني المنظر لأن الجيش الإسرائيلي أعدم كل حيوانات الحديقة ما عدا أسدين فقط ، ولا أدري لماذا لم يطلق الجنود عليهما النار ، ويبدو أنهم أبقوهما أكثر من عشرين يوما بلا طعام حتى يتوحشا ، وما أزال أحتفظ بصور القتل المتعمد للجمل والفرس والنعامة والقطط بمختلف أنواعها كذكرى لإساءة الجنود إلى براءة الحيوانات على موبايلي الشخصي ، وما أزال أحتفظ بصور بقايا أجساد الحيوانات الأخرى التي تغذت على بقايا رفاقها في حديقة الحيوانات . وما أزال أحتفظ بصورة أحد الكلاب من الفصائل النادرة وهو في مرحلة النزع الأخير ويعود السبب كما أفاد طبيبٌ بيطري إلى تسمُّمه بالغازات.... عاشت المكرمة التي أعلنتها وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية على صفحاتها الأولى !!
ومن طرائف ما ورد في الصحف الإسرائيلية ، أن بعض الجنود أنقذوا كلبين من كلاب الحديقة ، أو سرقوهما من الحديقة ، أو اعتقلوهما للاستعباد والأسر، وأطلقوا على الأول اسم : غزة والثاني اسم : الزيتون .
أما عن المكرمة الإسرائيلية الثالثة فقد كانت إنشاء مستشفى ميداني على حدود قطاع غزة لعلاج جرحى غزة ... يا سلااااااااا م !
وكأن هناك جهةٌ غير جيش الاحتلال هي التي سبَّبَتْ الجروح في غزة باستعمالها كل أنماط الأسلحة الفتاكة الجديدة من الحارقات والمتفجرات والمشعلات غير القابلة للإطفاء في عالمٍ يناضل من أجل مكافحة التصحُّر وإطفاء النيران ، وكأنهم كانوا يريدون أن يروا أثر السلاح على الأجساد حتى يكتمل تسويق السلاح الفتاك الجديد، حتى وإن كان الثمن هو أجساد الأبرياء !
أما عن المكرمة الرابعة فقد كنتُ شاهدا عليها أيضا، فبعد أن قام الجنود بمداهمة البرج السكني الملاصق لبيتي ودمروا شقة أحد الأبرياء وأطلقوا النار على محتويات البيت، ثم أخرجوا كل النساء والأطفال من البرج السكني ومنهم أبناء رجلٍ مريضٍ كبير السن ، وأطلقت الدبابات النار فوق رؤوسهم ، ثم عادوا مذعورين ، ثم طُردوا من جديد إلى حيث لا يعرفون
مما أدى إلى أن يصاب هذا الرجل المُسن البريء بهبوط حاد في دورته الدموية ، ولم تعد الروايات والقصص المتداولة تذكر أن يديه كانتا مقيدتين برباط بلاستيكي قوي يمنع تسرب الدم إليهما مدة ست ساعات بكاملها ، وكان لضخامة جسده عاجزا عن الوقوف أو الجلوس وهو مكبلُ اليدين.
كلُ ما تذكره القصص ، هو فقط أن طبيب السرية قام بإسعافه وأحضر له شريطا من الدواء ! عاشت المنظومة العسكرية الإسرائيلية الرحيمة الشفيقة ، التي تدلُّ على حسن أخلاق جنود وضباط جيش الدفاع !
أما عن المكرمة العسكرية الإسرائيلية الخامسة ، وهي قصة سمعتها من أحدهم وهو يسردها تقول الرواية :
إن طائرة الأباتشي التي كانت معول هدم غزة ، ومفجرة أجساد أبناء غزة ، وصائدة المشاة والباحثين عن الطعام تحولت فجأة إلى طائرة الرحمة ، طائرة إسعاف رهيفة وشفيقة وعطوفة !! حين هبطت بالقرب من شاطئ البحر بجوار أحد المنازل الفلسطينية وحملت امرأة عجوزا تعاني من أمراض الشيخوخة ، فعالجها أطباء جيش الدفاع أسبوعا في مستشفى فاخر ومنحوها الدواء والأكل ، ثم طلبوا سيارة إسعاف فلسطينية لتعيدها إلى منزلها بعد الانسحاب .
ولم تُشر القصص إلى أن العجوز فقدت منزلها بعد أن قُصف – ربما - من الأباتشي ذاتها ومن الزوارق البحرية التي تُطل على منزلها ،وفقدت أيضا عددا من أفراد عائلتها ممن يسكنون شرق غزة .
هكذا إذن للمرة الألف يُحسنُ الإسرائيليون استخدام إعلامهم في التضليل ، مستغلين أبرز العاهات العربية المستديمة، ومنها ؛
عاهة عدم الاستفادة من التجارب السابقة ، وعدم فهم مخططات جيش الاحتلال ، إما بمنحهم ذرائع مجانية لإنجاز مهماتهم المدمرة الخطيرة، وإما باستعمال إعلامنا استعمالا حزبيا ارتجاليا يُثير، ولا يُعلم ، يبثُّ الفرقة والشرذمة ، ولا يسعى لرأب الصدع .
وإذا أضفنا إلى ذلك عاهة الخوف من مُواجهة أخطائنا بجرأة وبصراحة لغياب الديموقراطية المضادة للخوف .فإننا نعثر على أسباب التي تظل تجرنا إلى الخلف بخاصة في أوقات الشدة.