معركة فحل بيسان ( 33)

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

معركة فحل بيسان ( 33)

د. فوّاز القاسم / سوريا

وبينما كان المسلمون يحاصرون دمشق ، جمع الروم قوّة جديدة في الجنوب ( في منطقة بيسان ) لضرب شرحبيل بن حسنة ، وقطع الإمدادات عن المسلمين من جزيرتهم العربية ، كما حرّك هرقل قوة أخرى من انطاكية إلى بعلبك لدعم حامية دمشق المحاصرة ، فاستشار أبو عبيدة خالداً رضي الله عنهما ، وكعادته فقد كان خالد خصب الذهن العسكري ، حاضر البديهة ، فأشار على أبي عبيدة بأن يرسل عمرو بن العاص وجيشه لدعم شرحبيل ، ويتحرك هو لسحق القوة الرومية المتجمعة في بعلبك قبل أن تلتقط أنفاسها ، فأُعجب أبو عبيدة لرأيه ، وقال : ( نعم ما رأيت يا أبا سليمان  ).!

وفعلاً تحرك عمرو إلى الجنوب لدعم شرحبيل المهدد ، وتحرك خالد إلى الشمال الغربي لسحق القوة الرومية في بعلبك (على مسافة 80 كم من دمشق ) ، ولكنه فوجيء بتحرّكها إلى الجنوب عن طريق البقاع ، بين سلسلتي جبال لبنان الوعرة ، بعيداً عن أين خالد ، فقفل خالد راجعاً إلى أبي عبيدة ، وأخبره بالخبر ، ثم استأذنه بالتوجه فوراً على رأس قوة من الفرسان السريعة ليلحق بجيشي عمرو وشرحبيل قبل أن يشتبكا مع العدو ، فيشدّ ظهورهم ، ويرفع معنوياتهم ، ويعلم الروم أن مدد المسلمين قد أتوهم ، على أن يلحق به أبو عبيدة بجيشه ، ويبقى يزيد محاصراً لدمشق بجيشه ...

وتحرّك خالد بفرسانه يسابق الريح ، حتى نزل في منطقة فحل على الضفة الشرقية لنهر الأردن بين بحيرة طبريا والبحر الميت ، ثم لم يلبث أن لحق به أبو عبيدة وعمرو وشرحبيل رضي الله عنهم جميعاً ، ونزل الروم في بيسان من أرض فلسطين على الضفة الغربية من نهر الأردن  ، خلف فرع من فروعه يُقال له نهر جالود ...

كان الروم في الجانب الخصب من الأردن ، ولم يكن المسلمون في مثل ما كان فيه الروم من الخصب والكفاية ، ولذلك كان من مصلحة الروم الانتظار ليتجمع إليهم أكبر عدد من الجنود من القرى والرساتق التي تحيط بهم ، بينما كان من مصلحة المسلمين معاجلتهم فوراً ...

فبدأ المسلمون يغيرون بفرسانهم على القرى والرساتق والزروع للتحرش بالروم وقطع إمداداتهم ، ففجّر الروم سدود نهر جالود حتى أغرقت المياه المنطقة السهلة الفاصلة بين الجيشين ...

ثم جرت مفاوضات عقيمة بين الطرفين ، لم يثمر عنها أي شيء ...

وأصبح الصباح وقد صفّ المسلمون صفوفهم للقتال ...

ونهض أبو عبيدة بالمسلمين من فحل نحو بيسان ، ودنا منهم ، وتقدّمت قوات المسلمين تغير عليهم وتستفزّهم ، ولكنهم لم يحرّكوا ساكناً ، فعاد المسلمون في المساء إلى مواقعهم .

وفي اليوم التالي خرج إليهم خالد ومعه كتيبة من الفرسان الأشداء ، فاشتبك معهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم عادت فرسان المسلمين ، ولها الظفر ، وأما الروم فقد رأوا ما أصابهم من الوهن والهزيمة ، فانكسرت نفوسهم ، ووهنت أُصُرهُم ، وهابوا المسلمين مهابة عظيمة .

وأراد خالد أن يستثمر الهزيمة النفسية للروم ، فأشار على أبي عبيدة أن يكون الهجوم الساحق فجراً قبل أن يلتقط الروم أنفاسهم ، ويضمّدوا جراحهم ، فوافقه أبو عبيدة ، وقال : ( فانهضوا على بركة غداً بالغداة )

ولما مضى من الليل ثلثاه ، قام أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل ، فلم يزل يعبيء المسلمين ، ويصفّ صفوفهم ، ويحمّسهم ، ويحرّضهم ، حتى أصبح ..

فلما حان الفجر ، صلى بالمسلمين ، ثم قام من فوره ، فجعل على ميمنة الجيش معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وجعل على المشاة سعيد بن زيد ، وعلى الفرسان القائد المبارك خالد بن الوليد ، وبقي هو في القلب ، رضوان الله عليهم جميعاً .

وركب أبو عبيدة ، واستعرض الصف من أوله إلى آخره ، يقف على كل راية ، وكل قبيلة ، ويقول : ( عباد الله ، استوجبوا من الله النصر بالصبر ، فإن الله مع الصابرين . عباد الله ، أنا أبشّر من قُتل منكم بالشهادة ، ومن بقي بالنصر والغنيمة، فوطنوا أنفسكم على القتال ، والطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف ، والرمي بالنبل، ومعانقة الأقران ، فإنه والله ، ما يُدركُ ما عند الله إلا بطاعته ، والصبر في المواطن المكروهة ، والتماس رضوانه ، ولن تبلغوا ذلك إلا بالله    )

وكان من تدبير الله للمسلمين أن قائد الروم سقِلاّر بن مخراق ، كان قد قرر في نفس تلك الليلة ، أن يعبر بجنوده منطقة الأوحال التي بينه وبين جيش المسلمين ، ليبغتهم وهم نيام فيقضي عليهم بزعمه ، وفعلاً ، عبر منطقة الأوحال ، وتقدّم باتجاه نهر الأردن ، ولم يرعه إلا وجيش المسلمين يتقدّم في تعبئة تامّة ، وقد عبر نهر الأردن هو الآخر ، وصار أمام جيش الروم وجهاً لوجه ، كان ذلك في الثامن والعشرين من ذي القعدة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة ...

نظر خالد فإذا بصفوف العجم لا يُرى أولها من آخرها ، وقد قدّموا الفرسان ، وجعلوا جندياً على يمين كل فارس وشماله ...

وكعادته في الحرب فهو يبحث دوماً عن ثغرة ينفذ منها إلى أعدائه ، فهداه فكره العسكري الملهم ، إلى أن تدعيم فرسان الروم بمشاتهم ورماتهم قوّة لهم ، وأن أجنابهم من المشاة المجرّدة من الفرسان هي نقاط ضعفهم ، فقسّم فرسانه إلى ثلاث مجموعات ، جعل على الأولى فارس العرب ، قيس بن هبيرة المرادي ، وأمره أن ينقضّ على ميسرة الروم ، وقاد الثانية بنفسه لينقضّ بها على ميمنتهم ، وجعل على الثالثة ، البطل ميسرة بن مسروق العبسي ، وقال له : ( صفّف مقابل صفّهم في خيلك ، فإذا رأيتنا قد حملنا ، وقد انتقض صفّهم ، فاحمل على من يليك منهم )

ثم خرج خالد بميسرة فرسانه حتى انتهى إلى ميمنتهم ، فلما علاها ، وخاف الروم أن يلتفّ من ورائهم ، بعثوا إليه فرساناً لتشغله عن ذلك ، وكذلك فعل قيس بن هبيرة ، ففعلوا معه مثل ما فعلوا مع خالد ...

وكان ذلك ما أراد خالد ، أن يستدرج فرسانهم بعيداً عن مشاتهم ، ليفقدهم عنصر التعاون بينهما ، وتركهم يتقدمون إليه ، حتى إذا دنوا منه ، نادى : ( الله أكبر ، أخرجهم الله لكم من رجّالتهم ، شدّوا عليهم أيها المسلمون ).

فشدّ عليهم ، وشدّ معه أصحابه ، ووضعوا السيوف والرماح فيهم حيث شاؤوا ، وصرعوا منهم خلقاً كثيراً قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم ، وهكذا تمّ لخالد تصفية هذا الجناح من فرسان الروم ، وكذلك فعل قيس بن هبيرة في جناحه ...

قال الرواة : ( وحمل عليهم قيس بن هبيرة من قبل ميسرتهم ، فقصف بعضهم على بعض ، وقد تكسّرت في يده يومئذٍ ثلاثة أسياف ، وبضعة عشر رمحاً ) ...

فألف شكر لأمناء التاريخ الذين نقلوا إلينا هذا التراث الباهر ...!!!

وضغط المسلمون على الروم يقصفونهم ذات اليمين وذات الشمال ، ثم قتلوا قائدهم وخيرة أبطالهم ، وأظلم عليهم الليل وهم على ذلك ، ثم انهزموا شرّ هزيمة ، حتى غاصوا في الأوحال التي صنعوها للمسلمين ، وتبعهم المسلمون يصطادونهم بالرماح كأفراخ البط ، ولم يفلت منهم في هذه الملحمة إلا الشريد ...!!!

هذا هو تاريخكم يا أبناء الشام النجباء ، وهؤلاء هم أجدادكم ...

بطولة ، ورجولة ، وشجاعة ، وتضحية ، وجهاد ، وصبر ، ومصابرة ، وانتصارات مشرّفة ... فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونقتفي أثرهم ، ونجاهد جهادهم ، ونصبر صبرهم ، ونضحّي تضحياتهم ، حتى النصر أو الشهادة ...

هذا هو أملنا بعد الله ، بكم ، وبثورتكم المباركة ...

(( يا أيها الذين آمنوا ، اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلّكم تفلحون )) صدق الله العظيم