أودية .. وأصداء

عبدالله القحطاني

·  الكلام ، بطبيعته ، حافز : حافز إلى قول ، أو إلى فعل ، أو إلى تأمّل وتفكير!

·  تفاعل الناس مع الكلام ، يختلف من شخص إلى آخر، حسب نوع الكلام ، وطبيعة المتفاعل ، وظروف الكلام ، وسياقاته !

·  أنواع التفاعلات البشرية ، مع الكلام ، كثيرة ، متنوّعة .. يشملهما وصفان كبيران ، هما : الإيجابي والسلبي !

·  من أبرز وجوه التفاعل الإيجابي ، ما ذكره ، ذات يوم ، الشاعر الجاهلي ، طرفة بن العبد ، عن نفسه :

إذا القوم قالوا : مَن فَتى !؟ خِلت أنّني     عُنيتُ ، فلمْ أكسلْ ، ولمْ أتبلّدِ

فثقة الشاعر بنفسه ، هنا ، هي التي تتحكّم بتفاعله ، مع الكلام الحافز إلى المروءات ، والأعمال الهامّة ، والجليلة !

من أبرز وجوه التفاعل السلبي ، ماورد في الأمثال العربية ، الفصيحة والعامية ، في بيئاتها المختلفة ، من مثل :

(كاد المريب أن يقول خذوني !) .. (اللي في رقبته مسلّة تنخزه !) ..  (اللي على رأسه بطحة يلمّس عليها !) .

 ذلك ، أن إحساس المرء ، في أعماقه ، بأنه متّهم ، بأمر ما ، لا يحبّ سماع ذكره من أحد ، أو الإشارة إليه ، مجرّد إشارة .. هذا الإحساس السلبي ، يدفع الشخص المبتلى به ، إلى ممارسة ردود فعل عدائية ، تجاه من يذكر هذا الأمر! بل يَعدّ الإشارة إليه ، إهانة موجّهة إليه ، هو ، شخصياً ! أيْ : عدواناً على شخصه ، حتى لو لم يكن هو ، نفسه ، في ذهن القائل !

· ماذكر، أنفاً ، هو إشارة ، إلى بعض أنواع التفاعل ، النفسي تحديداً .. دون الحديث عن أنواع التفاعل العقلي ، الذي يحفز إلى التأمّل والتفكير، ونحو ذلك !

· لكل نوع من أنواع الكلام ، أصداء.. يتفاعل معها مَن يهتمّ بالصوت الذي انبثقت عنه، سواء أكان الصوت حافزاً نفسياً ، أم عقلياً .. وسواء أكان حافزاً سلبياً ، أم إيجابياً !

· أصداء الصوت الواحد ، تتكاثر في الوادي ، وتتوالد .. حتّى تشكّل نوعاً خاصاً من الموسيقى ، يطرب له بعض أصحاب الأصوات ، ويحسّ الكثيرون بالانزعاج منه !

· حين ينتقل الصدى ، من واد إلى آخر، قد يثير نوعا من الظنّ ، أو الريبة ، أو الشك، أو القلق ، أو الاحساس بوقاحة الاقتحام !

  نماذج :

1) الحكومات المستبدّة ، تحسب كل صيحة عليها ، حتى لو كانت من راع ، يرعى إبله أو غنمه ، في صحراء ، من صحارى إفريقيا ، أو أمريكا اللاتينية ..! فكل حديث عن الدكتاتورية وشؤمها ، وعن الديموقراطية ، وضرورتها للمجتمعات والشعوب المعاصرة.. هي نيل من سياسة هذه الحكومات ، وغضّ من شأنها ، وتهديد مبطّن ، غير مباشر، لها.. ووعيد لها ، بأنها ستزول ، يوما ما ، لأنها مستبدّة متسلّطة ! وكذلك ، كل حديث عن سرقة المال العام ، والثراء غير المشروع ، والظلم ، والقتل ، وخنق الحريات ، ونحو ذلك ! لذا ، فهي تبادر إلى خنق الأصوات ، والأصداء .. ولو كانت في واد بعيد عنها ، بعد المغرب عن المشرق ، أو بعد السماء عن الأرض ! فهي تَعدّ صاحب الصوت ، أو الصدى .. عدوّا لها ، متآمراً عليها ، يسعى للإطاحة بحكمها ! وبناء على ذلك ، تبادر إلى اعتقاله ، بحجج شتّى ، وذرائع مختلفة ! لأن الأمّة ، إذا سقطت من خريطتها ، هذه الحكومة أو تلك .. أصابها الوهن والضعف ، ثم الانهيار والدمار! فالحكم بالإعدام يُعدّ قليلاً ، بحقّ صاحب الصوت ، أو الصدى ، الأتي من ذلك الوادي البعيد !

· بعض النفوس البشرية ، تتوجّس خيفة ، من كل صوت يوحّد الله ! لأن توحيد الله ، يعني ، بالضرورة ، اتّهاماً لها ، بأشياء كامنة في رؤوسها ، لم تخطر في بال صاحب الصوت ، أو الصدى !

· بعض العناصر، ذات النزعة الشعوبية ، تنتفض غيظاً ، أو تتململ شكاً وريبة ، إزاء كل صوت ، أو صدى ، يذكر كلمة العرب ، أو العربية .. ولو جاء هذا الصوت ، أو الصدى ، من بطون التاريخ ، في كتاب قديم ، من كتب الجاحظ ، أو ابن قتيبة ، أو عالم من علماء الأجناس ، أو باحث في اللغات الشرقية !

· بعض الذين تضخّمت لديهم ذواتهم ، من أصناف البشر، يتوهّمون أن كل صاحب صوت ، أو صدى ، إنّما يعنيهم ، تحديداً ، حين يشير إلى نزعة من نزعات النفوس البشرية ، أو هوى من أهوائها ، أو طبع من طباعها ..! ولو جاءت هذه الإشارة ، في حلقة بحث دراسية ، في كلية من كليات علم النفس ، في إحدى جامعات أمريكا ، أو ألمانيا ، أو الهند ، أو موزامبيق ! وكذلك ، لو جاءت هذه الإشارة ، وليدة بيئة خاصّة بصاحب الصوت ، في مجلس خاصّ ، مجلس عمل أو حوار ، بين أفراد قبيلة أو أسرة ! فيبادر هؤلاء المتضخّمون ، من تلقاء أنفسهم ، بنقل الصوت ، أو الصدى ، إلى واديهم ، ليحلّلوا مافيه ، ويركّبوا عليه أشياء وأشياء ، لم تخطر في بال صاحب الصوت ، أو الصدى .. وربما لاتخطر في باله ، أبداً ، لأن لديه مايفكّر به ، غير هؤلاء المتوجّسين ، الذين يحسبون كل صيحة عليهم !

· خلاصة الأمر: إن كل ذي همّ ، أو عقدة .. يرى ويسمع ، من خلال همّه ، أوعقدته ! فالبخيل ، يظنّ كل حديث عن الكرم ، تعريضاً به ! والجبان يثير ريبتَه ، كل حديث عن الشجاعة ، ظاناً أنه نَيل غير مباشر، من جبنه ! والأحمق يستفزّه كل حديث عن الحكمة ، لأنه يحسّ في أعماقه ، أنه متّهم بالحماقة ، وأن الناس لا عمل لهم ، ولا همّ لديهم ، إلاّ الحديث عن حماقته ، تلميحاً أو تصريحاً .. حتى لو كانوا لايعرفونه ، ولا يعرفهم ، أو كان بينه وبينهم بعد الخافقين ، وكان كل منهم في واد سحيق ، من أودية همومه ومشاغله ، وشؤونه الخاصّة !

ولله في خلقه شؤون !