هل يستر اليسار الفلسطيني عورته

هل يستر اليسار الفلسطيني عورته! ؟

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

منذ طفولتي وامتدادا لأيام شبابي وحتى قبل شيخوختي ، كنت متأثراً إلى حد كبير بأفكار اليسار الفلسطيني ، وكنت أعتقد جازما أن طريق النصر والتحرير يأتي عبر اليسار الفلسطيني لا غيره ، وذلك من خلال العبارات والمعاني الثورية الراقية ، والثقافة الغزيرة الواسعة التي كنا نتشربها ، ومع التجارب وشدة وقع الأحداث الميدانية فلسطينيا وعربيا وعالميا ، ومع تدني منزلة اليسار الشعبية والسياسية والتنظيمية ، أدركت شأن الكثير غيري ، أننا كنا نلهث وراء سراب لا وجود له ، رغم عطشنا الشديد وتضحياتنا الكبيرة .

وبعيدا عن التصنيف لألوان اليسار وتوجهاته ، فاليسار بمجمله سقط سقوطا مدويا ، وفشل فشلا فاضحا في مسيرته السياسية ، وحركته الكفاحية ، وأيديولوجياته البراقة ، على الرغم مما يملك من قوة فكرية هائلة ، وثروة لغوية كبيرة ، وفذلكة كلامية عالية ، ومهارة في التعبير .

كان لهذا التراجع الخطير أسبابه وتأثيراته ونتائجه ، فلقد تدنت شعبية اليسار إلى حد التلاشي تقريبا ، وهي الأسباب والتأثيرات والنتائج التي نشهد معالمها اليوم مشرعة في كل مكان ، ولا تحتاج إلى برهان أو دليل من أحد .

أعلن اليسار الفلسطيني كاملا وبكل توجهاته السياسية إفلاسه ، من خلال كثير من السلوك السياسي والنهج الفكري ، عبر حوالي تسعين عاما من العمل والعطاء على الساحة الفلسطينية ، أي منذ سنة ( 1920 ) تقريبا ، عندما نادت بعض قواه إلى تحرير فلسطين من خلال الورقة والقلم ، واتهام معارضيه وخصومه السياسيين بالدموية والتهور وضيق الأفق والتبعية للإمبريالية العالمية ، وانخرط بعض ألوان اليسار الفلسطيني بعد ذلك في الأحزاب والحركات اليسارية الإسرائيلية ، مثل راكاح وماتسين والمابام وشينوى ، ثم عاد ليؤكد إفلاسه اليوم من جديد من خلال دعوته إلى دولة علمانية واحدة ثنائية القومية ، ومنهم من دعا من قبل إلى تحرير كامل تراب فلسطين ، وإقامة دولة فلسطين العلمانية الواحدة ، على أنقاض كيان الاحتلال بعد زواله عن أرض فلسطين ، يعيش فيها كل أتباع الأديان جنبا إلى جنب .

لقد سيطر اليسار الثوري الفلسطيني على جنوب لبنان في حقبة السبعينات ، وتعرض من قبل تلك السيطرة ومن بعدها لانشقاقات كثيرة ، وفي ليلة وضحاها ينسحب اليسار الفلسطيني المقاتل من جنوب لبنان ؛ ليحل محله قوى اليمين الفلسطيني ، بعملية مسرحية مضحكة مبكية .

وقدم اليسار الفلسطيني عشرات الشهداء الذين دفعتهم غيرتهم وحبهم لفلسطين ، قرباناً على مذابح الحرية ، من خلال عمليات التسلل الفدائية إلى فلسطين المحتلة ، ومن خلال عمليات فدائية على مختلف الساحات من دون أدنى دراسة ولا تقييم ، فكان سرعان ما يتم قتلهم أو إلقاء القبض عليهم ، من أجل ثمن إعلامي مضمونه ، أن اليسار الثوري الفلسطيني حاضر هنا لا يغيب .

ولا يمكن تقزيم أو تجاهل الدور الريادي الذي لعبه اليسار الفلسطيني ، في المواجهة والتصدي في حقبتي السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات ، وما قدمه من تضحيات جسام ، فقد اعتقل من رجال اليسار الألوف في باستيلات العدو ، والنظام العربي الرسمي ، عبر مسيرة نضال طويلة ، كما كان له وجودا قويا في إلغاء محاولات توطين الفلسطينيين في سيناء في حقبة الخمسينات ، و شارك في المسيرة الوطنية التاريخية الطويلة للشعب الفلسطيني على كل الجبهات ، ونجح في بناء التلاحم العضوي مع جميع قوى اليسار الثوري في العالم ، ولكن أين اليسار الفلسطيني اليوم ....! ؟ .

لقد ضعف الأداء المؤسساتي والخدماتي لقوى اليسار الفلسطيني ، وغابت الكثير من الأطر التي كانت تقدم خدمات جليلة للشعب الفلسطيني مادية ومعنوية ، واندثرت العلاقة العضوية المتفاعلة بين جموع الجماهير وأجسام اليسار وأطره ومؤسساته المنبثقة عنه ، ولم يعد الحديث إلا عن تواجد جماهيري قليل ومحدود في ذكرى هنا أو هناك ، لا ترتقي إلى مستوى المرحلة أو الحدث أو المسيرة النضالية الطويلة ، وضعف إلى درجة الغياب كل نشاط إيديولوجي أو سياسي لقوى اليسار ، ولم يعد مؤثرا إلا على عناصر محدودة لا ثقل لها في الميدان ، وتحول الكثير من قادة اليسار إلى مخاتير ووجهاء ومصلحين ، في الأحداث الدامية والمؤلمة التي وقعت بين فتح وحماس ، بدلا من الموقف الضاغط والمؤثر والتي يجب أن تنسجم مع مسيرة تسعين عاما أو حتى ستين عاما من النضال ، ولم يتمكن اليسار من فرملة مشروع التسوية السياسي ، وهو يتحمل جزءاً كبيرا من مسئولية ما آلت إليه الأمور اليوم .

كما لم يتمكن من تأسيس أية قوة يسارية جديدة منذ قدوم السلطة !! . وكان لكثير من قادة اليسار موقف الانتهازية مقابل حفنة من الدولارات ، ولهثوا وراء امتيازات ومصالح هنا وهناك ، وتحول الكثير من قادته إلى مدراء جمعيات ومؤسسات رسمية وشعبية ، ومنهم من انخرط ضمن خارطة النظام العربي الرسمي ، وكأنه لم يكن يساريا ولا ثوريا في يوم من الأيام !! .

ورغم تقارب الأهداف والمبادئ بين قوى اليسار الفلسطيني ، إلا انه لم يكن بين جميع قوى اليسار علاقة إستراتيجية ، بحيث تنسجم من خلالها الأهداف مع المواقف ، كما وقع كثير من المناكفات العلنية والسرية بين قوى اليسار، وكأن العلاقة التي تحكمهم هي علاقة المصالح الحزبية لا الوطنية، رغم الثوابت المشتركة الكثيرة التي تلتقي قوى اليسار حولها.

اليوم يمر اليسار الفلسطيني كله بضائقة كبيرة ومتعددة الأوجه ، منها الضائقة الوجودية والتنظيرية والسياسية ، والأيديولوجية والمالية ، يجب أن يتحمل قادته التقليديين المسئولية الأخلاقية على الأقل عن ذلك كله ، فالعمل الثوري ليس وراثة مَلَكية ، كما يجب العمل بمبدأ المحاسبة وإتباع نهج الشفافية .

فهل انحدرت جميع قوى اليسار الفلسطيني إلى درجة جعلت من المستحيل عودته بشكل جديد فاعل ومؤثر ....أم أنه التعليل والتبرير والفذلكة وما إلى ذلك من النعوت والمفردات التي يمجها الفكر الثوري والعمل النضالي والنهج الوطني الحر الشريف ، بحيث نجعل من تلك الأوصاف والنعوت والفذلكات والتبريرات شماعة نعلق عليها غسيلنا الوسخ .

تجربتي مع اليسار طويلة وشاقة ، حتى شاب شعري ، وانحنى ظهري ، وضعف بصري ، وأخذ مني العمر مأخذه.