الاختلاف سنة إلهية والائتلاف مطلوب
الاختلاف سنة إلهية والائتلاف مطلوب
طريف السيد عيسى
الإختلاف والتباين بين الناس في الأفكار والإتجاهات سنة ربانية لايمكن مغالبتها , لكن بالإمكان العمل على ضبط الإختلاف وفق قواعد الإئتلاف .
يقول الله تعالى في محكم التنزيل ( ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ) سورة هود 118-119.
ومن أهم قواعد الإئتلاف : نتعاون فيما اتفقنا عليه , ويعذر بعضنا بعضا فيما إحتلفنا فيه .
وأيضا من قواعد الإئتلاف أن نزيل من قاموسنا الضمائر : أنا , هم , ونستبدلهم بضمير : نحن .
إنه من المستحيل إعطاء الصواب المطلق لشخص ما أو جهة ما مهما علا الشأن , ورحم الله الإمام مالك فقد قال : كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم .
فكل عنده من الصواب ماعنده ولديه من الحق مالديه , وأيضا عنده من الخطأ ماعنده ولديه من الشطط مالديه .
لكن المطلوب أن نضع الخطأ في مكانه الصيحيح ولا نضخمه وننفخ فيه حتى نجعل منه كارثة مابعدها كارثة كي نكسب تعاطف الناس مع وجهة نظرنا , وأعتقد أن هذا الأسلوب مما يسمى بالتدليس على الناس .
كما أنه من الخطأ الفادح أن نوهم القارئ أن نقدنا لهذا الخطأ إنما هو بسبب الخروج عن ثوابت الدين وأصوله , وعندما نرجع لثوابت وأصول الدين التي أفرد لها أهل العلم المصنفات فلانجد أي خروج عن هذه الثوابت والأصول , وهنا نسأل المنتقد : بأي حق توهم الناس وتدلس عليهم فتتألى على الله وتتهم من لاتتفق معه بأنه خرج عن الثوابت والأصول ؟؟؟
سلفنا الصالح رضي الله عنهم اختلفوا لكن لم يتطرقوا لدين بعضهم البعض , فما بالنا نحن ولمجرد الإختلاف فنستل سيف الإتهام مباشرة فنطعن في دين من نختلف معه ونشكك به وكأن الله أعطى البعض صك الحرمان للناس والتشكيك بهم والطعن في دينهم .
( يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهوية , وإن كان يخالفنا في أشياء , فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا ).
أقول بكل صراحة من حق العلمانيين أن ينتقدوننا بأننا أوصياء الله في الأرض , وما ذلك إلا بسبب هذا التسرع بالإتهام والتشكيك والطعن بل البعض لامانع لديهم من التكفير والتفسيق والتبديع .
والناظر لواقع المسلمين يرى صورا من الإحتكار , فلا صحة إلا لأقوالهم ولا صواب إلا لاجتهادهم ولا سداد إلا في أرائهم , فيضيقون ذرعا بكل من يخالفهم , وبذلك انعدمت روح التسامح لديهم , فإذا اختلفت معهم اتهموك بالتعصب وعدم الفهم والسطحية , بينما تجدهم عندما يتحاورون معك فتنتفخ أوداجهم وتحمر وجوههم وتعلوا اصواتهم وكل ذلك لايعدونه تعصبا , فياسبحان الله , من يدافع عن فكرته وقناعته يعتبر متعصب , أما الذي تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويعلوا صوته فهو صاحب وجهة نظر عليك أن تحترمها وتضرب تعظيم سلام لصاحبها فهو غير متعصب .
من الناحية النظرية الكل يدعي وصلا بليلى , والكل يسرد عليك كل النصوص التي وردت حول النصيحة وقول كلمة الحق ,. فلا يدع نصا ولا واقعة ولا بيتا من الشعر إلا ويستشهد به فقط ليدعم موقفه , ولكن عندما يتصرف تصرفا ما ويبدأ الناس بنقد تصرفه فهنا ينسى كل كلامه السابق المدبج وينسى النصوص فيبدأ بإ سطوانته المشروخة : أنتم لاتحترمون وجهة نظر غيركم , أنتم تريدون كل الناس أن يكونوا في بوتقتكم وهكذا يدخلنا في حفل لطم كربلائي .
لكن دعونا نعود بكل بساطة ويسر إلى منهج النبوة ونرى كيف كان يتعامل مع المواقف بكل بساطة ودون تعقيد ويحضرني في هذا المقام ثلاثة مواقف لنتعلم منها حيث لاتوجد مدرسة افضل من مدرسة النبوة التي قادها خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم :
وقبل سرد بعض هذه المواقف أقر بحقيقة ألا وهي أنني لا أدعي العلم والمعرفة والتعالي على الآخرين , بل فقط أحاول إستخلاص بعض الدروس والعبر من سيرته صلى الله عليه وسلم , وقد أكون قد وفقت في هذه الإستنتاجات وقد أكون قد أخطأت فأسأل الله تعالى المغفرة والرحمة .
أولا – غنائم حنين :
(وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين , فوجد بعض الأنصار شئ في النفس , فلقد أعطى لقريش وبعض القبائل العربية أكثر مما أعطى الأنصار اللذين استقبلوا محمد وصحبه وناصروهم وحموهم ودافعو عنهم , فقال البعض : لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه . فدخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا في أنفسهم لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شئ . قال : فأين أنت في ذلك ياسعد . قال يارسول الله ما أنا إلا من قومي . قال : فاجمع لي قومك . فخرج سعد وجمع الأنصار فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم . فقام صلى الله عليه وسلم وحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : يامعشر الأنصار بلغني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم . الم آتكم ضلالا فهداكم الله , وعالة فأغناكم الله , وأعداء فألف الله بين قلوبكم . قالوا بلى لله ورسوله المن والفضل . ثم قال : ألا تجيبوني يامعشر الأنصار . قالوا بماذا نجيبك يارسول الله . لله ولرسوله المن والفضل . قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم . آتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك , وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك . أوجدتم يامعشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم , ألا ترضون يامعشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم , فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار , اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم . وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .)
أعتقد قرأنا هذه الحادثة مرات ومرات لكن ياهل ترى ما هي الدروس والعبر التي استفدناها أو يمكن ان نستفيد منها , تعالوا نستخلص الدروس والعبر التي تفيدنا في معالجة مثل هذه المواقف التي نتعرض لها في حياتنا الشخصية أو الدعوية :
1- لم يقم صلى الله عليه وسلم بتطنيش الآخر وتسفيه رأيه والتقليل من شأنه أو التسرع بإصدار الحكم والتشكيك والإتهام والطعن , وهنا لابد من تثبيت قاعدة مهمة : طالما أن التصرف صدر عن مسلم مؤمن موحد مشهود له ومعروف أنه من أهل السابقة فلا يجوز التسرع لاتخاذ موقف تجاهه دون التأكد من المعلومات وتوثيقها : إذا الدرس الأول يمكن أن نسميه : استمع لوجهة نظر غيرك واحترمها , دقق وتثبت وتحقق من المعلومة .
2- لم نلحظ غضب الرسول صلى الله عليه وسلم مما سمعه , ولم يطلق بحقهم أيضا أي تهمة اوصفة لاتليق بهم , كما أنه لم يقسوا عليهم بالكلام قائلا لابد ان نقول كلمة الحق , وكأنه لايمكن أن نقول كلمة الحق إلا بالقسوة والغلظة والتنفير , كما أنه صلى الله عليه وسلم لم ينقب في نواياهم , ولم يبدأ بتحديد أهدافهم المستقبلية من خلال كلامهم وموقفهم , بل تعامل مع الأمر بكل بساطة وهدوء وروية ولم ينسى أنهم من أهل السابقة والفضل
3- كان الأدب هو الأسلوب في الحوار , وهذا مانفتقده في كثير من الأحيان في حواراتنا , ثم ذكرهم بفضل الله ونعمة الإسلام عليهم , ثم دخل صلى الله عليه وسلم في صلب الموضوع دون مواربة كي يوضح لهم الحقيقة من غير لبس , وهذا أفضل السبل لكسب العقول والقلوب , وهذا ماجعلهم راضين .
4- إن أي حوار وقبل بدايته لابد من تحرير محل الحوار والإتفاق على مفاصل الحوار , يعني تثبيت عدم الاختلاف حول البديهيات والمسلمات , فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكرهم بجهدهم ومواقفهم لنصرة الإسلام وأهله ولم ينتقصهم في هذا المجال , ولم يتهمهم , بل خاطبهم بالملسمات المتفق عليها , وبعد ذلك انتقل بهم لما هو مختلف حوله .
5- كي تصل لقلب وعقل من تحاوره فعليك أن تذكر فضله ومكانته وجهده فأنت بذلك تهيأ الجو كي يسمعك الطرف الآخر ويتقبل أفكارك , أما أسلوب الردح والاتهام والانتقاص والتشكيك والنسف والتنقيب والطعن فسوف يقطع قنوات التواصل ويصبح من الصعوبة بمكان تقبل أفكارك .
6- عندما تتعلق المشكلة بكيان أو جماعة أو مؤسسة فلا بد من السرعة لحل الإشكالية وعم التأجيل , فالتأجيل يراكم الخطأ ويشحن النفوس ويفسح المجال لأصحاب الأهواء والأجندة الخاصة أن يشوشوا على الناس مما يجعل حل المشكلة أعقد وأصعب .
7- لابد أن يتدخل أهل الحكمة والعقل والوزن والمكانة لحل المشكلة قبل أن تستفحل وتصبح قضية تقريب وجهات النظر صعبة , كما فعل الصحابي سعد عندما ذهب بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه عن المشكلة .
ثانيا – صلح الحديبية :
في البداية كان معظم الصحابة رافضين لهذا الصلح الذي رأو فيه إجحاف بحقهم , وعلى رأس هؤلاء عمر ابن الخطاب رضي الله عنه .
لكن تعالوا نرى كيف عالجت مدرسة النبوة هذا الزلزال الذي لم يتحمله كثير من الصحابة :
1- صلح الحديبية يؤكد بعد النظر المطلوب في القيادة , كما أن المسلم لايجوز بأي حال أن يستسلم لليأس حتى لو هيا له إستفحال الظلم , أو رأي من وجهة نظره تهاون القيادة , فلابد من توفر الثقة حتى في حالة النقد لموقف تلك القيادة , فلا يجوز من أجل موقف لانتفق معه فنقوم بالتشكيك والاتهام ونسف الماضي فقط لأن هناك موقف لانتفق معه .
2- لابد من تقبل كل ما يطرح من استفسارات ولا يجوز الاستخفاف بأي سؤال , فعمر رضي الله عنه اعترض على الصلح وكان يقول يارسول الله : ألست برسول الله . قال بلى . قال : أولسنا بالمسلمين . قال بلى . قال : أو ليسوا بالمشركين . قال بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا . قال : أنا عبد الله ورسوله . لن أخالف أمره ولن يضيعني .
لنلاحظ رغم كل كلام عمر فلم يتهم أو يشكك او يطعن , كما نلاحظ إهتمامه صلى الله عليه وسلم بآراء الناس .
3- برز دور الشورى في صلح الحديبية عندما قام صلى الله عليه وسلم بمشاورة زوجته أم سلمة , ولما فعل بما
أشارت عليه فمباشرة امتثل الصحابة للأمر .
وبالتالي علينا قبل التسرع بالاتهام التأكد من أن القرار صدر بعد حوار ونقاش ثم بعد ذلك اصبح القرار جماعيا
4- في صلح الحديبية برزت أهمية النصيحة وقول الحق , لكن لم يترافق مع قول الحق التشكيك والاتهام والطعن , فقول الحق ليس شرطا أن يتلازم مع قلة الأدب أو السب والشتم والسخرية والاتهام والطعن والاستهزاء والنيل من الآخرين .
ثالثا – قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة :
تذكر كتب السيرة مافعله الصحابي الجليل حاطب بن ابي بلتعة رضي الله عنه عند فتح مكة , حيث أرسل رسالة لقريش يخبرهم فيها بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم .
تصرف حاطب وبعيدا عن مكانة حاطب وفضله وسابقته , يعتبر خيانة في عرف العسكر والقانون , لكن مدرسة النبوة تعاملت مع الحدث بمنظار آخر والسبب مكانة حاطب وماضيه وفضله وسابقته .
1- لم يتسرع صلى الله عليه وسلم بالاتهام , بل أراد التحقق والتثبت وعدم التسرع والجري وراء الشبهات والشائعات وفلان قال وعلان قال , فالإسلام دين العدل والإنصاف والبحث عن الحقيقة , فلا يعقل لمجرد قرائتنا لتصريح أو سماعنا لخبر , فنجرد الأقلام والألسن بالتهم والقذف والتصنيف وإصدار الفتاوى , ومما يؤسف له أننا نجد البعض يستند في معلوماته لمصادر مشبوهة تكن للاسلام وأهله الحقد والكراهية بل تكيد لهم مع الكائدين , ورغم ذلك تجد البعض يجعلون من هذه المصادر جهة موثوقة , بينا أخوانهم وأبناء دينهم محل شك .
2- إنه مهما بلغ الخطأ لابد أن نترك مساحة للصواب , ولا نحتكر الصواب , فلا يعقل أن ننتقد غيرنا معتبرين
موقفهم خطأ بالمطلق , بل علينا الإقتداءبقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب .
3- عندما يصدر التصرف من شخص أوجهة معروفين بماضيهم وفضلهم وسابقتهم , ونعتقد أن هذا التصرف خطأ , فهنا علينا التوقف نهائيا عن التشكيك بدينهم إو إتهام نواياهم أو أنهم تنازلوا عن الثوابت والأصول .
( يروى أنه تلاسن خالد بن الوليد وسعد رضي الله عنهم ثم افترقوا فقام رجل بالطعن بخالد , فقال له سعد : مه اصمت فإن الذي بيني وبين خالد لم يصل لديننا ) .
4- لابد من فسح المجال لمن ننتقده أن يدافع عن وجهة نظره , وعلينا احترام وجهة نظره ولا نتهمه أنه متعصب
لجماعته وشيوخه وموقفه , بل من حقه الدفاع عن نفسه ووجهة نظره .
هذه مواقف ثلاثة من مدرسة النبوة نتعلم منها ونستخرج الدروس والعبر , فما زالت سيرته صلى الله عليه وسلم منارا لنا في حياتنا وعلى كافة المستويات : الشخصية والدعوية والسياسية .
الله ألهمنا التوفيق والسداد والرشاد .
ربنا لاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا .......