ما هي الدروس التاريخية المستفادة
ما هي الدروس التاريخية المستفادة
من المواجهات الساخنة مع العدو في غزة المقاومة
ـ نحو رؤية سياسية وطنية جذرية ـ
باقر الصراف
عضو القيادة المركزية
في التحالف الوطني العراقي
الحلقة الأولى
{كتبت الدراسة بعد العدوان الصهيوني بأسبوع واحد ، وجرى مراجعتها تالياً}
ـ 1 ـ
مجازر متكررة
في نطاق صراع إستراتيجي
في غزة تتكرر حرب الإبادة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني ، ومنذ ثلاثة أسابع تقريباً أي اِبتداءً من السابع والعشرين من شهر كانون الأول من العام الفائت : 2008 وحتى لحظة توقف العدوان قبل يومين من نشر هذه الدراسة . . . في هذه الأيام الفظيعة المجرمة البارزة من أيام المجازر الصهيونية المستمرة ، التي يتصاعد عنفها الفاشي المرير مرة ، وتأخذ فسحة زمنية من أجل معاودة التصعيد البشع لها ، مرات أخرى ، القنابل الصهيونية تحرق الشعب الفلسطيني في غزة حيثما سقطت ، إذ أنها سجن كبير مطوق بإحكام وفيه أكثر كثافة سكانية في العالم . كان هذا الحال منذ مائة عام ونيف .
ويذهب ضحايا القصف الصهيوني الهمجي ـ وهو الشكل الرئيسي للمجزرة الحالية ـ شهداءُ أعدادهم ما يزال يتوالى اِزدياداً مضطرداً وفق منظومة نسب المتواليات الهندسية ، فالعقيدة الصهيونية في الحروب تستخدم آلة الجو في سياقاتها المتطورة تكنولوجياً ، وقوتها النيرانية الحارقة الهائلة ، لإحداث الدمار الشامل عند الخصم بغية إرهابه ونشر الذعر في صفوف مقاتليه ، من ناحية ، والتستر المستمر على جبن ورعدية العسكري الصهيوني الذي يخشى من المواجهات المباشرة ، من الناحية الأخرى .
لقد صار الأمر المفجع المتمثل بالمجازر اليومية ، وفق معايير الفجائع الإنسانية البغيضة والكريهة ، أمراً مألوفاً عند كل المجموعات التي رأت في ((الديمقراطية السياسية حُلماً)) ينبغي ((الكفاح الشامل)) من أجلها ، والمراهنة على سيد ((رؤية نظام العولمة)) كونه ((المنتظر السياسي الموعود)) ، من ناحية أولى ، وباِعتباره ـ كذلك ـ خـَشـَبـَة الخلاص الأسـاسـية لمجمل مشـاكل الوطن العربي ، من الناحية الثانية ، لذلك يجب التبشير بهما : أي أنها ذات المعزوفة الليبرالية الدعائية ، ولعلعة العولمة المنشورة بأجهزة تلسكوبية عملاقة ويومياً ، ولكن من دون الرؤية السياسية الحقيقية والمتبصرة لأبعاد الصراع الكوني المسلح بين أسياد العولمة الذين غالبيتهم من اليهود الصهاينة ، وشعوب العالم الجنوبي ضحايا المجازر البشعة وحروب الإبادة البغيضة .
هكذا كان موقف الأنظمة السياسية العربية التي تتعامل مع الأعداء الغربيين : أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين ، والصهاينة وكيانها القائم على الاِغتصاب بروح ((إنبطاحية اِستسلامية وديمقراطية رقيقة تماماً)) ، من جهة ، وتتعامل مع شعوب الأقطار العربية وطلائعها المقاومة بمنطق القمع الغاشم والسحق اليومي ، من جهة أخرى . وكذلك أصبح هذا ((الكفاح)) طبيعياً ، من خلال مواقف الأحزاب السياسية التي نقلت منطق ولاءها السياسي ، وبالجملة والمفرق ، من الأرض البور القاحلة والسبخ الناجم عن الجفاف في الرؤية ((الاِشتراكية)) وأنظمتها السياسية التي كانت قائمة ، إلى أرض الرخاء الأمريكي / الاِسـتهلاكي على أنغام خرخشـة الأعطيات النقدية الزهيدة بمعيار فوائضها الضخمة والمخزَّنة في البنوك ، ومعزوفات الرشاوى المالية المخصصة للدعاية والإعلان ، والمخصصات النقدية المعدة مُسبـَقاً للصرف على نفقات العدوان العسكري الشامل .
لقد صار مفهوم ((الصراع التناحري)) الذي كان ـ وسيبقى ـ حاضراً في الممارسة السياسية العالمية ، تعبيراً من ألفاظ ((الماضي البليد)) ، كما يعتقد البعض من ذوي المنطق المتمحور حول جمعيات ما يسمى بـ((حقوق الإنسان)) وبالضد من حقوق الشعوب والأوطان . وصارت الأرض العربية ـ وفلسطين في موقع القلب منها ـ التي يجري الصراع من أجل نوعية ((هويتها القومية)) منذ قرن ، أو ربما يزيد ، مجرد رقم في حساب الهكتارات التي ينبغي على العدو الصهيوني أنْ ينسحب من بعض أجزائها ، أو ينزع السلاح عنها ، أو الرؤية السياسية التي تقول : له ما في الأرض وما عليها ، وللعرب الفلسطينيين بعض مناطق الفراغ الصحراوي وما فوق الأرض بسنتمترات لهم ، وذلك في إطار تسوية سياسية لن يكون مضمونها ، إلا تسوية اِستسلامية تصفوية لإرادة العدو ، ومختومة بالموافقات ((الفلسطينية والعربية)) الرسمية ، والتعهد بتنفيذ متطلبات واِشتراطات هذه الموافقات وعلى الأرض وأمام الجميع ، فزمن الحياء وما تحت الطاولة قد ولـّى ، وغدت الوقاحة الشاملة هي العنصر الأبرز على صعيد ((اللقاء بين الأعدقاء)) .
كما أثبتت الوقائع التاريخية المتعاقبة ، فقد كانت التسوية هي ((النجم اللامع)) الذي يهدى خطوات المسؤولين الرسميين ، ومنذ رفع شعارات ((إزالة آثار العدوان)) التي جرى تمرير خطواتها العملية تحت وميض شعاراتها الزائفة ولمعان ذهبها البترولي / السعودي عبر تمرير المخاتلات السياسية الهائلة الخاصة بها ، وتجريع ((أغلب القطاعات الاِجتماعية)) لمقولاتها الدعائية الزائفة ، عبر شـعارات ((الدولة الفلسطينية المقاتلة)) الذي رفعته ((الجبهة الديمقراطية بلسان أمينها العام منذ تأسيسها في أواخر العقد السـتيني من القرن الماضي وحتى اللحظة الحاضرة وهو السـيد نايف حواتمة)) في أوائل السبعينات ، أولاً ، أو من خلال مشروع ((بريجنيف)) التسووي للقضية الفلسطينية ، أو مشروع الأمير / الملك السعودي الراحل ((فهد بن عبد العزيز)) ، ثانياً ، والتوهيج الدعائي اللامع الباهر لأفكارهما ومفاهيمها السياسية وشروطهما الإجرائية أمام الفلسطينيين والعرب . . .
لقد اِختفت ، بعد ذلك بزمن يسير ، أفكارهما ومفاهيمهما السـياسـية من التداول السياسي بعد الاِنتهاء من المهام المزيفة لهما على صعيد الوعي السياسي ، والتي تنطوي ـ أساساً ـ على ترويج الأوهام السياسية ، ونشر الغايات السياسية التضليلية ، المناطة بهما .
إنَّ أي مراقبة مدققة لنصف قرن ـ أو يزيد ـ من التطورات السياسية العربية ، تكشف لنا طبيعة المفاهيم الفكرية ومعالم الرؤى السياسية التي اِنتظمت الوثائق السياسية العربية الرسمية والغالبية غير الرسمية ، المقترنة بعقلية ومسار التسوية الاِستسلامية للقضية الفلسطينية ؛ وأصبح كلُ مَنْ لا يتداول تلك المفاهيم الفكرية والرؤى السياسية ((قومجياً متخلفاً ومسلماً إرهابياً)) ؛ ومن هنا ، وبالدقة تبلورت كلياً مصائب الوعي الفكري والسياسي . يتحدث غالبية الناطقين باِسم الأحزاب والمنظمات السياسية الحالية ممن تشربت عقولهم وتبلورت عواطفهم بمفاهيم التسوية السياسية تلك ، بروحية الإدانة لممارسات النظام السياسي المصري ، ويصبُّون جام غضبهم على عدم فتحه الحدود الرسمية ، ولكنهم ينسون في الآن نفسه ـ أو يتناسون بحكم الغفلة أو المخاتلة ـ أنَّ في مصر نظاماً سياسياً ملتزماً حرفياً وروحياً بنصوص معاهدة معسكر داوود ، التي تنص على أولوية الاِلتزام السياسي لمصر النظام في كافة أشكال ممارساتها العربية والعالمية بالاِستناد إلى شروط تلك المعاهدة ، أي أولوية مصلحة كيان الاِغتصاب الصهيوني ، على ما عداها ، في أية ممارسة سياسية أو دبلوماسية تتعلق بالوضع السياسي العربي .
وقد تبينا ذلك الموقف السياسي ، وبشكل واضح لا لبس فيه ، لممارسات سلطة كامب ديفيد خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في حزيران 1982 ، ومساهمته المباشرة أو غير المباشرة في ترحيل قوات المقاومة الفلسطينية التي كانت عنواناً مشرقاً لصمود بيروت الباسل ، إلى بلاد المنافي واللجوء ، عبر الشحن في البواخر وهي وسيلة جديدة في التاريخ البشري : لتصفية قضية : شعب وثورة ، أولاً ، والتنسيق السياسي المتعدد الأشكال مع القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، من أجل تجريعها خطوة بعد خطوة ((الخط السياسي)) لمفاهيم التسوية السياسية مع كيان الاِغتصاب الصهيوني ، أو التغطية على التضليل السياسي المصاحب لها في الحد الأدنى ، ثانياً ، وكان الدور الداعم على مستويات التنسيق مع الثنائي لسلطة الحسن الثاني في المغرب والملك السعودي فهد بن عبد العزيز عبر مشروع ((الأمير فهد)) للتسوية بين المجرمين المغتصبين ، من ناحية ، وأصحاب الحق الفلسطينيين والعرب ، قد لعب هذا النظام الذي اِلتزم حرفياً باِتفاقية كامب ديفيد دوراً رئيساً في إطاره وتمريره أيضاً ، من ناحية أخرى ، ثالثاً . مثلما تبينا ذلك المسار الرسمي لسلطة كامب ديفيد المصرية ، مرة أخرى ورابعاً ، في الموقف السياسي من العراق بدءاً بمؤتمر القمة الذي اِلتأم شمله في القاهرة واِجتماعات الجامعة ، وحتى درجة تحريك قواته العسكرية نحو التمترس في منطقة حفر الباطن والتوضع فيها ، والاِشتراك الفعلي والعملي بالعدوان الأمريكي على العراق في العام 1991 وتحت القيادة الفعلية للجنرال نورمان شوارزكوف : القائد العسكري الأمريكي المعين لأداء مهمة إجرامية جرى تعيينه على رأسها منذ ما قبل توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية ، كما يقول ذلك في مذكراته المعنونة ((الأمر لا يحتاج إلى بطل)) ، [1] .
إنَّ إيراد هذه المعايير السياسية التي تحدد قراءة الموقف السياسي للنظام السياسي المصري ، كافية على البرهنة الحاسمة على اِنعدام أي رجاء قد يقدم معه اِتخاذ موقف وطني أو قومي عربي جذري ، ينطلق من موقع العمل على تحرير فلسطين أو النضال في سبيلها ، مثلما نعتقد أنها وافية للإقناع بالمعاني الحقيقية والعملية التي تنطوي عليها المعاهدة الإسرائيلية مع سلطة نظام مصر . وبالقطع هناك المزيد من الأدلة والبراهين على التوجه السياسي الحقيقي لها .
[1] ـ راجع كتاب مذكرات الجنرال نورمان شوارتزكوف المعنونة ((الأمر لا يحتاج إلى بطل)) : وثائق وأسـرار خطيرة ، ترجمة د . نور الدين صدوق و د . غلاب الجابري ، إصدار دار الكتاب العربي ، دمشق ـ القاهرة ، الطبعة الثالثة الصادرة بتاريخ 1999 ، التوزيع مكتبة بيسان ـ بيروت .
وخلال الجزء الثاني الذي يتضمن الصفحات 265 ـ 522 يختص حديثه مثلما تتركز مذكراته بالعدوان على العراق ، ويعلن أنه جرى تعيينه في موقع قيادة القوات المركزية في أواخر تموز 1988 ، [أي قبيل توقف الحرب العراقية الإيرانية بأيام لا تزيد عن الأسبوع الواحد ونيف] ، وتسلمت المهام فيها في الثالث والعشرين من نوفمبر . وتنبعث الموبقات العنصرية والروح الصهيونية من قناعاته الفكرية ومنذ اللحظات الأولى : إذ يقول ((بعد أقل من أسبوعين وجدت نفسي واقفاً في شرفة غرفة فندق من فنادق القاهرة)) ، و((شممت النتانة العفنة المنبعثة من النيل وروائح الحمير والثيران التي تجر العربات في شوارع المدينة)) ، ورأيت الـ((الكثير من الرجال يتجولون طوال اليوم في شوارع القاهرة حاملين على ظهورهم أوعية نحاسية ضخمة يبيعون منها فناجين القهوة والشاي للعابرين)) ، [ص 271 ـ 272] ، وهي مجرد توصيفات مترعة بالميول القبيحة للنظرة العنصرية تجاه العرب كلهم ، إذ كيف رأى كل ذلك بطرفة عين ، وبالتالي حفظ كل تلك الاِنطباعات في لحظات زمنية عابرة ، من جهة ، كما لا يمكن والحالة هذه ، أنْ يكون مجرد وقوفه في الشرفة قد شمَّ كل أوساخ نهر النيل ، واِنتابه ذلك القرف الشديد ، إلا إذا كانت حاسة شمه تشبه حواس شم الكلاب البوليسية ؟ ! ، ورأي أولئك المصريين الطيبين ممن يعملون لكسب قوتهم اليومي ، من الذين يبيعون القهوة والشاي في الشوارع ! ، من جهة أخرى .
أكان ينظر إلى مياه نهر النيل العريض ويراقب حركة الناس بشوارع القاهرة في الآن نفسه ، أم كانت تلك الأوصاف هي مجرد كتابة من قبل أحد العنصريين قام بها أولئك المـُكـَلـَفون بالصياغة الأدبية لمذكرات شوارتزكوف وإحلولت لهم مهام الدس الرخيص المتوسدة معلوماته وأفكاره في أذهانهم الصهيونية ؟ ! . وفي الصفحة [307] ، من ذلك الكتاب يؤكد شوارتزكوف أنَّ يوم السابع / أغسطس كان اليوم الأول من بدء العمل ! .
يتبع