منهجيات خاطئة في البحث العلمي
د. محمد رفعت زنجير
نعالج في هذا المقال ثلاث مسائل بعد متابعتنا لمتحدثين في وسائل الإعلام، بقصد التسديد والتحسين، والتقريب والتطوير، والإنصاف في مسائل الخلاف، والابتعاد عن المنهجيات الخاطئة في البحث والمقال.
المسألة الأولى: عثمان في الجنة!
نعم هو في الجنة، كما بشره سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاء من شاء، وأبى من أبى!
شاهدت في اليوتيوب ندوة لمتحدث يحمل فيها على سيدنا عثمان ذي النورين رضي الله عنه، مدعيا استخدامه البحث العلمي في بحثه، فتابعت الباحث لأعرف هل هو فعلا ملتزم بقواعد البحث العلمي، وما هو جديده في قضية سيدنا عثمان الذي كثرت أعداد ناهشي لحمه حياً وميتاً رضي الله عنه وأرضاه، فوجدت الباحث تدور فكرة بحثه حول حديث رواه ابن عباس ، قال: قال رسول اللـه (من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هوأرضى للـه منه فقد خان اللـه وخان رسوله وخان المؤمنين)، رواه الحاكم. وقد طبق الباحث هذا الحديث على عثمان بزعمه، فرأى أن عثمان استعمل بعض أقربائه في الولاية، وهنالك من هو أفضل منهم، وعليه فقد حكم الباحث على عثمان بالردة والخيانة وأنه في النار، والعياذ بالله من ذلك كله!
ولا نريد هنا أن نشيد بمناقب عثمان وجهاده وصدقاته وسبقه للإسلام واستحياء الملائكة منه، وتبشيره بالشهادة والجنة، فهذا معروف مشهور، ولكن نشير إلى منهجية خاطئة في البحث، وهي أن يأتي باحث بحديث من أحاديث الوعد والوعيد أو الترغيب والترهيب، ثم يطبقه على زيد من الناس، فيحكم من خلاله أن فلاناُ في الجنة أو في النار، افتراء على الله ورسوله!
وعليه، فمن حيث المبدأ لابد من تقرير الآتي في قواعد البحث العلمي المتعلقة بأحاديث الترغيب والترهيب بشكل عام:
أولا: إن الله تعالى سيحكم على العباد من خلال وزن أعمالهم الصالحة والسيئة، وليس من خلال عمل واحد فقط.
ثانياً: في حالة التأكد من أن فلانا عمل عملاً من الكبائر، فنحن لا ندري كيف مات صاحب هذا العمل وهل تاب منه أم لا.
ثالثاً: ولو تيقنا أنه لم يتب ومات على كبيرة ما فلا نحكم عليه بالردة لأن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار!
رابعاً: إن حساب العباد مسئولية ربهم وليست لأحد من عباده (إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم) .
خامساً: إن الحديث المذكور يساق للترهيب من تولية غير الكفو، ولا يجوز تطبيقه على إنسان بعينه، لأن الذي يحدد أن فلانا في الجنة أو في النار، نص شرعي بالاسم مثل (تبت يدا أبي لهب) أو معاينته في الجنة أو النار يوم القيامة! وهذا لم يأت أوانه بعد!
سابعاً: قد يكون هنالك مصلحة ما في تولية المفضول على الفاضل، وهذا يعرفه ولي الأمر، وقد لا نعرفه نحن! وقد ندعي أن فلانا أفضل من فلان، والحقيقة ليست كذلك، وليس الأفضل في التقوى هو الأفضل في ولاية الناس دائماً، فقد كان أبو ذر من أتقى الصحابة وأصدقهم ولم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة.
ثامناً: لا يمكن التعويل دائما على روايات كتب التاريخ في ذم الناس ومدحهم لأن كثيراً من أخبارها بلا أسانيد، وقد اعتراها الدس والتحريف.
تاسعاً: لقد تم الافتراء على عثمان وبني أمية كثيرا من قبل أعدائهم الذين بالغوا في تشويه سيرتهم ولم يذكروا شيئا من مناقبهم الإيجابية، وهذا بخس لميزان العدالة والبحث العلمي الموضوعي.
عاشراً: وردت في فضائل عثمان أحاديث كثيرة، وهي أوضح دلالة لنصها على أن عثمان شهيد وفي الجنة! ولا يعقل للسنة النبوية أن يضرب بعضها بعضاً فيما لو طبقنا منهج الباحث جدلاً، وعليه فهذا الحديث الذي ساقه الباحث هو حديث عام، ولا يدل على شيء من التقصير وقع من عثمان، وقد اجتهد رضي الله عنه وأرضاه في سياسة أمور البلاد والعباد.
أحد عشر: لا ينبغي للباحث المنصف أن يقرر أمراً قبل البحث ثم يسوق البحث لأجله، فالباحث المنصف هو من يقوده البحث العلمي إلى الحقيقة، وليس من يقرر أمراً مسبقاً ويسوق بحثه باتجاهه.
وعليه فنحن نعتقد أن الباحث قد خالف الصواب وافترى على عثمان، واتبع منهجية باطلة عقلاً وشرعا في محاكمة العباد ووضعهم في الجنة أو النار قبل يوم المعاد، وضرب بالأحاديث الصريحة في مناقب عثمان عرض الحائط، وجاء بحديث عام وحاول أن يفصله على مقاس عثمان، ولكن أنى له من ستر الشمس في كبد السماء!
نسأل الله الهداية لجميع المسلمين، وأن يؤدبنا في حضرة الأبرار الأخيار، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
المسألة الثانية: لا معصوم إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم
موضوع عصمة الأنبياء موضوع كبير بين الفرق الإسلامية، هل هم معصومون قبل الرسالة وبعدها، أم بعدها فقط، وهل عصمتهم في أمور الدين والدنيا، أم في أمور الدين!، وهل هم معصومون من الكبائر والصغائر أم من الكبائر فقط، وليسي هذا موضع بحثه، ولكن نسير مع المشهور من أن العصمة خاصة للأنبياء دون غيرهم من أتباعهم، وأنهم معصومون من الكبائر والصغائر في أمور الدين والدنيا.
وأما من سواهم من البشر فيعتريهم ما يعتري البشر من ضعف وذهول وخطأ ونسيان، فلا عصمة لأحد مهما بلغ فضله وعلا شأنه بعد خاتمهم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كانت العصمة مدحا بحق الأنبياء، فادعاؤها لغيرهم هو قدح بحق غيرهم، لأنها لا تقع بحق غيرهم، فمن ادعاها لغيرهم فقد كذب، والكذب بحق الصالحين خيانة لهم، فقد بالغ أحدهم في إطراء سيدنا علي رضي الله عنه، فقال له علي: (أنا دون ما تقولُ وفوقَ ما في نفسِك).
والعيوب من صفات البشر، وبحسب المرء نبلاً أن تعد معايبه، أما الغلو على طريقة ابن هانئ في مدح المعز:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
*فاحكم فأنت الواحدُ القهارُ*
فهذا إخراج للشيء عن حقيقته، ووضعه في غير مكانه الذي وضعه الله فيه، وكفى بذلك إساءة، لأن وضع الشيء في غير موضعه غاية الإساءة، وعليه قوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). فالملائكة والأنبياء تقشعر جلودهم من الشرك بالله، وهم سيتبرؤون ممن رفعهم فوق منزلتهم.
وسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه هو والسبطين وآل البيت جميعاً، كان من السابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ووالد السبطين، وزوج العذراء البتول فاطمة، ورابع الخلفاء الراشدين، فضائله عدد النجوم، ولكنه ليس بمعصوم، شأنه شأن بقية الصحابة، لأنه ببساطة شديدة بشر. وهذا ليس قدحاً به، فالنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) إلا أنه معصوم بالوحي، وعلي لا يوحى إليه، ومما يؤكد ذلك:
أ- موقفه يوم وفاة النبي، إذ توقع شفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يتحقق ذلك، ففي الترمذي عن عبد الله بن عباس، أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب، فقال له: أنتَ والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى سيتوفى من وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب، فاذهب إلى رسول الله فسله: فيمن هذا الأمر؟ الحديث.
|
|
ب-وكذلك موقفه في الحديبية، حيث لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حبا له وكراهية للمشركين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قام بفعل ما رآه ضرورياً لتثبيت المعاهدة ، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : لما صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية كتب علي بينهم كتابا فكتب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال المشركون لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولا لم نقاتلك فقال لعلي: ( امحه ) . فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه. فمحاه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام ...الحديث.
ج - وكذلك موقفه في خطبة بنت أبي جهل وكانت فاطمة رضي الله عنها على ذمته، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن تجتمع بنته مع بنت لأبي جهل في بيت واحد، فرجع عنن خطوبتها.
د - ومنها موقفه يوم الجمل، حيث حزن رضي الله عنه لما أصاب المسلمين، وراجعه ابنه الحسن رضي الله عنهما، قال ابن تيمية: "والذين قعدوا عن القتال جملة أعيان الصحابة، كسعد وزيد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة. وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال الإمام أحمد: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، هذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ وقوله: لله در مقام قامه سعد بن مالك, وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير".
هـ - ومنها إحراقه الزنادقة بالنار، ولم يقره ابن عباس على ذلك، ذكر الإمام البخاري (6922) عن عكرمة قال: أتى علي – رضي الله عنه – بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس – رضي الله عنهما – فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم ، لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "من بدل دينه فاقتلوه".
وعليه فعلي من خيار هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه، ولا يقدح به رأي رآه أو اجتهاد ذهب إليه، أو سهو وقع منه، ولكن لا ينبغي الغلو بآل البيت والصحابة والصالحين، ولا حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم عملاً بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم) الحديث.
نسأل الله أن يعلمنا منهاج أهل العلم والعرفان في التعامل مع الأولياء والصالحين، ويجنبنا مزالق الغلو وفتنة الشيطان.
المسألة الثالثة: (وهو عليهم عمى)!
القرآن الكريم كتاب نور وهداية للمتقين، وأداة ضلال وغواية لغيرهم، يضل الله به كثيرا، ويهدي به كثيراً، فهو كما وصفه سبحانه: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى). وهذا من كمال إعجازه، ودقة وصفه، فالشيء الواحد له صفتان متضادتان في آن واحد، وليس هذا لشيء من الكلام غير القرآن الكريم.
وقد تابعت حلقة تلفزيونية لرجل من غير المسلمين حول المحكم والمتشابه سرد فيها عشرة أقوال في تفسير الآية الكريمة: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات). فأرغى وأزبد، وصال وعربد، مستهزئاً بآيات الله، مدعياً أن القرآن غير واضح المعاني والدلالات، ويدخل المؤمنين به في (دوشة) فيموتون وهم لم يفهموا مقاصده ومعانيه، وأن إعجاب المؤمنين به هو إعجاب بصوت القراء لا بالمعاني التي يحتويها، وأن القرآن خلو من الحقائق الثابتة، وكانت تنبعث ضحكات ساخرة من مقدم البرنامج والمتكلم لا تليق بمن يعرض بحثا موضوعيا حول كتاب مقدس، لم يكن الباحث مجيداً لقراءة نص عربي فضلاً عن تلاوة القرآن، يتكلم ويتلعثم، ويخطئ ويتعثر في عرض موضوعه، ولم يكن ما عابه على القرآن نابعاً إلا من سوء فهمه وقلة علمه وضعف عقله، فكيف يعيب ما ليس بعيب!، وهنا تذكرت قوله تعالى: (وهو عليهم عمى) فصارت أداة الهداية أداة مرض وعمى لغير المؤمنين، وهذا من إعجاز الكتاب الحكيم.
إن القرآن وصفه الله الذي أنزله في آية: (أحكمت آياته) وفي أخرى: (كتاباً متشابهاً) وفي ثالثة: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات). ولا تناقض في هذا البتة، وهذا من علم الأشباه والنظائر وهو من علوم القرآن، ولم يجد الصحابة وهم فحول اللغة والدين أية مشكلة في فهم المراد، فكلمة محكم أي واضح الدلالة والمعنى، ومتشابه غير واضح الدلالة، ولم يكن ليخفى على أهل اللغة في الجيل الأول معنى الكلمتين، ففهموا المراد بشكل مبدئي.
ولما توسعت الحركة العلمية في الحضارة الإسلامية، صار للمفسرين والفقهاء صولات وجولات، وبدأ البحث عن المحكم والمتشابه بشكل تفصيلي، فتعددت الآراء الاصطلاحية، ولا غضاضة في كثرتها، فهذا يدل على سعة الحركة العلمية وحرية التفكير عند المسلمين، فلا حجر على الآراء حتى في دراسة كتاب الله عز وجل، والمحققون من أهل االعلم يرجحون بين تلك الآراء، ويأخذون بأحسنها، فهل تُعاب الحرية الفكرية التي تنعم بها المسلمون أيها الجاهل، ومن قال لك إن العامة يجب أن تفهم كل كلمة من كتاب الله حتى تتباكى عليها لأنها ستضيع في زحمة الآراء؟!
إن القرآن محكم بشكل عام لأن أهدافه ومعانيه واضحة على الإجمال، ومتشابه أي يشبه بعضه بعضاً لأن مصدره واحد، ويخرج من مشكاة واحدة، فلا اختلاف ولا تناقض بين آياته، وهو محكم ومتشابه على التفصيل لأن بعضه قد يكون أوضح من بعض، ولا غضاضة في هذا، فهو جاء يخاطب البشر وفق ما يألفون، ومن عادة الفصحاء والكتاب أن يكون كلامهم بعضه أغمض من بعض، وإن كان كلامهم على العموم مرتفعاً عن مرتبة كلام العوام، وكذلك القرآن فهو مرتفع بإعجازه فوق رتبة الفصحاء والبلغاء، تشرئب إليه أعناقهم، وتنقطع دونه أحلامهم، ولا يمنع هذا أن يكون بعضه أوضح من بعض في الدلالة، فيسمى الأول محكماً، والآخر متشابهاً.
إن من يجهل اللغة وعلومها، والبلاغة العربية على وجه الخصوص، ينبغي عليه أن يتأدب في حضرة القرآن، قبل أن يعمى ويرسل الجهل مغلفا بقشور العلم، ولله در أبي الطيب حين قال:
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ
يجد مراً به الماء الزلالا
وقال أيضاً:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم الســــــــقيم
اللهم نور قلوبنا بكتابك، واجعلنا ممن يشفع له القرآن، وليس ممن يأخذ بتلابيبه إلى النار.