هل وعت الحركات الإسلامية دروس حماس في غزة؟

جمال زواري أحمد

[email protected]

إن تحقيق الانتصار في معركة غزة ، بعد إنتهاء الشوط الأول منها ، ورغم فداحة الثمن المقدم خلالها والذي كان مؤشرا مهما على إنهزام العدو وفشله في إنجاز مهمته وبلوغ أهدافه التي أعلن عنها في بداية العدوان ، فصب جام حقده على الدائرة الأضعف في كل الحروب ألا وهم المدنيون من الأطفال والنساء والشيوخ ، للتغطية على إندحاره في المواجهة الميدانية مع المقاومين .

قلت : إن هذا الإنتصار جاء نتيجة لعدة عوامل ، إستطاعت من خلالها حركة حماس أن تكسب الجولة ، وأن تتجاوز بنجاح الكثير من المخططات التي رسمت لها والفخاخ التي نصبت في طريقها ، مقدمة بذلك تجربة رائدة محملة بأبلغ الدروس العملية التي ينبغي على الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي أن تعيها جيدا وأن تقرأها بطريقة صحيحة ، وأن تستفيد منها في مسيرتها الدعوية والسياسية ، وأن تمارس جملة من المراجعات بسببها ووفق ميزانها ، مع إقرارنا بإختلاف البيئة والظروف والمعطيات ، فنحن لانطالب هذه الحركات بإستنساخ التجربة كما هي ، وإنما ضرورة إستيعاب المحاور الكبرى والخطوط العامة التي ظهرت بجلاء في تسيير حماس لمعركة غزة ولعل أهمها :

1) ــ وضوح الأهداف :  

إن الآهداف كانت واضحة وجلية لدى كل مكونات الحركة من قيادتها إلى جنودها إلى قواعدها في كل المناطق والميادين ، يسطيع كل واحد أن يعبر وأن يدافع عنها مهما كان موقعه في الحركة ، يثبت هذا ذاك التناغم الكبيرالموجود بين كل هذه المكونات ، والذي حفظ الحركة وصفها من الدخلاء الذين يعملون على دق أسافين التمزيق والتقسيم والتفرقة والتشكيك والتشويه والوقيعة بين الشعب الحاضن والحركة ، أو بين القيادة والجندية ، أو بين الداخل والخارج ، او بينها جميعا ، وقد باءت كل هذه المحاولات بالفشل ورجعت إلى نحور أصحابها ، نتيجة أن الاهداف كانت واضحة لدى الجميع بما لم يدع مجالا لأعداء الحركة وخصومها للإستثمار في مناطق الفراغ التي كان يمكن أن يحدثها غموض الاهداف وضبابيتها أو إستئثار فئة دون الآخرين بمعرفتها ، وهو درس مهم للحركات الاسلامية حتى تعمل على وضوح أهدافها للجميع في ساحات عملها وتحركها المختلفة ، والابتعاد عن أساليب الحركات السرية والكهفية التي تمارس نوعا من التقية السياسية ، بل حتى النفاق السياسي  ، بحيث تظهر عكس ماتبطن مما يساعد على إنتشار أجواء الشك والريبة والخوف حولها ومنها ومن مشروعها .

2) ــ الإلتحام بالشعب (الجماهيرية):

إن الإلتحام بالشعب والتفاني في خدمته في كل الأوقات،  وتبني مطالبه ، والدفاع عن قضاياه، نتجت عنه تلك الصور الرائعة من الإحتضان الجماهيري للحركة ولمشروعها المقاوم ، وثبت ان هذا الآحتضان لم يأت من فراغ ، ولم يكن ضربة حظ ، وإنما هو ثمرة لحمل هموم هذه الجماهير العريضة في أوقات الشدة والرخاء ، وهو درس مهم كذلك للحركات الاسلامية التي تبحث لها عن موضع قدم لدى شعوبها ، فما عليها إلا الإلتحام بهذه الشعوب وخدمتها والتخندق معها والانحياز لها دوما ، لأنها في الأساس هي حركات مجتمع لتغيير ظروفه إلى الأفضل ، وهو سبب وجودها أصلا ، فلتتخلص الكثير من هذه الحركات من المبالغة في النخبوية الأمر الذي جعلها في بعض الأحيان منبتة عن شعبها ، وقلص امتداداتها الجماهيرية .

3) ــ التوريث القيادي :

وقد نجحت فيه حماس بإمتياز مما ساعدها على حسن تسيير معركة غزة بكل مراحلها، وفي كل الميادين ، وعلى كل المستويات ، بحيث نلاحظ توالد أجيال قيادية ، وإنتقال جزء من دفة هذه القيادة لها بشكل سلس وطبيعي ، ويستغرب الكثير من الملاحظين لهذا الكم الهائل من الكوادر القيادية ، وظهورها المتتالي ، مع إستيعابها الجيد ، وقدرتها على التعبير بشكل دقيق عن مشروعها والمنافحة عنه بطريقة حضارية ، وقوة في الخطاب تدعو للتقدير والإعجاب والإحترام ، وهو أمر تفتقر إليه أغلب الحركات الاسلامية ــ للأسف الشديد ــ بل هناك مشكلة حقيقية في هذا الجانب على وجه التحديد لدى أغلبها، إذ نرى بوضوج الهوة السحيقة الموجودة بين الأجيال القيادية فيها ، مما ولد عند بعضها صراعا نتجت عنه إنشقاقات وإنسحابات ، فأصبحنا نضع أيدينا على قلوبنا كلما حان موعد مؤتمر لهذه الحركة أو تلك ، نظرا للمخاض العسير الذي يصاحب إنتقال القيادة ــ إن كان هناك إنتقال ــ بحيث نرى تشبث الجيل القيادي الأول بمواقعه ورفضه لكل أشكال الشورى والتداول ، إن كانت على حساب تموقعه ، وتذرعه بالشرعية التاريخية والتأسيسية التي تخول له ـ حسب تصوره ـ البقاء الدائم في هذه المواقع المتقدمة لعدم ثقته في الأجيال اللاحقة ، وقدراتها القيادية ، فكانت نتيجة ذلك الكثير من الهزات لهذه الحركات ، وجعلها تقع في ماتعيبه على أنظمتها الحاكمة ، فدرس حماس يدعوها بإلحاح إلى ضروره التوريث القيادي ، والإنتقال الميسر ، وبدون ضحايا للقيادة ، والتخلص نهائيا من إشكالية صراع الأجيال.

4) ــ البراغماتية الإيجابية :

قد يعارض البعض هذه التسمية ، فلابأس لايهم المصطلح ، فلامشاحة في الإصطلاح كما يقال ، فقد إستطاعت حماس وقيادتها أن توظف كل ماتوفر لديها من إمكانيات ، بل وأحسنت إستثمار حتى تصارع وتناقض المشاريع في المنطقة ، وتجاذب المحاور ، وأتقنت اللعب في الهوامش المتاحة هنا وهناك ، ومارست نوعا من البراغماتية الإيجابية لصالح المشروع والقضية ، فقد وطدت علاقتها بالنظام السوري، وجعلت من سوريا أفضل ماوى للكثير من قياداتها رغم الأجواء المتعكرة بين هذا النظام والإخوان المسلمون السوريون ، وحاولت مد الجسور مع روسيا في وقت سابق رغم غضب المقاومة الشيشانية ، وهكذا..، فقد حققت جملة من النجاحات وكسبت الكثير من النقاط في هذا المجال ، أحرى بالحركات الاسلامية أن تستفيد منها ويتخلى بعضها عن اليبوسة السياسية والثقافية خاصة في مجال العلاقات ، وتمارسها بنوع من المرونة ، وتتخلص من التهمة التي تتهم بها دوما ـ ولها وجه من الحقيقة ـ أن أقصى ماتنجح فيه هذه لحركات هو توسيع دائرة أعدائها وخصومها ، وفشلها الذريع في إكتساب الآصدقاء والحلفاء حتى وإن إختلفوا معها فكريا وسياسيا وثقافيا ودينيا ، فقد حان الوقت للحركات الاسلامية أن تشكل أحلاف فضول جديدة كي تستطيع أن تتكيف مع واقعها ، وأن لاتقهرها الظروف المتسارعة ، عملا بقاعدة العلامة عبد الحميد بن باديس رجمه الله:(الظروف تستطيع تكييفنا ، ولاتستطيع ـ بإذن الله ـ إتلافنا).

5) ــ النجاح في معركة البدائل :

وقد عملت حماس على أن تمارس الشمول ـ الذي تنظر له أغلب الحركات الاسلامية ـ عمليا في الميدان من خلال نجاحها في معركة البدائل ، لأن الطبيعة تأبى الفراغ ، فأنت لما تنتقد غيرك في أي مجال من المجالات ، لابد أن تقدم البديل ، لأن الناس لايعيشون في أبراج عاجية بمعزل عن العالم الذي أصبح قرية مفتوحة , وقد وظفت حماس أرمادتها الفنية والرياضية والثقافية والدعوية والشبابية والاعلامية والنقابية والعسكرية كذلك أحسن توظيف سواء في المعركة الحالية أو معاركها السياسية التي سبقت ، ومافرطت في أي جانب من الحوانب من ناحية الإهتمام حتى الشعارات واللافتات والقبعات وطبيعة إحتفالاتها ومهرجاناتها . هذا النجاح في معركة البدائل جعلها تنجح في إستيعاب وتجنيد العدد الكبير من الناس ، الأمر الذي جعلها رقما صعبا في الساحة الفلسطينية يصعب تجاوزه او إلغاؤه بإعتراف العدو قبل الصديق ، وهو رسالة مهمة لابد أن تلتقطها الحركات الاسلامية بالإهتمام اكثر بمعركة البدائل في كل المجالات السياسية والثقافية والاعلامية والدعوية وغيرها ، دون الاقتصار على جانب معين و إغفال بقية الجوانب ، مما يجعل مشروعها اعرجا يفشل في أول جولة من جولات المنافسة والصراع .

    هذه خمسة دروس كبرى مستخلصة من معركة غزة ساهمت في إنتصار حركة حماس ونجاحها وهناك غيرها لاشك ، ينبغي للحركات الاسلامية أن تستوعبها وتستفيد منها في إطار سيرها العام في أقطارها وساحات عملها المختلفة.