رجال أبطال
حارثة مجاهد ديرانية
[email protected]
إن المرء يشق عليه أن يشارك الآخرين
بأفكاره في حالين، الأول حين يكون ذهنه خالياً من الأفكار فلا يجد ما يشارك الناس
فيه، والثاني حين يكون الذهن ممتلئاً يكاد أن ينفجر مما فيه فلا يعلم صاحبه ما يأخذ
منها وما يدع. فعن ماذا عساني أكتب والخواطر كثيرة كثيرة؟ وكيف لا تكون كثيرة وقد
قدحها ظلم عظيم والظلم أبشع الذنوب؟ ناس كانوا ينامون في أسرتهم آمنين مطمئنين فلم
ترعهم إلا القنابل وهي تسقط عليهم من السماء وهم لم يقترفوا ذنباً ولا جريرة، سوى
أنهم يحلمون بأن يستعيدوا أرضاً غصبت منهم فانقلبت الموازين وصار المغصوب ظالماً
والغاصب هو المظلوم! ولكن حتى في هذا الظلام ترى ما يسر، ولقد رأيت من حماس ما يسر.
لما سمعت بأن حماس قد دخلت الانتخابات
منذ بضع سنوات أهمني هذا الأمر، ولبثت خائفاً وقد تهيأ لي أن هذا سيحشرهم في
الزاوية وأنهم سيضطرون إلى الإذعان آخر الأمر لا محالة، وكنت غير مرتاح لما صنعوه،
ثم مضت الأيام فأثبتوا لي أنني غبنتهم أقدارهم وما أعطيتهم من الثقة ما يستحقون،
لأنهم كانوا متواضعين ولكن أقوياء، وكانوا مخلصين في تحري الحكمة كيفما صنعوا. لقد
انكشفت لي الدواعي النبيلة التي دفعتهم في هذا الاتجاه دفعاً، ثم لمست صدقهم في ما
كل يصنعون، ودليل صدقهم أن الناس أحبوهم، ثم أرونا العجب -لصدقهم- فرأينا أنهم
كسبوا قلوب الناس ليس في داخل فلسطين فحسب، ولكن في أرجاء هذا العالم كله! لم أر
الناس على اختلاف أعراقهم وأديانهم يتعاطفون مع الفلسطينيين بقلوبهم منذ فتحت عيني
على الدنيا كما رأيتهم في الأسابيع الماضية، وكان هذا الكسب خساراً لإسرائيل لم تمن
بمثله من قبل وهي الكذابة التي اعتادت أن تنطلي أكاذيبها ويتستر على أخطائها. ثم
بعد ثلاثة أسابيع من الاعتداء المتواصل قرر المعتدون أمام العالم أنهم سيقفون إطلاق
النار، وهكذا يبدي المعتدي أخلاقه النبيلة للعالم! والآن هم ينسحبون، والنار تتوقف،
وكأن شيئاً لم يكن، ولكن هيهات أن يعود كل شيء كما كان! كان أكثر من ألف ومئتي شخص
أحياء قبل هذه الغارة وهم الآن ميتون، بل قل مقتولون، فهل عاد أحد منهم إلى الحياة
بعد انتهاء الغارة؟ والفتاة التي رأيناها في الرائي قد أفقدتها القذائف ساقيها،
أرَجعتْ لها ساقاها لأن النار توقفت وكل من الفريقين انسحب إلى مأواه؟ وتلك الصغيرة
التي رجعت إلى منزلها فلما بلغته إذا بها تراه حطاماً، كومة من الحجارة والرماد لم
تنج منه إلا هرتها الصغيرة، وفقدت تحت أنقاضه عائلته كلها، أعاد أحد منهم إلى
الحياة لأن النيران توقفت!
وليس هؤلاء وحدهم، لقد قتل في أقل من
شهر أكثر من ألف ومئتي نفس وكنا نسمع على الدوام أن أكثر من نصف القتلى هم من
النساء والأطفال، وكانت قلوب العالم معهم، وهذا هو الصواب، لأن كل نفس آدمية لها
وزن كبير، أكثر من ألف ومئتين قتلوا في ثلاثة أسابيع، ولكن مثل هؤلاء وأكثر منهم
يقتلون كل يوم على أراضي العراق والعالمون عنهم غافلون، لا يحس بهم أحد.
لقد صحا العالم للحظة ونظر إلى الظلم
وهو مدرك فاشمأز مما رأى وأظهر الفورة والغضب، وعما قريب ستهدأ الأمور، ويعود الناس
إلى حياتهم الطبيعية، وكأن شيئاً لم يكن! ولكن بعض الأمور لن تتغير ولن تعود،
فحينما ترى شعباً انقطع عنه الماء والكهرباء، وانقطعت عنه رواتب الموظفين حيناً،
وتراه رغم ذلك يحب أئمته وأئمته يحبونه، فإنك تدرك جمال ما تراه: أئمة جيدون
استحقوا ناساً جيدين، وناس جيدون استحقوا أئمة جيدين[1].
هؤلاء هم رجال حماس الذين دخلوا الانتخابات، هم ليسوا غريرين متخبطين، بل هم رجال
أبطال![2]
[1]
قال رسول الله -ص-:"خيار أئمتكم
الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين
تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم".
[2]
وهذا وصف ينطبق على كل ذائد صادق عن
الأرض المغصوبة ضد اعتداء غاصبها، من ذكر وأنثى وكبير وصغير.