قراءات ومطالعات في شهر رمضان
أد. مولود عويمر
بــــدايـــــــــــــــــات
لا أتذكر بالضبط متى ابتليتُ بالإدمان على المطالعة. كنت لا أجد مللا في إسرافي في المطالعة وغلوي في شراء الكتب والمجلات، وعمري لم يتجاوز يومئذ 12 سنة، بينما كان ذلك كله يقلق والدتي المشفقة عليّ لأنها لا تريد أن يصاب ولدها الصغير بخلل في عقله كما أصيب به طالب معروف رجع آنذاك من القاهرة مجنونا بسبب إدمانه على المطالعة في رواق جامع الأزهر حسب إشاعة منتشرة بقوة في مدينتي الصغيرة.
والمخرج الوحيد للتخلص من مراقبتها العطوفة كان في أن أقول لها أن ما اشتريته من مجلة أو كتاب هو بأمر من المدرّس لأن محتواه مقرر علينا في المنهاج الدراسي. وهكذا اقتنيت خلال سنوات الإعدادية والثانوية كتبا ومجلات عربية وفرنسية كثيرة شكلت مكتبة غنية وأنا لم ألتحق بعد بالجامعة.
كانت مكتبتي تضم كتبا من روائع الفكر والأدب العربي والإنساني: ابن خلدون، ابن الأثير، عباس محمود العقاد، محمد الغزالي، ألكسيس كاريل، جول فيرن، رنيه دوبو...، كما تحتوي على أشهر المجلات العربية والأجنبية: العربي، الفيصل، الدوحة، الجيل، الأمة، منار الإسلام، سبوتنيك...الخ.
من حسن حظ طالب العلم أن تكون له صلة وثيقة بأمين المكتبة فإنه -إذا كان كيّسا- استفاد من ذخائرها واغترف من كنوزها ونوادرها أكثر من غيره. ذلك ما علمتني الأيام. فقد كنت استعر كتبا كثيرة من مكتبة المتوسطة ثم الثانوية دون محاسبة أمينة المكتبة أو مراقبتها حتى قرأت جزء كبيرا من رصيدها، وطالعت أشهر السلاسل الصادرة في مطابع بيروت والقاهرة حول الحضارة والتاريخ والمشاهير.
قــــــــــراءات
تتشابه طقوس قراءاتي في أيام رمضان مع الأيام الأخرى لذلك لا تختلف مطالعاتي في هذا الشهر عن غيره من الأشهر الأخرى.
كنت أخصص الفترة الصباحية لقراءة الكتب في دائرة اهتماماتي البحثية، لكتابة مقال أو إنجاز بحث أو تأليف كتاب. وفي هذا السياق قرأت منذ بداية شهر رمضان مجموعة كتب لعلي شريعتي، وإسماعيل الفاروقي، وغوستاف لوبون، وجون أسبوزيتو.
إن قراءاتي لشريعتي ولوبون هي في الحقيقة مراجعات، ذلك أنه سبق لي وأن قرأت بعض كتبهما منذ سنواتي الجامعية الأولى في نهاية الثمانينات، ولعل أحداث 5 أكتوبر 1988 هي التي وجهتني نحو مطالعة الكتب التي تتحدث عن ثورات الجماهير، فوجدت ضالتي في مؤلفاتهما، خاصة في الكتابين الخالدين: "العودة إلى الذات" لشريعتي، و" نفسية الجماهير" للوبون.
لكن هذه المرة رجعت إليهما من منطلقات أخرى لكتابة مقالات أو دراسات حول نظراتهما للتاريخ وتأثيرهما في الفكر الإسلامي المعاصر. وقد توجت هذه القراءات بنشر مقال طويل عن شريعتي بينما يبقى مقال عن لوبون مسودة سيرى النور قريبا.
أما إسماعيل الفاروقي فقد شدني إليه مشروعه الرائد في تأصيل العلوم الاجتماعية وجهوده الأكاديمية في مقارنة الأديان بالإضافة إلى نضاله الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية دفاعا عن الجاليات الإسلامية وتصحيحا لصورة الإسلام في وسائل الإعلام والأوساط العلمية الغربية. وهي المهمة نفسها التي يقوم بها حتى اليوم تلميذه المفكر الأمريكي الشهير جون اسبوزيتو أستاذ حوار الأديان بجامعة جورج واشنطن، وصاحب المؤلفات المنصفة للإسلام والمسلمين، ومن أشهرها الكتاب الذي وقع بين يديّ، وهو: "التهديد الإسلامي: حقيقة أم خرافة؟ "
مـــــطــــالعــــــات
في الفترة المسائية الرمضانية التي تبدأ عادة بعد صلاة العصر أقضي خلالها ساعات قليلة بين الكتب والمجلات لإثراء ثقافتي العامة والسفر في عالم الخيال انتظارا لموعد أذان المغرب للإفطار.
عندما تحل عطلة الصيف تنتابني رغبة في اكتشاف التجارب النهضوية المعاصرة. واهتمت هذا العام باليابان والصين. ولا بد أن أذكر هنا أن أول من حبّب إليّ المدنيّة اليابانية هي تلك الرسوم المتحركة التي كنت أشاهدها في التلفزيون يشغف كبير أيام طفولتي، ثم كتابات مالك بن نبي المغرم بالتجربة اليابانية، وأخيرا الأعمال الرائدة للمؤرخ اللبناني مسعود ضاهر.
يمثل كتاب "مفاكهة الخلان في رحلة اليابان" للكاتب المصري يوسف القعيد من أهم ما ألف في هذا الموضوع بقلم مثقف عربي زار هذا البلد ولمس مظاهر هذه النهضة في جولاته المختلفة. ولقد أظهر هذا الكتاب أسماء لعلماء يابانيين مسلمين نكاد لا نعلم أي شيء عن تراثهم نتيجة هذا الاستبعاد التام للتواصل الفكري والثقافي بين العرب وإخوانهم المسلمين في جنوب شرق آسيا.
واستمتعت بمتابعة استطلاع مصوّر نشرته مجلة العربي حول شعب اليابان الذي يعيش المستقبل. وكان أغرب ما ورد فيه –في نظري- هو ابتكار اليابان طريقة خاصة لجذب الاستثمار الأجنبي وترويج لمنتوجاتها الصناعية والتعريف بثقافتها في الخارج. استضاف هذا البلد المتطوّر مائة من أشهر المصورين في العالم لتصوير مشاهد متنوعة عنه، جمعوا صورهم في كتاب صدر بعنوان: "يوم في حياة اليابان". وهو يضم 135 ألف صورة، ويقع في 224 صفحة!
كذلك عشت ساعات مع كتاب "العرب وجهة نظر يابانية" للمستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا أتأمل خلالها انطباعاته حول المجتمع العربي المعاصر على ضوء مشاهداته في مصر التي زارها عدة مرات.
ولقد عبّر بدقة إلى أي مدى يعاني الإنسان العربي من الاستبداد والاستعباد وعجزه عن تغيير وضعيته البائسة بأبسط الوسائل. " إن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين. سمعت صرخة في الجو الخانق الصامت وما زالت في أذني. الناس صامتون لا يتحدثون ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق. صرخة تخبر عن نفسها بوضوح وقوة."
ولا أدري كيف أصبح رأي المستعرب الياباني بعد الثورات التي قامت بها مؤخرا الشعوب العربية وتبعتها انجازات وإخفاقات؟
كما تابعت المحاولات النهضوية في الصين التي تأثرت هي أيضا في البداية بالنموذج الغربي لكنها لم تستوعبه أو تتجاوزه كما فعلت جارتها الإقليمية اليابان. ولاشك أن القصة التالية تبرز بوضوح تعثر النهضة الصينية في البداية نتيجة عقلية التخلف وانتشار آفات الرشوة والسرقة... التي كانت تنخر جسدها.
زار إمبراطور الصين باريس في نهاية القرن التاسع عشر فانبهر بها، ولما عاد إلى بلده قدم لرئيس وزرائه مليون ين لوضع قناديل في شوارع بكين حتى تصبح أجمل من العاصمة الفرنسية. وعاد رئيس الوزراء إلى مكتبه وكلف وزير الداخلية بتنفيذ قرار الإمبراطور بعد أن أعطى له نصف المبلغ. وفي الغد اتصل وزير الداخلية برئيس الشرطة فأعطى له ربع مليون ين وأمره أن يبذل قصارى جهده لتكون إضاءة عاصمتهم وافية. واستدعى هذا الأخير مفتش الشرطة وناوله مائة ألف ين لتضاء بكين في الليل. وفي الصباح جمع المفتش ألف شرطي وقدم ينا لكل واحد منهم لتحقيق هذا الغرض. فتفرقوا في شوارع بكين وكل واحد يطرق على باب يمر به ويبلغ صاحبه رغبة جلالة الإمبراطور في أن يعلق على باب منزله مصباحا !
ولم تسلم الصين من هذه المعوّقات وتنتصر عليها إلا بفضل الثورة الذهنية التي فرضها ماو تسي تونغ على الشعب الصيني، وسار على دربه القادة اللاحقون فانطلقت هذه الدولة البعيدة بقدم راسخة في عالم التكنولوجية وخطوات عملاقة في أسواق التجارة العالمية.
كــــتـــــابــــــات
في أكثر الحالات كنت ألخص الكتب أو أنقل فقرات منها في كراس. وبما أنني ربطت دائما بين المطالعة والتلخيص والاقتباس لم أجد صعوبة في الولوج إلى عالم الكتابة. ولم تذهب المطالعات الأولى سدى، فقد كانت من ثمراتها نشر مقال قصير –وعمري آنذاك 16 سنة- في مجلة "الجيل" اللبنانية، وهي يومئذ في ذروة شهرتها وأوج انتشارها.
وكذلك أصدرنا مجلة في نفس الفترة مع ثلة من الأصدقاء نتيجة قرار واع وأهداف مرسومة لكنها لم تعمر لمدة كافية لأن البيئة العامة كانت أكثر تعقيدا مما كنا نحسبه، والإمكانات ظهرت أقل مما كنا نأمله، لذا لم نقدر على التأقلم مع المحيط المعقد ومواجهة المشكلات المتزايدة، ومن ثم استسلمنا بعد إنجاز 3 أعداد.
بالمقابل لعبت هذه المغامرة الثقافية الفاشلة ومجمل تجاربي المبكرة في مجال المطالعة والخربشة في تفتح طبيعتي الإنسانية، وفي نمو شخصيتي الفردية، وفي ترسيخ إيماني بأن العلم هو مفتاح البقاء. ولم يمر وقت طويل حتى انتسبت إلى جامعة الجزائر. وكانت العاصمة يومذاك تعج بالمكتبات والمراكز الثقافية الجزائرية والأجنبية.
والحق كانت تسرنا رؤية المكتبات المنتشرة في شارع العربي بن مهيدي وشارع ديدوش مراد، ونتنافس نحن الطلبة على ارتياد المكتبات الجامعية والعامة لما تزخر به من كتب نفيسة، وما توفّره من خدمات للقارئ والباحث على حد سواء.
ومنذ عدة سنوات أخلو إلى مكتبتي بعد أداء صلاة التراويح والدردشة القصيرة مع الأصدقاء، لأكتب صفحات بعد أن تخمرت الأفكار طوال النهار، أو لأصحح نصوصا موجهة للنشر أو أنقح بحوثا مقدمة في مجالس علمية أو فصولا من كتاب قبل إرسالها إلى الناشر. ولا أغادر كثيرا كرسي إلا لشرب الماء البارد أو للنوم بسبب الإعياء أو لتناول وجبة السحور وتلاوة القرآن الكريم قبل أن يرفع آذان صلاة الفجر مبشرا بميلاد يوم جديد.