من دروس غزة للعرب

عبد العزيز كحيل

[email protected]

مرة أخرى تفضح القضية الفلسطينية الحكام العرب وأنظمتهم الاستبدادية وتكشف حقيقتهم ، فقد تحولوا من عبادة الله عز وجل إلى عبادة الكراسي ومن الذود عن الدين والحرمات إلى الذود عن مناصبهم وثرواتهم وساعات لهوهم ، وصموا آذانهم عن صرخات المستضعفين والمظلومين والمنكوبين بل تخندقوا في صف العدو الصهيوني ووجدوا المبررات لعدوانه وألقوا باللائمة على حماس وفصائل المقاومة فصغروا في أعين العالم أجمع – هذا إن اعتبرهم أحد كبارا في يوم من الأيام-  ونزل بهم الذل والهوان وصاروا مسخرة يتندر بها الناس... هذا قدرنا مع هؤلاء الزعماء الذين انساقوا مع أعدائنا حفاظا على عروشهم فألبسوا الإسلام كسوة الإرهاب وجرموا المقاومة في فلسطين والعراق والصومال والشيشان وأفغانستان وجعلوا من بلدانهم سجونا كبيرة تنعدم فيها الحريات الفردية والعامة وتعتبر فيها حقوق الإنسان بدعة غربية وتحكمها قوانين الطوارئ المعلنة وغير المعلنة وينهكها الفقر رغم ثرواتها الهائلة التي أصبحت ريعا لهؤلاء الحكام وحواشيهم والمنافقين الذين يسبحون بحمدهم ويوقدون البخور بين أيديهم .

لقد خذلوا غزة وحماس وفلسطين لأن العبيد لا يستطيعون أن يقولوا لأسيادهم ''لا'' ، أما رؤساء فنزويلا وبوليفيا وتركيا فإنهم لم يجرؤوا على تلك المواقف البطولية والتصريحات القوية إلا لتمتعهم بشرعية شعبية يستندون إليها ولا يخافون لومة لائم ،وهذا درس بليغ للشعوب العربية لتستأنف مسيرة التغيير بالرجوع إلى نقطة البداية وهي إقامة دولة الشعب على أنقاض دولة الزعيم ورفض أي شرعية ماعدا الشرعية الشعبية المنبثقة من الاختيار الحر النزيه الذي يعطي - وحده- القوة لرفع التحديات ورفض الخنوع ،ومعركة غزة ظرف مناسب جدا لأن تتولى الجماهير زمام أمورها بعد أن انتفضت من أجل غزة والتفت حول الحركات الأصيلة والأحزاب الحرة ولفظت الحكومات وقالت لها الحقيقة في وجهها وتبرأت منها وقطعت علاقتها بها ،وانظروا مثلا إلى مصر لتروا من يحرك الشارع أهم الإخوان أم رموز النظام؟ وانظروا إلى معظم البلاد العربية لتروا استجابة الجماهير للعلماء العاملين وازدرائها بعلماء السلاطين وبهؤلاء السلاطين أنفسهم ،فلا ينبغي أبدا أن تتوقف هذه الهبة الشعبية العفوية بل يجب أن تتواصل من أجل فلسطين ومن أجل تحرير البلاد العربية كلها وكسر طوق الخوف وشق طريق الانعتاق لبناء الدولة الجديدة المعتزة بانتمائها الحضاري الملبية لرغبة الشعب المستندة إليه ، وحينذاك فقط يمكن أن نرى حكاما عربا يتجاوبون مع المطالب الشعبية وينشدون لأمتهم العزة والكرامة والسيادة.

ولا يليق بنا بعد معركة غزة أن نصدق وعود حاكم من هؤلاء لأننا نعلم يقينا أنه يسوق بضاعة مغشوشة ويرفع شعارات لا رصيد لها من الصدق ،كما لا يليق بنا أن نتلقى فتاوى علماء القصور إلا بالازدراء فقد ثبت أنهم لا يصدرونها ابتغاء وجه الله أو خدمة للأمة وإنما رغبة في رصا الحكام أو رهبة منهم أي حفاظا على مكاسبهم ،فهم '' يشترون بآيات الله ثمنا قليلا '' ويعملون على إدامة أوضاع الذل والمهانة وإعاقة تحرك المسلمين بقوة لبناء حياتهم في سبيل الله تعالى بل يعيقون حتى موتهم في سبيل الله ويعتبرونه انتحارا و إرهابا ،وقد ميزت معركة الفرقان المباركة  الخبيث من الطيب وعرف الناس العلماء الصادقين الذين دوت صرخاتهم وانتشرت فتاواهم لنصرة غزة ومواجهة العدوان فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يتولوا قيادة الجماهير بعد اليوم ويبصروها بطرق التغيير ويمدوها بالوقود الإيماني حتى تتجاوز الهزيمة النفسية التي صنعها الحكام على مدى عقود من الزمن ويبررها فقهاؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه والتلاعب بأحكام الشرع.

ولا يليق بنا أن نترك الأبواق  الثقافية والإعلامية المأجورة تستمر في استحمارنا والضحك على أذقاننا بافتتاحيات وتحليلات تمجد '' الزعماء الملهمين وإنجازاتهم العظيمة '' في ميادين التطبيع مع اليهود والانصياع لأمريكا وقمع تطلعات الشعوب واختياراتها وتسفه ثقافة التحرر والمقاومة وتخذل الناس وتبث معاني الهزيمة النفسية ،كيف نتركها تخرب عقولنا ونسخر من عواطفنا وتنتصر لعدونا بأموالنا ووسائلنا؟ إن أقلام هؤلاء وأصواتهم خناجر في جسد الأمة تماما مثل فتاوى علماء السلطة فلا بد من منع تلك الأقلام والأصوات والفتاوى من الاستمرار في الفساد والخيانة ،ولا نظن أن أصحابها سيتوبون لأنهم ربطوا مصيرهم كله بخصوم الأمة ويحملون بالتالي عقدة يصعب حلها ،فلا مناص من أن يقتحم ميدان التغيير الأقلام النزيهة والأصوات الصادقة والفتاوى الجريئة لإعادة الأمل للأمة وتشجيعها على الإقدام البناء والانخراط الفعلي في عملية إثبات الذات ورسم خارطة جديدة لنظام الحكم وبلورة مواقف وطنية في مستوى تضحيات غزة وثباتها حتى يكون عندنا ولو حاكم واحد يتأسى –على الأقل- بالخليفة العباسي الضعيف المنهزم ''القائم بأمر الله '' الذي لم يجد حيلة أمام تغلب الفاطميين بقيادة البساسيري عليه سوى رفع شكوى إلى الله تعالى وهذا ما لا يفعله حكام اليوم لأن علاقتهم بالله عز وجل واهية،إن وجدت أصلا- فكتب الرسالة التالية: ''إلى الله العظيم من المسكين عبده ،اللهم إنك العالم يالسرائر المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على خلقك عن إعلامي،هذا (أي البسا سيري الفاطمي) عبد قد كفر نعمتك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيا وأساء إلينا عتوا وعدوا .

اللهم قل الناصر واعتز الظالم وأنت المطلع العالم المنصف الحاكم بك نعتز عليه وإليك نهرب من بين يديه وقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك وقد حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك ورفعنا ظلامتنا هذه ووثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين''

وقد علقت الرسالة في الكعبة فقتل البسا سيري بعد تعليقها بقليل.

فلتنتقل هبة الشعوب العربية الإسلامية الى عمل منظم ترعاه مؤسسات ذات إخلاص وكفاءة تخوض بها معركة التحرر من الإستبداد لتتحرر من العدوان الخارجي.