عيدٌ رغم أنف ما نحن فيه

نوال السباعي

كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا

[email protected]

لاتلونوا أعيادنا بالدم والنار والتشاؤم فيكفينا مايفعله الآخرون ، يكفينا قصف كلينتون ليبيا عشية عيد من أعيادنا ، ويكفينا شنق أحد رؤسائنا "الميامين" على يد رئيس أمريكي آخر صبيحة عيد آخر ، هؤلاء "الإرهابيون" الكبار الذين يحاولون ملء حياتنا بالقهر والألم ، ولايتركون فرصة واحدة تفوتهم دون أن يحاولوا تركيع هذه الأمة وبكل الطرق الممكنة ، تارة في أفغانستان ، وتارة في العراق ، وتارة في الخليج ، وكل دقيقة وثانية في فلسطين ، فلسطين الممزقة الجريحة المنهكة المنكوبة ، فلسطين غزة وجنين ورام الله والقدس ، فلسطين المفتوحة جراحها تنزف وتنزف ، وأهلها هناك صامدون رغم نفاذ العتاد والمؤن ، صابرون رغم تفلت الصبر من بين أصابعهم تفلت الماء في اليوم القائظ ، ثابتون على حقهم الذي تأبى الجبال أن تحمل مثله أمانة ، يضربون المثل في كل ساعة من ليل أو نهار بقدرة الإنسان على تحدي الحياة بالموت ، وتحدي النور بالظلام ، وتحدي الأمل باليأس !!، نعم لقد انقلبت كل الأشياء في حياتهم ، ماعاد فيها لاللحياة ولا للأمل ولا للنور أي معنى ، لأن هذه الأمة مازالت تخذلهم وذلك علىالرغم مما تقدم، وماتقدمه لم يكن إلا ذر الرماد في العيون وحفظ ماء الوجوه أمام من لاندري!! ، والابقاء على البقية الباقية من صورة ضمير مستتر أبدا ، ظاهر أبدا ، مستتر أمام فظاعة مايرتكب تحت سمعنا وبصرنا ، وظاهرفوق قدرتنا المذهلة على تجاوز الحقائق !.

فضائيات تعج بالرقص والخلاعة وتسويق الزنا جهارا نهارا لشباب أمة تعداد شبابها عشرات الملايين ، وقد سدت في وجوههم كل أبواب الزواج الطاهر الشريف ، فضائيات ومواقع الكترونية وطرق "موبايلية" تفتح مصاريع الفساد لكل من أراد وأحب ، يلجها القوم صرعى كأعجاز نخل واهية ، لم ينج منهم شيخ ولاشاب ولامتزوج ولاأعزب ، دخلوها راكعين ساجدين ، يقضون لياليهم ساجدين في محاريبها والأمة تشتعل من أقصاها إلى أقصاها ، صار الخمر يروج له في فضائياتنا كما يروج لحليب "نيدو" ، وصرنا نرى زحف مظاهر المدنية الزائفة على بلداننا الغنية كما تزحف المياه شيئا فشيئا لتبتلع مدينة البندقية في يوم آت لاريب فيه. وفضائياتنا الاسلامية ليس لها أية قدرة على تقديم بديل يشد الناس ويقنعهم ، والبرامج الأخلاقية ولدت ميتة لضعف في تصورات أصحابها عن حاجات الناس والعصر والارتفاع إلى مستواهما ، وبعضها لايهم أصحابها منها إلا حشو الجيوب بأرباح خاصة على حساب الفضيلة والعفة التي جردت هذه البرامج لها .

نعم...إن الحديث عن السقوط والتداعي والانهيار مرتبط ومباشرة بالحديث عن الفضائيات والاعلام ، فالإعلام اليوم هو السيف المسلول الذي لايختلف عليه اثنان ، سيف قاهر في كل المعارك ، فهو الذي يقلب الحق الى باطل ، وهو الذي يسوس الملايين بكلاب الحراسة التلفزيونية ، وهو الذي يستعبد أهل الأرض بما فيه من بريق أخاذ يخطف الأبصار فيستسلم الانسان لصناديق العجائب التي تعرض عليه كل مايدغدغ أحط مالديه من رغبات َمرَضية دفينة لايستطيع أن يحققها في حياته الحقيقية التي يعيشها.

الاعلام اليوم هو الذي يعرض علينا محنة غزة ساعة فساعة وبطريقة مأسوية مغرقة في المأسوية جعلت غزة مسلسلا كاسدا لدى الجمهور ، الناس لاتريد أن ترى المسلسلات البدوية التي يكاد أهلها يغرقون في دموعهم وأحقادهم وثاراتهم وعيون نسائهم الجميلة التي يخفيها غبار الصحراء القاحلة ، الناس تريد أن تتفرج على "مهند ونور" ليس اعجابا بعيوم مهند ولا بأناقة نور ، ولكن لأنه مسلسل يتكلم بدبلجة سورية اللهجة يفهمها كل من يتابع المسلسلات ، ويقدم للناس صورا جميلة عن حياة جميلة ، بيوت نظيفة ، وموائد ممدودة ، ونمارق مصفوفة ، وشباب يمتلؤون حياة ونضارة ، وحب على الطريقة التركية الأصيلة التي لاتختلف في شيء عن الطريقة العربية الأصيلة ، حب امتلاك الآخر ، والخضوع للعادات والتقاليد التي لاتمت للاسلام بأي صلة ، واكتشافنا أنفسنا بين هذا وذاك ، لقد اكتشف "العرب" ذات صباح أنهم والأتراك شعب واحد ، لايختلفون عنهم في شيء ، إلا أن المسلسلات التركية تصر على تقديم الخمر كل مائدة وكأنه الحليب الذي إن لم يشربه الأولاد توقف نموهم وقرعت القارعة!.

مادخل العيد في كل هذه الهموم ؟ إنها همومنا الكبيرة والصغيرة والتي لانعرف أي منها الكبير وأي منها الصغير ، إنها حالة من الانهيار العام ينفرط عقد حلقاتها واحدة واحدة ، إنها الحقائق التي نعيش والتي لانستطيع أن ننفك عنها ، نحن الغارقون في تفاهاتنا وأمراضنا الاجتماعية القاتلة وأمراضنا النفسية الفردية المزلزلة والتي لايكاد ينجو منها أحد ولايكاد يعترف بها أحد ، المصابون مع ذلك كله بحول وقصور في البصر عجيبين ، فلانرى الحقائق كما هي ولانريد أن نعترف أبدا بأخطائنا ، والأدهى من ذلك هي قدرتنا الخارقة على رؤية الحق باطلا والباطل حقا.

غدا فجرا ...سوف تصدح تكبيرات العيد من كل الفضائيات مجتمعة ، فالفضائيات في الغربة هي المرآة التي نرى فيها أوطاننا  ، الحمد لله أن هذا العيد هو عيد جماعي اجباري !، فلاعرفة إلا في عرفات !!، لاشمس ولاقمر ومطالع ، غدا صباح الاثنين سوف يصلي الحجيج وينحرون ، والأمة من ورائهم معلقة أنظارها بقناة الجزيرة واقرأ والرسالة ، ننظر إلى الكعبة المحرمة وقلوبنا تخفق بهذا العشق الذي يزداد كلما ازدادت محن هذه الأمة ، غدا صباحا سوف يردد الملايين "نصر جنده وهزم الأحزاب وحده" ، غدا صباحا سوف نخرج لصلاة العيد في مركز اسلامي سعودي هنا في مدريد ، كان ذات يوم أكبر مركز اسلامي في اوربة ، فأصبح ولامكان لمن يصل متأخرا  ليركع فيه ركعتين صباح العيد ، لقد اضطررت وأولادي أن نلف بالسيارة لأكثر من ساعتين كاملتين في آخر عيد نبحث عن مكان نترك فيه سيارتنا فيم أحاط بهذا المركز من شوارع وحارات ودون جدوى ، لم نحضر صلاة العيد ولاخطبته لأول مرة منذ ثلاثين عاما ، ولكننا حضرنا ذلك المشهد البهيج العجيب الفريد من نوعه والناس خارجون من الصلاة ، الأسود والأشقر والأصفر ، الملابس الافريقية الرائعة الجمال والفن والجلابيات المغربية الأنيقة والبدلات الأوربية الفائقة العناية والملابس الأندونيسية والهندية واباكستانية المتميزة ، قد أتوا من كل مكان في مدريد ليشهدوا عيدهم ، رجالا ونساء ، شيبا وشبابا ، وقد اصطفت سيارات الشرطة على أبواب المسجد وانتشر رجالها في الأرجاء يسجلون للسيارات مخالفات كبيرةيغيظون بها المصلين ويطفئون حنق أهالي الحي من هذا الاكتظاظ وهذه الفوضى التي يعانيها الحي كلما حلت مناسبة اسلامية ، ولكن الناس لاتبالي ، الناس يريدون وطنا ، وهذا العيد وطنهم ، الناس يريدون أهلا وهذا المسجد هو بيت أسرتهم على الرغم من كل حماقات مديريه الممتتابعين عليه والذين لايفقهون أنهم موظفون سيمضون وتنتهي أدوارهم وأن الجالية هي التي ستبقى ، الناس يريدون فرحا وهذه التكبيرات تمنحهم أفراحا تتردد في قلوبهم أعواما بعد أعوام تعينهم على احتمال مسلسلات القهر والألم والعذاب التي يعيشونها في حياتهم وفي الإعلام.

الناس يريدون عيدا ، ولاعيد للمسلمين إلا بتحرير فلسطين وأهلها من آلامهم العظيمة ، وتنقلب أعيادنا كل عام لتصبح مهرجانات للدعاء والابتهال والرجاء بالخلاص مما نحن فيه ، ولاخلاص إلا بتحرير أنفسنا مماهي فيه .

وإذا أردنا أن نعرف لماذا أحوال الأمة هي هكذا  -فكما قال "غوار الطوشة" عليه من الله الرحمة والعفو، ذات يوم عن البرازيل والأرجنتين - علينا أن نعرف ماذا في أنفسنا !!.

غدا صباحا سوف يقوم أهل فلسطين لعيدهم كما سنقوم ، وسوف يكبرون كما سنكبر ، وسوف يفرح أطفالهم ساعات العيد الأولى كما سنفرح ، نعم..دون ملابس جديدة معظمهم ، ولكن وكذلك معظم أولاد الأمة سيعيدون  دون ملابس جديدة ، ودون ألعاب ، وكذلك معظم أولاد الأمة دون ألعاب ! ، وربما دون أضاحي ، وثمانون في المائة من المسلمين لايمتلكون ثمن أضحية !، ولكنه عيدنا وسنفرح به وسنكبر لله قائمين قاعدين ، وسنبقى نردد هذه الأغنية الساحرة حتى يأتي الفجر يوما ، وهو قابع بين جنوبنا ينتظر لحظة الولادة ، هذه الولادة العجيبة التي لاتكون إلا بقرار ، قرار يتخذه الرجال في حياتهم ، يغيرون به مابأنفسهم حتى يغير الله مابهم ، ولعلنا حينئذ نفرح حقا بالعيد والأقصى بيد هذه الأمة غير محتل ولامنتهك ولامغتصب.