أمين الريحاني.. والدعوة إلى حوار الأديانِ

أمين الريحاني..

والدعوة إلى حوار الأديانِ والثقافات وتآلفها

سهيل بشروئي

أستاذ منبر جبران خليل جبران بجامعة ماريلاند

رئيس الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية

على الرّغمِ من أن أمين الريحاني (1867-1940) تناول بما تميّزَ به من تنوُّعِ مواهبه بالبحثِ والتعليق مواضيع مختلفة ومتعدِّدة، وتقصّى في بعضِ الأحيان ما استعصى وانغلق من الأمور، فإنَّ الموضوعين اللذين استحوذا على اهتمامه وسيطرا على تصوّره وخياله كانا الدّين والحرّية. فهذان الموضوعان يُطلاّن بوضوح بارز جدّا من كلّ أعماله باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، سواءٌ أكانت كتبًا أم مقالاتٍ أم شعرًا. وقد اتّخذ الريحاني أستاذًا له من أبي العلاء المعرّي الذي ربّما كان أشعر شُعراء العرب قاطبةً عبر التاريخ. وكان المعرّي نفسه من بين الذين استحوذ على اهتمامهم موضوعا غاية الحرّية، وحقيقة الدّين. وقد اخترت أن أركّز اهتمامي في هذه الدراسة على أحد هذين الموضوعين، ألا وهو الدين، غير متناس مسألة حريّة الضمير. فقد لا يكون هناك اليوم أنسب من هذين الموضوعين وأجدر بالبحث والتمحيص. وأنني أستذكر بهذه المناسبة قول الشخصيّة البريطانية العالمية والمؤرّخ الكبير اللورد أكتون Lord Acton (1834-1902):

إنّ أفضل ما ينشده الناس من الأمور وأكثر ما يعشقونه الدين والحرّية، وليس المسرّات والرفاهية، ولا المعرفة أو السلطة. ومع ذلك فطريقهما ملطّخٌ بالدماء ولا نهاية له.1

لقد وصف الأديب الإنجليزي و. هـ. أودن H. W. Auden (1907-1973) باكورة القرن العشرين في شعره الخالد بأنّها فترةٌ تاريخيّة تميّزت بأنّها "عصر القلق"؛ إذ كانت عهد ثورات عارمة وحروب عالميّة، واقتصاد متقلّب غير مستقرّ، والتقاءات مفاجئة بين الشعوب والثقافات التي ظلّت حتّى ذلك الحين معزولة بعضها عن بعض إلى حدّ كبير. ففي غمضة عين، اجتاح انهيار الممالك والخلافات وانتهاء اعتماد الإمبراطوريّات على الاستعمار أسس الحياة ونسقها المنتظمين على هذا الكوكب. فأدّى ذلك بدوره إلى شعور بالغربة واليأس والقلق وعدم الاستقرار، وخلق أزمةٌ روحيّة عمّت بتأثيرها كل بقاع الأرض.

وكتب الأديب جاكوب آيزاكس Jacob Isaacs في كتابه الصادر في عام 1951 بعنوان "تقييم لأدب القرن العشرين" ما يلي:

يُعرف أيّ عصر من العصور بألفاظ وبعيارات خاصة شائعة الاستعمال والتداول، سواء أكانت تلك العبارات والألفاظ تمثل تجسيدًا حقيقيّا لذلك الزمن أم تُعبّر عن مجرّد علة من نسج الخيال. فقد اهتمّ القرن السابع عشر، مثلاً، بكلمة "العقلانيّة"، والقرن الثامن عشر بكلمة "الطبيعة"، أمّا اهتمامنا في القرن العشرين فقد تلخّص في عبارة واحدة هي "المازق الإنسانيّ". فنمت هذه العبارة عمّا يشغل بالنا وما يتكرر في حديثنا عن الإحباط والارتباك والتفسخ وسوء التكيّف، إضافة إلى عمق ما تحس به من مشاعر القسوة والعنف والسّادية، وما يسودنا من مشاعر الحيرة والقلق؛ وفي خلفية كل ذلك الشعور بالذنب والخطيئة والمهانة واليأس، وليس الإيمانُ والأمل والمحبّة أبدًا.

وما كان هذا الانشغال بفكرة "المأزق الإنسانيّ" إلا عاملا أساسيّا في نشر مرضٍ أصاب الروح والنفس في آن معًا وظهرت أعراضه واضحةً في ما أصاب المجتمع الإنساني من الحيرة والقلق النفسيّ وولد شعورًا عميقا بانعدام الطمأنينة والسلام. حتى المجتمعات القديمة التي لم تمرّ بتجارب التكنولوجيا والتصنيع المؤلمة لم تسلم من هذه الظواهر التي مثلت حوار الإنسانية مع الحداثة والتطوّر.2

برزت في غمرة هذه الأحوال والظروف المضطربة مجموعة مرموقةٌ من المهاجرين العرب إلى الولايات المتّحدة، بعضهم من السوريين، وغالبيّتهم من اللبنانيين، الذين فرضوا تأثيرهم القويّ على النهضة الثقافيّة العربيّة، وعلى التقارب الديني، وعلاقة التبادل الثقافي بين الغرب والعالم العربيّ. وكان أعضاء هذا الفريق من الأدباء والكتّاب والشعراء والفلاسفة—الذي ضمَّ أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة—بمنزله السُّفراء الثقافيين بين الشرق والغرب في فترة تاريخيّة هامّة، وذلك عندما كانت موجة التحديث والعولمة تجتاحُ العالم العربي نتيجةَ اكتشاف تروته النفطيّة الجديدة، وفي الوقت الذي كانت تبرزُ فيه أميركا كعملاقٍ للنشاط الاقتصاديّ والتقدّم الماديّ. واتخذ الريحاني، وغيره في رهطِه، من حدة أقلامهم ورؤيتهم الشاعريّة مصدر وحي استشفّوا منه بوضوح ثاقب طبيعة التحدّيات الروحيّة التي تجابه أميركا والعالم العربيّ على حدّ سواء.

  من أهمّ المواضيع التي يبدو أنها كانت مصدر وحي لفكر أمين الريحاني الوئام بين أديان العالم. فخاض في بحث هذا الموضوع مرّة بعد أخرى، وكرّره في أعماله كما في قصيدته "أنشودة الصوفيين،" ومقالاته في كتاب "جادّةُ الرؤية،" ورائعته "كتاب خالد"، وغير ذلك من مقالاته ومحاضراته عن "التطرّف" و"التساهل الدينيّ" و"إصلاح الأمّة"، وخطابه في حفل التخريج بكلّيّة عالية الوطنيّة في عام 1922. وكان من النتائج الملازمة لمبدإ الوحدة والانسجام بين الأديان النظرة المتعمّقة التي طالما عبّر عنها الريحاني، وهي أن أي فرقة أو صراع بين الأديان إنّما هما حصيلة الفساد أو فقدان التفاهم بين قادة ورؤساء المؤسّسات الدينية النظاميّة الرسميّة. وها هو الريحاني يتوجّه بالدّعاء "إلى الله"، على لسان بطله خالد في الكتاب المسمّى باسمه، فيقول:

عبثًا طلبتك في أديان الناس،

  عبثًا بحثت عنك في سراديب عقائد الناس،

  ولكنّي لقيتُ في كتب العالم المقدّسة

  بعض آثار سماويّة طامسة،

  فلقد توضّح لي حرف ساكن من اسمك في "الفيدا"،

  وحرف في "الزّند آفِستا"،

  وحرف في الإنجيل، وحرفّ في القرآن،

  أجل—وفي كتاب الجمعيّة العلميّة الملكيّة

  وسجلاّت جمعيّة المباحث النفسيّة

  بعض الحركات التي لا يحسن الطفل البشريّ

  أن يحرك بها الأحرف الساكنة من اسمك.

  وانّى لأمم الأرض وهي في طفولة الحياة

  ان تحسن النطقَ به!

  من يهدينا إلى تلك الهمزات، همزات الوصل الإلهيّة

  التي تجمعُ بين الكواكبِ البعيدةِالمتقابلة

  في أطراف الأفلاك السماويّة؟

  فلقد خطّت على نقاب السرّ الأبدي كلماتٌ،

  وامّحت،

  ثم خطّت وامّحت.

  كل أمة من أمم الأرض أدركت حرفًا

  من هذا الطلسم العظيم،

  لكن الحركات وهمزات الوصل

  لا بد أن يأتي بها علماء المستقبل

  لتحيي جمودا في أحرف الكتب المقدّسة الساكنة،

  وتبعث فيها سلاسة الماء والهواء،

  وتزيل اللكنة من لسان هذا البشري الطفلِ

  ومن قلبه.3

  إستمدّ الريحاني الوحي من موقع لبنان كمفترق طرقٍ تاريخي ونقطة التقاء جغرافي بين الإسلام والمسيحيّة. فقد تأثر بما شهده من قيام التآلف بين الأديان في لبنان، وأدرك في الوقت ذاته أنّ هذا التآلف حطّمته القوى السياسيّة الخارجيّة وقضت عليه في بعض الأحيان. وعلى الرّغم من أن الريحاني ولد مسيحيًّا مارونيّا، لم يجد صعوبة في الاعتراف بأن محمّدًا رسولٌ من عند الله، وبأن القرآن كتاب مقدس. فقد آمن بأنه ما من دين واحد يمثل بذاته النهاية والحقيقة المطلقة، ولكن الأديان كلّها سبل تؤدّي بالإنسان إلى الوعي بالأُلوهيّة، فكتب ملخّصًا إيمانه ذلك في تعريفه البليغ تحت عنوان "الحقيقة الكبرى":

  الحقيقة الكبرى في كل الأديان واحدة لا تتغيّر. أما العقائد فكثيرة متضاربة. الحقيقة تجمع، والعقائد تفرّق. الحقيقة إلهية أزلية، والعقائد زمنية زائلة. أن نعرف الله، أن نتأمّله ونستشعر به في سلوكنا الإنسانيّ—هذه هي الحقيقة الكبرى في كلّ الأديان.

أمّا الاتّجاه إلى وسطاء بين الإنسان وبينه تعالى فمن الانحرافات في كل دين. وشبيه بذلك الطقوس والتقاليد.

إن النعيم والجحيم حالان نفسيّان، أمرهما—في الحياة الدنيا وفي ما قد يتلوها من حياة—بيد الإنسان. والاعتقاد في كونهما ثوابًا وعقابًا في الحياة الأخرى ينافي حقيقة الله، روح الحبّ والحنان.

إنّما الدين، كلّ الدين، في الاتصال بهذه الروح والاستنارة من أنوارها. وعندما يدرك الناسُ ذلك يقلعون عن التعبّد الظاهري ويقبلون على التأمل والسلوك. ينبذون العقائد ويتمسّكون بالحقيقة. يتحرّرون من الخرافات ويتقرّبون من الله بالفكر الصالح والعمل الصالح.4

كان الريحاني طليعيّا في اعتناق مبدإ وحدة الأديان. وهو مبدأ ظهر، أوّل ما ظهر، في العالم الحديث في برلمان أديان العالم الذي انعقد في مدينة شيكاغو في عام 1893. ثم عبّر عن تلك الفكرة، فيما بعد، بعض كبار مفكّري عصرنا من أمثال المهاتما غاندي Gandhi (1969-1948) الذي قال إنّه "لن يكون سلامٌ دائمٌ على الأرض ما لم نتعلّم ليس مجرّد التسامح (التساهل) مع الأديان الأخرى فحسب، بل حتى احترامها وكأنّها أدياننا"؛5 وهانس كونغ Hans Kung (مولود 1928) الذي أعلن أنّه "لن يسود السلام بين الشعوب دون قيام السلام بين الأديان."6

أوجد الريحاني معادلة للسلام بين الأديان، ولقي أسلوبه قبولا كحركة للتقارب بين الأديان؛ وهي حركة انتشرت وتعزّزت كثيرًا في العالم الغربي، لكنها لم تنضج كلّيًّا بعد في العالم العربي. وقرر أن التعصب القائم على عدم التساهل الديني هو أكبر العقبات التي وقفت في طريق التقدّم والازدهار في العالم العربي؛ فكتب مقالا بعنوان "إصلاح الأمّة"، قال فيه:

إن من العقبات التي تعترض الشرقيّ عامة، والعربي خاصة، في ارتقائه عقبة جهنّميّة يكرّم عندها أبناء الطاعة والجهل—أو الطاعة والمصلحة—ويقضى فيها على الحرية والاستقلال. عقبة اقامها رؤساء الأديان وزرعوا جوانبها شوكًا وقلامًا. عقبة يلجأ إلى أكواخها كل من يخشى النور، نور العلم والحرّية والرقي المدني، وكل من يرفض الإخاء والوحدة القوميّة والمساواة خوف أن يغبن فيها. عقبة تبعد الناس بعضهم عن بعض، وتثير الناس بعضهم على بعض، فتتفكّك عناصر الأمّة وتتقوض أركان الوطن. هي حقًا عقبة كأداء، ولا حياة لنا راقية، لا حياة وطنية جامعة إلا في تذليلها أو في هجرها.

وهل من حاجة إلى أسمائها. لا ليس الدين ما أعنى، إنما الدين سهل منبسط فسيح فيه طرق للشعوب كلّها. أمّا العقبة فهي محوطة بالأسلاك الشائكة، العقبة هي الطائفة، هي الملّة، هي العشيرة. بل هي الفكرة البشريّة الصغيرة التي تخرج بنفسها من دائرة الإنسانيّة الكبرى، فقلّما ترى الفضل في غير أبنائها، وقلّما تريد الخير لغير أبنائها.7

علّم تاريخ لبنان الريحاني أخطار التحزّب والطائفيّة، فلم يكن سوى الاحتقار والازدراء لأولئك الذين يستغلّون الشعور الديني لإغراض دنيويّة. وكتب في ذلك يقول على لسان أبي طنّوس:

ما أجمل أمثالكم، يا محترم، وما أبعد أمثالكم عنها. أمثالكم مثل الطعم تضعونه في الصنّارة لتصطادونا نحن الأسماك في بحر المجتمع الإنساني...أنتم تبشّرون بالقناعة وتجمعون في أكياسكم وصناديقكم المال. أنتم تنهون عن الشر وقلّما تعملون عملا مجرّدًا من الغايات الشخصيّة الخبيثة. أنتم تأمرون بالصوم والتقشّف، ورئيسكم لا يأكل غير الطيور، ولا يشرب غير النبيذ المعتّق. أنتم تبشّرون بالمحبّة وتدسّون الدسائس بعضكم لبض طمعًا بالمناصب والألقاب وكمعًا بالما. أنتم تعلّموننا الطاعة والخنوع، ونحن نعلّمكم كيف يكون العلم والانصاف مع المساواة، والنجاح العام مع الحكم الديمقراطي العام.8

وبمعنى آخر، كان الريحاني وغيره من أعضاء المدرسة اللبنانيّة الأميركيّة طليعة حركة تآلف الأديان والطوائف في العالم العربيّ وواضعي أسس الحوار بين حضارتي الشرق والغرب. فقد اجتمع عدّة أعضاء من هذه المجموعة، بمن فيهم الريحاني وجبران، في باريس في عام 1910، لوضع تفاصيل خطط نهضة روحية ثقافيّة في العالم العربي. وقد انطوت تلك الخطط على اقتراح طموح بإنشاء دار للأوبرا في بيروت لها قبّتان تمثّلان المصالحة والتوافق بين المسيحيّة والإسلام. وفي العالم 1916 أسس فريقٌ من أعضاء هذه المجموعة "الرابطة القلميّة"، وهو جمعيّة أدبية للمهاجرين العرب أدّت دورًا هامًا في النهضة الثقافيّة العربية وتطوّر الأدب العربيّ الحديث.

وعلى الرّغم من أن الريحاني كان من مشجّعي "الرابطة" ومؤيّديها، فإن مسؤوليّاته المتعددة كسفير ثقافي متجول لم تفسح له مجال الانضمام إلى "الرابطة" إلا بضعة أشهر. بيد أنّه ما من شكّ في أن الريحاني يعتبر الملهم الأول لأعضاء "الرابطة القلميّة" في مرحلتها الأولى. فقد وصفه جبران اعترافًا برعايته وقيادته بأنّه "المعلّم". وكان لـ "كتاب خالد" الذي نُشر في العالم 1911—وهو أوّل كتاب للريحاني باللغة الإنجليزيّة، وربّما كان أول كتاب على الإطلاق ينشره كاتب عربي بالإنجليزيّة—تأثير عميق في جبران ومخائيل نعيمة.

وتتردد في "كتاب خالد" أصداء التآلف الإنساني الذي وجد أيضًا طريقه إلى التعبير في كتاب "مرداد" لميخائيل نعيمة وكتاب "النبيّ" لجبران خليل جبران. ومع أن جبران حقق شهرةً أوسع عن طريق شعره وأدبه، فقد ظلّ ينظر إلى الريحاني الذي كان يكبره بسبع سنوات كأخٍ أكبر. وكان الريحاني مفكرًا وفيلسوفًا أكثر ممّا كان شاعرًا. كان رجل عصره. ألّف وكتب وسافر متنقلا في أميركا والعالم العربي دون كلال، فتحدّى قرّاءه أن يعوا تمامًا ما تعد به الحداثة من فوائد وأن يدركوا في الوقت نفسه ما يحمله العصر الحديث من الأخطار والنوائب. وعن هذا التجاذب بين حياة الفكر والروح والحياة الدنيويّة من فعل وعملٍ كتب يقول:

إن السير في الشوارع يذكر الإنسان بالإنسان وأمّا السّير في الوادي أو الغاب، فيذكّر السّائر بالخالق العظيم الأوّل يدعو إلى العمل، والثاني إلى التفكير والتأمّل. في الأوّل بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة التي يتبعها النشاط والعزم وحسن المآل.9

إستطاع الريحاني مثل ما استطاع نفرٌ قليلٌ من قبله أن يجمع في ذاته حسًّا وفهمًا عميقين لعالمين متباعدين مختلفين كل الاختلاف. فخاطب أميركا بلغة الإطراء والتعنيف على السواء. وخفف من مديحه لحيويّة شبابها ونشاط أهلها العملي والوعد بحرّيتها السياسيّة وتقدمها العلمي تحذيره من أخطار الإفراط في المادّية والفساد السياسي وعدم الإنصاف الاجتماعيّ. ووازن حماسته للإصلاح العصري إدراكٌ عميقٌ للحاجة إلى قيم روحيّة ترشد التحوّل الاجتماعي وتشكله. فدعا الغرب في كتاباته بالإنجليزية إلى اكتشاف تراث الشرق الروحي وتفهّمه، ضاربًا المثل بموطنه لبنان كمجتمع متعدد الثقافات، حيث تتجسّد وتنسجم القيم التقليديّة الدائمة لكل الطوائف والأديان.

أمّا كتاباته العربية من الناحية الأخرى، فقد انصبّت حول مواضيع التحديث والعصرنة. وحذر العرب بشكل خاص من السماح للمادّية بإغرائهم والابتعاد بهم عن الجوهر الخلقي والمعنوي لثقافتهم وتقاليدهم. وفي الوقت الذي حذّر فيه العرب من خطر ضيق الأفق والتعصّب الأعمى نبّههم إلى ضرورة خلق مجتمعات تعدّديّة منفتحة لا مكان فيها للتعصّب الديني أو العرقي. وكتب في إحدى مقالاته في هذا المجال ما يلي:

إنّكم، وإن استغوتكم السياسة واستهوتكم الأحزاب، لمن وطن واحد حسناته ذكاء ابنائه، ورأس آفاته تفرّد أبنائه. أريد بالتفرّد النزوع إلى التفريق، أو بالحري إلى العصبية، قوميّة كانت أم طائفيّة، جبلية كانت أم إقليميّة... ما زالت النعرات الطائفيّة حيّة فينا قويّة، ظاهرة كانت أم خفيّة. وهذه في نظري علّة العلل. فلا الوصاية ولا الاحتلال، ولا الضمّ ولا الانفصال، ولا الحرّية والاستقلال كبير نفع اليوم إذا كنّا لا ننهض على النزاعات الطائفية والنعرات الدينية فنقتلها وننـزع، في الأقل، غدد السمّ منها. ونزع غدد السم هو طرد الطائفية من ميدان السياسة. نزع غُدَدِ السم هو الطلاق التام بين الوطنية والدين.10

دعا الريحاني إلى تقييم متوازن للغرب، وعرّف القارئ العربيّ بالتراث الشعري الأميركي الغني، والرؤية المؤكّدة للروحانيّة التي عبر عنها دعاة المذهب المعروف بالإنجليزيّة بكلمة Transcendentalism والقائل بأن الحقائق يمكن أن تعرف عن طريق التفكير المجرّد أو التأمّل، عن طريق الذكر التعبّدي والتأمّلات الباطنيّة. فكان من هؤلاء هنري دافيد ثورو Henry David Thoreau (1817-1862) الف والدو إيمرسون Ralph Waldo Emerson (1803-1882) ووالت ويتمان Walt Whitman (1802-1848. وقد تأثّر الريحاني تأثّرًا شديدًا بكتابين لواشنطن إيرفنغ Washington Irving (1783-1859)، الأوّل بعنوان "الحمراء" Alhambra والثاني بعنوان "حياة محمّد." وجهد الريحاني في تعريف كل من الثقافتين بأفضل وأنبل ما في الأخرى من عناصر مؤملا في إيجاد نقطة التقاء ووحدة بينهما واكتشاف القاعدة الروحيّة التي تنتمي إليها كل من الثقافتين. وآمن فعلا بأن البشريّة تستطيع بهذا الأسلوب وحدة مواجهة التحدّيات الروحيّة والماديّة للعصر الحديث، وكتب في إحدى مقالاته بالعربيّة ما يلي:

حبّذا الشرقيّون والغربيّون لو اخذ بعضهم عن بعض مما هو جميل في أديانهم، صحيح في عاداتهم، سام في فنونهم، عادلّ في أحكامهم وشرائعهم، سليمٌ في أخلاقهم. إن خلاصة الصحيح السليم من ثقافةِ الشرقِ والغربِ ممزوجة موحّدة إنما هي الدواء الوحيد لأمراض هذا الزمان الدينيّة والاجتماعية والسياسية فالغربيّ عندئذ يعود إلى الله، والشرقي يرفع عن الله بعض أثقاله.11

تراسل الريحاني كثيرًا مع القيادات والشخصيّات الدينيّة والرسميّة في كل بلدان الشرق الأوسط والعالم العربي منبّها إلى الإصلاحات والسياسات التي من شأنها أن تؤدّي إلى تطوّر مجتمعاتهم وتقدّمها، فكتب إلى أعضاء الحكومة السوريّة في عام 1928 قائلاً:

  إنّي أرى أن الحكم الجمهوري هو خير الأحكام لهذه البلاد. والحكم الجمهوريّ لا يكون حقًا جمهوريّا إلا إذا تجرّد رسميّا من كل صبغة دينية. قد يكون للملكية دين رسمي يمثل بشخص الملك ومن يخلفه من أسرته، ولكن الجمهورية التي يتغيّر رئيسها كل بضع سنين لا يجوز أن يكون لها دين رسمي. إنما الوطن دين الجمهورية.

  أجل، إن ركن الجمهورية الأول والأوطد هو أن الدين لله والوطن للجميع...أستحلفكم بالله أن تبقوا الأديان خارج المجلس التأسيسيّ، خارج الدستور، وخارج الحكومة.12

  في عام 1924 خاطب الريحاني صديقه القديم المسلم الذي كان يكنُّ له كل الاحترام، الشيخ عبد القادر المغربي، بهذه العبارات:

  الفرق بيني وبينك، أيها الصديق، هو أنك تعتقد بالوحي المنزل التام الشامل، المنزه عن الأغلاط البشريّة كلّها، الصالح لكل جيل، وكلّ زمان، وأنا لا أعتقد غير نوع من الوحي الإلهي الذي يشترك فيه الأنبياء والشعراء الكبار. فهو متقطّع متنوّع في كمّيّته وكيفيّته. منه ما يصلح لكل جيل وكل مكان وكل زمان، ومنه ما لا يصلح إلا لجيل مخصوص وزمان مخصوص ومكان مخصوص، فإذا ما أتمّ وظيفته فيها أمسى بعدها كالآلة الكهربائية أو البخارية التي انقطع الاتصال بينها وبين (الموتور) أي الآلة المحركة لها. لكل أجلٍ كتاب. والكتب المقدّسة كلها، أقول كلّها، واحد في نظري...13

  تناول الآخرون من أبناء المدرسة اللبنانية الأميركية باسهاب أيضًا المشاكل التي تنشأ عندما يسيّس الدين ويصبح قوة في تصريف الشؤون العالمية. فقد كتب زميل الريحاني، ميخائيل نعيمة، مقالة تعريفيّة مضيئة عن نهضة المسيحية والمصير الذي آل إليه الدين بعد أن اعتنقه قسطنطين الكبير ما يلي:

  ... فالمسيحيّون الذين عاشوا خلال ثلاثة قرون أقلّيّة متآخية، متضامنةً على السرّاء والضرّاء، متمسّكة بالسلم، منكرة على السيف أن يكون حكما بين الناس ومضطهدة لذلك من ذوي السلطان في الأرض، عادت في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير فباعت إنجيلها بصك يحميها من الاضطهاد، ويضمن لها أن تصبح دين الدولة الرسمي إذا هي أمرت أتباعها بالقتال تحت راية الدولة، وبذلك تنازلت عن تعاليم مؤسّسها حيث يقول "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى الذين يسيئون إليكم".

  وهكذا مشى المسيحيّون في جيوش أكبر دولةٍ مستعمرة عرفها التاريخ القديم، فجعلوا من مسيحهم إمبراطورًا وهو القائل "مملكتي ليست من هذا العالم"، ووضعوا على رأسه تاجًا وهو ما تكلل بغير الشوك.

  فباتوا ودينهم دين في أعناقهم وشاهد عليهم في الأرض والسماء. وما المدنية التي شادوها، على كلّ ما فيها من روعة للعقل والعين والأذن، بدافعة عنهم جزاء خيانتهم لمسيحهم.14

  إشترك الريحاني وجبران في التعبير عن هذه المشاعر، فجاء نقدهم للدين الرسمي المؤسسي شديدًا لاذعًا. وبلغت وحدة الرؤية عند جبران والريحاني في المناداة باختطاط طريق للتغيير بدءًا بأقرب المسالك وكذلك أعمق المستويات في داخل النفس، وبروح من وحدة الفرد مع الكل. إنها وحدة الروح القائمة أساسًا على المحبّة والإيمان دينًا يعتنقه الجميع دون فوارق. فها هو جبران يرفع النداء قائلاً:

  أنت أخي وأنا أحبّك. أحبك ساجدًا في جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصلّيًا في كنيستك، فأنت وأنا أبناء دين واحد هو الروح.15

  ولعل أروع إنجازٍ للريحاني في هذا المجال أنّه استطاع أن يستهدف بنقده مفسدي الدين، مسيحيّين كانوا أم مسلمين. وفعل ذلك ببراعة وكياسة مبطّنتين، فجاء نقده قويّا وفاعلا أكثر جدّا ممّا لو كان هجوما سافرا، فهو لم يفرق بين "القلنسوة" و "العمامة"، إذ خاطب المسيحيّين والمسلمين بنفس اللهجة والأسلوب مطالبا الطرفين بخلق الألفة والتفاهم وتقبّل كل منهما الآخر، ومذكرًا أبناء وطنه المسلمين بأن دينهم كان كدينه بحاجة ماسّة إلى الإصلاح. وكان هذا نهجًا ظاهرًا وتيّارًا خفيًّا في آن معًا في كل ما كتب الريحاني، خاصة في كتابه "ملوك العرب" وفي كثيرٍ من مقالاته ورسائله.

  تحدّث الريحاني في إحدى مقالاته التي كتبها بالعربية عما شعر به الأنبياء والرسل من يأس وقنوط، وما انتابه هو شخصيًّا من يأسٍ وهو يشهد فساد الدين وانحلاله، فكتب:

  ... ووقف الأنبياء في ربيع اليأس فصرخوا من أعماق قلوبهم قائلين: سمع الإنسان كلمة الله وظل عتيّا. وآمن الإنسان وظل ضالاً. ومشى الإنسان على الاثنين وهو لا يزال في كثير من صفاته مثل ذوي الأربع. علّمناه التوحيد وهو لا يزال يقول: عيسى ومحمد وبوذا وزردشت. علمناه المحبّة وهو لا يزال يصنع المدافع والقنابل والبارود. علّمناه الرحمة والعدل وهو لا يزال، في سبيل شهواته، يطأ بقدميه القلوب الدامية.16

  لم يكن الشرق ولا الغرب في تفكير الريحاني قادرًا على ادعاء البراءة من تهمة إفساد الدين لغاياتٍ مادّية، إذ يقول:

  لله من ظُلم يُبعث في حكومات العالم الحرة! لله من تعصّب يتجدد في أديان الأمم المتمدّنة! لله من شعوب تنفر إلى الماضي لتمتص من عظام الأموات شيئًا من الحياة! لله من حياة تزداد أعباء كلّما ازداد الإنسان علمًا ونورًا! لله من شعوب في هذا الشرق تردّد كلمات التوحيد وهو عامهة في الشِّرك...17

  ويختم الريحاني بعبارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، معترفًا بالمصدر الإلهيّ الأصلي للأديان الرئيسيّة، وببارقة أمل مفادها أن الباس يمكن، على النقيض، أن يبعث على تجديد روح الدين الحقيقي من جيل إلى جيل، فيقول:

  في السماء ربّ واحد وإن تعددت أسماؤه. وعلى الأرض ناموسه، مظاهر تتجسم كل جيل في أفراد من الناس، فينيرون جادة من جادات الروح، ويفتحون للشعوب بابًا من أبواب الخلاص (الرقيّ).

  هم أزهار ذاك الربيع، ربيع يأس الأنبياء. لهم يومهم، ولهم عملهم، ولهم يأسهم المزهر المنير. ولولا ذلك لينسوا حتى من الله.

  إن يأسي لقي ربيعه، وفي هذا الربيع لكل أمة من الأمم ولكل شعب من الشعوب زهرة طيّبة الأريج.

  ولكنّي، وإن قالت أمي: العذراء، أقول: الله.

  وإن قال إخواني المسيحيّون: المسيح، أقول: الله.

  وإن قال إخواني في الشرق: بوذا، أقول الله.

  وإن قال إخواني العرب: محمّد، أقول: الله.

  وإن قال أخي الفارسي: أهورا، أقول: الله.

  وإن قال أخي الصينيُّ: كنفوشيوس: أقول: الله.

  وإنّ صوتي، وإن كان من أصوات اليأس،

  لَمِن أصوات الله.

  ولولا هذه الأصوات المرسلة من اليأس أشعّة وحياة لتجديد الأمل والجهاد، لما مشت الأجيال إلى المحجّة العليا.18

  كان الريحاني يؤمن إيمانًا صادقًا بالوحدانيّة بكلّ معناها ومغزاها: وحدانيّة الإله، وحدانية الطبيعة، ووحدانيّة الإنسان. ويوافق إيمانه بالطبيعة التقدّميّة للحقيقة الدينيّة واستمراريّة الإرشاد الإلهي تعاليم الدين البهائي التي تناولها بالحث الموسّع في "كتاب خالد". وقد أعلن الريحاني في وصيّته الأخير التي كتبها في عام 1931 أن دينه هو الإيمان بوحدة كل الأديان:

  إن من الموحّدين، وإن في مرآة توحيدي لتنعكس وجوه الأنبياء والرسل أجمعين—كنفوشيوس وبوذا وزردشت وسقراط وموسى ويسوع ومحمّد وبهاءالله ... –إنهم كلّهم لَمِن ينبوع واحد، وإن وجوههم كلها لتتآلف وتتمازج ثم تنعكس وجها واحدًا هو الرمز الأقدس لوجه الله.

  أوصيكم إذن بالتوحيد. فالدين نظريّا هو الصلة الحيّة النيّرة بين الإنسان وربّه الأوحد. والدين روحيّا هو الاستمتاع بما يكشفه الاجتهاد، دون واسطة البتّة، من مخبئات هذه الصّلة الفريدة الخفيّة. والدين عمليّا هو أولا إدراك الحقيقة الإلهية في كل من علّم الناس صفحة، بل حرفًا في كتاب الحب والبر والتقوى. ثم هو الأخذ عنهم والاقتداء بهم، فكرًا وقولاً وعملاً، كلّ على قدر طاقته. وما يحمّل الله نفسًا فوق طاقتها.19

  إن التركة التي خلفها الريحاني هي ميراثّ غنيّ تركه لنا عربيّ أميركي، وثيق الصلة بحضاراتِ الشرق والغرب، ومفكّر إنساني قدّر هذه اللحظة التاريخيّة حق قدرها. كان إنسانًا عمليّا مهتمًا غارقا في الشؤون الدنيويّة، ناذرًا حياته للعمل في سبيل خلق المجتمع المدني الضّامن لحقوق الإنسان كاملة والساعي لتقدّم العالم العربي وازدهاره ضمن المجتمع العالمي. وأدرك، فوق كل هذا، أن السبيل الوحيد للمصالحة والتعايش والوئام والسلام بين الشعوب المختلفة في أوقات الشدّة والاضطراب الاجتماعي والسياسي هو سبيل تجديد القيم الروحية الدائمة الكامنة في صميم تقاليد تلك الشعوب. ويبدو أن هذه الرسالة تكتسب أهمّيّة أكبر وضرورة أكثر إلحاحًا مع انقضاء كلّ يوم.

              

مصادر ومراجع:

1- مقتطف من: Religion & Liberty, A Publication of the Acton Institute for the Study of Religion and Liberty.

2- Jacob Isaacs, An Assessment of Twentieth Century Literature (London Secker and Warburg, 1951), p. 45.

3- أمين الريحاني: "هتاف الأودية: شعر منثور" (بيروت: دار الريحاني للطباعة والنشر، 1955)، ص 56-58.

4- أمين الريحاني: "الحقيقةُ الكُبرى" في "الريحانيّات" (بيروت: دار الجيل، 1987)، ص 359.

5- من مقدّمة غاندي لكتاب: Allama Sir Abdullah Al-Mamum Al-Suhrawardy, The Sayings of Muhammad (London: John Murray, 1941; reprint, Boston: Charles E. Tuttle Company, 1992), p. 7.

6- Hans Kung, Global Responsibility: In Search of a New World Ethic (New York: Crossroad, 1991), p. 105.

7- أمين الريحاني، "إصلاح الأمّة" في "التطرّف والاصلاح" (بيروت: مطابع صادر ريحاني، 1950)، ص 47-48.

8- أمين الريحاني: "المكاري والكاهن"، ص 38-40، نقلاً عن أمين ألبرت الريحاني: "فيلسوف الفُريكة صاحب المدينة العظمى"

 (بيروت: دار الجيل، 1987)، ص 167-168.

9- أمين الريحاني، "وادي الفريكة" في "الريحانيّات" (بيروت: دار الجيل، 1987)، ص 57.

10- أمين الريحاني: "إصلاح الأمّة" في "التطرّف والاصلاح"، ص 48.

11- أمين الريحاني: "الأخلاق" في "الريحانيات"، ص 216.

12- "رسائل أمين الريحاني: 1896-1940"، جمعها وبوّبها ألبرت الريحاني (بيروت: دار صادر، 1966)، ص 24-25.

13- المصدر السابق نفسه، ص 222.

14-ميخائيل نعيمه، "في مهبّ الريح" (بيروت: دار صادر، 1966)، ص 24-25.

15-جبران خليل جبران: "المجموعة الكاملة لمؤلّفات جبران خليل جبران العربية"، تقديم د. جميل جبر، (بيروت: دار الجيل، 1994)،

 ص 410-411.

16- أمين الريحاني، "في ذلك الزمان" في "الريحانيّات" (بيروت: دار الجيل، 1987)، ص 302.

17- المصدر السابق نفسه، ص 303.

18- المصدر السابق نفسه، ص 303-304.

19- أمين الريحاني، "وصيّتي"، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982) ص 25-26.